[ القراءات... بقلم / جبروت ابتسامة ]
الحمد لله الذي أضاء بالقرآن قلوب ، وأنزله في أعذب لفظ وأجزل أسلوب ، فأعجزت بلاغته البلغاء ، وأعيت حكمته الحكماء ، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن سيدنا محمداً رسول الله ، أرسله الله بالنور الساطع والضياء اللامع ، فهدى به الأمـة وأتم به النعمة : أنقذ الناس من بيداء الضلالة ، وأخرجهم من ظلمات الجهالة " قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين ، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم " صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين ومن اهتدى بهديه وسار على ضوئه إلى يوم الدين :
إن القرآن الكريم وقراءاته روح الأمة الإسلامية ومشكاة حضارتها فلذلك كان حقاً على المسلمين أن يعنوا بمحاسن هذا الدين العالمي من خلال دراسته كتابه المبين وقراءاته المتواترة التي وصلت إلينا غضه كما أنزلت من لدن رب العزة والجـلال بواسطة أمين وحيه جبريل -عليه السلام- على قلب خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم معجزة للعالمين .
***
نشأة القراءات
قال الله تعالى : " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " أنزله الله تعالى على رجل اصطفاه من بين عباده واختاره مهبطاً لوحيه وموضعاً لرسالته ، وإن قرآننا أنله الله تعالى وكتب على نفسه جمعه وحفظه وأن يعمل رسوله تلاوته وتجويده لهو حصن حصين من أن يمتد إليه يد الزمان بعبث وإن طال . ولا سبيل لأن يلحقه تغيير وتبديل ، وإن حاول أعداؤه النيل منه جهد المستطاع .
فقد ثبت أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يختلفون إليه ويجلسون أمامه يسمعون منه ويعون ويكتبون كل مايوحى به إليه وكانوا يتفانون في ملازمتهم للرسول صلوات الله عليه وسلامه لذلك كان بعضهم يحفظ القرآن كله وبعضهم يحفظ النصف أو أدنى منه كما أن بعضهم أخذ عنه حرفاً واحداً وبعضهم أخذ حرفين وبعضهم أخذ أكثر من ذلك .
وقد أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بقوله " أنزل القرآن على سبعة أحرف " .
وإن ذلك لرحمة من الله بعبادة وتيسير عليهم لاختلافهم في اللغات واللهجات ولما استعر القتل بالقراء في حادثة اليمامة خافوا أن يذهب كثير من القرآن بموت أهله ، فأمر أبو بكر رضي الله عنه وهو الخليفة الأول بجمعه وكان ذلك بعد أن شرح الله صدره بما أشار به عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وقد انتقلت تلك الصحف إلى الخليفة الثاني "عمر" إلى أن جاء عهد الخليفة الثالث "عثمان" . روى أنس بن مالك أن حذيفة بن اليمان كان يغزو أرمينية وأذربيجان فأفزعه اختلافهم في القرآن فقال لعثمان يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب كما اختلف اليهود والنصارى فأرسل عثمان إلى السيدة حفصة رضي الله عنها واستحضر من عندها الصحف وأمر بمراجعتها وتحقيقها ، وقال : إذا اختلفتم أنتم وزيد في شيء فاكتبوه بلسان قريش فإنه نزل بلسانهم ، وأمرهم بالرجوع إلى مافي صدور الرجال الثقات كما أمر بتجريده من الشكل والنقط ليحتمل ما صح نقله وثبتت تلاوته عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان الاعتماد على الحفظ لا على مجرد الخط وكان من جملة الأحرف التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله " أنزل القرآن على سبعة أحرف " فكتبت المصاحف على اللفظ الذي استقر عليه في العرضة الأخيرة عن رسول الله كما صرح به غير واحده من أئمة السلف ، ثم أرسلت إلى الآفاق فقرأ كل أهل بما وتلقوا ما فيه عن الصحابة الذين تلقوه عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم قاموا بذلك مقام الصحابة الذي تلقوه على يد رسول الله ثم تجرد للأخذ عن هؤلاء قوم أسهروا ليلهم في ضبطها وأتعبوا نهارهم فينقلها حتى صاروا في ذلك أئمة للاقتداء وأنجماً للاهتداء ، وأجمع أهل بلدهم على قبول قراءتهم ولم يختلف عليهم اثنان في صحبة روايتهم ودرايتهم ولتصديهم للقراءة نسبت إليهم وكان المعول فيها عليهم ومن هنا نشأ علم القراءات واختلافها في الواقع في حدود السبعة الأحرف التي نزل عليها القرآن وكل من عند الله لا من عند الرسول ولا من عند أحد من القراء . ثم إن القراء بعد هـؤلاء كثروا في البلاد وانتشروا ، وخلفهم أمم بعد أمم عرفت طبقاتهم واختلفت صفاتهم فكان منهم المتقن للتلاوة المشهور بالرواية والدراية ومنهم المحصل لوصف واحد .
***
تدوين القراءات
إن اختلاف هذه القراءات دليل واضح على أن هذا الاختلاف مع كثرته وتنوعه لم يتطرق إليه تضاد ولا تناقض بل كله يصدق بعضه بعضاً ويشهد بعضه لبعض على نمط واحد وأسلوب واحد مع الروعة وجمال الاتساق وكمال الإعجاز " ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيرا "
فضلا عما في ذلك من التيسير والتسهيل على الأمة وعظيم الأجر لمن اشتغل به واستخرج كمين أسراره وخفى إشاراته ومن هنا عنى أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم بحفظـه وإتقانـه والإحاطة بما صح من قراءاته وثبت من رواياته عناية كانت هي محط أنظارهم والمحل الأول من شئونهم وحذا حذوهم في ذلك من التابعون وتابعو التابعين . ولقد تفرغ قوم للقراءة وتجردوا لها فاشتدت عنايتهم حتى صاروا أئمة القراءات يتلقاها الناس عنهم في كل الأمصار ويقتدى بهم في مدن الإسلام ولقد كان هـؤلاء الأئمة في المدينة وفي مكة وفي الكوفة وفي البصرة وفي الشام . ثم إن القراء بعد ذلك كثروا وتفرقوا وانتشروا في الأفاق وكثر بسبب ذلك الاختلاف وقل الضبط واتسع الخرق وكاد الباطل يلتبس بالحق ، فقام جهابذة الأمة وبالغوا في الاجتهاد وجمعوا الحروف والقراءات وعزوا الوجوه والروايات ، وميزوا الصحيح والشاذ بأصول بينوها وقواعد وضعوها فمن ذلك قولهم :
كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه ، وافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالاً ، وصح سندها ، فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها ولا يحل إنكارها بل هي من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن ووجب على الناس قبولها .- إلى أن قال : ومتى اختل ركن من هذه الأركان الثلاثة أطلق عليها ضعيفة أو شاذة أو باطلة ، صرح بذلك الإمام الحافظ أبو عمرو وغيره .



رد مع اقتباس

المفضلات