وقفات لابد منها

الوقفة الثانية

فضل الدعوة إلى الله عز وجل

المتأمل كذلك لقصص هؤلاء التائبين ،منهم من قتل أمه ومنهم من قتل أباه ،ومنهم من قتل أكثر من نفس ومنهم من قارف كل الكبائر ،والوقوع في هذه المعاصي بسبب قسوة القلب ،وخرابه من الخير،وتمكن الشيطان منه،فكيف انتقل هؤلاء من هذه الحفرة العميقة إلى أرقى العبادات وأسباب الدرجات من القيام والصيام وتلاوة القرآن ،وإنما كان ذلك بفضل الله ،ثم ببركة الدعوة الصحيحة وإخلاص الداعي ,فالدعوة أشرف وظيفة يمكن أن يتوظف فيها العباد لأنها وظيفة الرسل .. "قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي"

وقد أناط الله عز وجل الفلاح بالقائمين بالدعوة فقال تعالى : "وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُون إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ"

وبين الله أن سبب خيرية هذه الأمة هو القيام بهذه المهمة ،فقال تعالى : "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَت لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ "

وقال النبي عليه الصلاة والسلام في بيان ثواب الدعوة : (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ) رواه مسلم .

وقال صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب : (فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم ) -رواه البخاري-

وحمر النعم هي الإبل الحمراء ،وهي أنفس الأموال عند العرب فانظر إلى هذه الدعوة الصحيحة كيف ارتفعت بهؤلاء من هوة سحيقة إلى قمة عالية ،وللأسف كم من إنسان ينفذ فيه حكم الإعدام وهو آيس من رحمة الله،لم يوفق لتوبة ,ثم كم من شاب تائه سادر ساه لا يعرف ربه ولا يعبده بأمره ونهيه ,غارق في الشهوات أو مطموس القلب بالشبهات ,لو تيسرت له دعوة صحيحة من داعية صادق مخلص لتغيرت حياته وأشرق ساحاته،ولصار من جند الله المخلص ,الذي يبذل لإعزاز دين الله -عز وجل - ،ورفع رايته ،فيا له من دين لو وجد له رجال يقومون به فيقوم بهم ,ويعزوه فيعزهم الله به ،فما أحوج المسلمين إلى دعاة صادقين يهدونهم إلى طريق الله ويحيونهم بدينه فدين الله هو الروح وهو النور .

قال تعالى : (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)

فكيف يكون حال الجسد إذا فقد الرنور والروح ..؟!

قال تعالى : (فَمَنْ يُرِدِ اللَّه أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ )

فالذي يصعد في السماء يختنق لقلة ضغط الهواء في الطبقات العليا وقلة نقص الأكسجين.

فحاجة الناس إلى شرع الله أكثر من حاجتهم إلى هذا الهواء الذي تنشرح به قلوبهم ,لأنه من عدم الهواء يختنق فيموت ويفقد الدنيا ,ومن حرم الإسلام خنق أيضا ولكنه لا يفقد الحياة الدنيا وحدها ,ولكنه يفقد الدنيا والآخرة..

قال رسول الله : (نَضَّرَ اللَّه امْرَأَ سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَبَلَّغَهُ إلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهُ ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ) -رواه أحمد والترمذي -

والدعوة أكبر من أن يقوم بها شخص بمفرده أو أشخاص متناثرون ,بل لابد من التعاون عليها كما قال تعالى : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمأُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ)

وقال -عز وجل-: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِر وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ )

فإذا أثرت الدعوة الصادقة في القلوب التي وقع أصحابها في هذه الكبائر ،فكيف يكون أثرها في الشباب التائه الذي يجهل طريق الهداية ،والذي قارف صغائر الإثم ولم يصل للكبائر ،فضلا عن أكبر الكبائر.

قال سفيان بن عيينه :أشرف الناس منزلة من كان بين الله وبين عباده وهم الأنبياء والعلماء.

فمن فوائد هذه القصص شحذ همم الدعاة إلى الله -عز وجل-لبذل غاية جهدهم في الدعوة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الشباب الذي يحتاج إلى بصيص من النور فإذا به من أسبق الناس إلى الطاعة والاستجابة لأوامر الله والرسول ,خاصة في السجون والمعتقلات حيث البعد عن زخارف الدنيا وزينتها ومشاغلها ,فيتسنى للدعاة أن يمارسوا دعوتهم داخل الأسوار ,فإذا الثمار كثيرة وطيبة ،خاصة مع صدق الداعي وإخلاصه وكذلك نعمة الصحة والفراغ وهما متوافران في هذه الأماكن ..

ولما سجن العلاقة المحقق ابن قيم الحوزية مع شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية سجد على باب السجن سجودا طويلا ،صم رفع رأسه وقال الحمد لله الذي أزاح عني الشواغل ،وفرغني لذكره وعبادته.

وكان شيخ الإسلام -رحمه الله- يقول :لو أملك ملئ القلعة ذهبا ما استطعت أن أكافئهم على ما قدموه لي من خير.

وكان يكثر أن يقول في سجوده وهو مسجون : اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.

ولما أُدخل القلعة نظر خلف الباب وقال :فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب.

وكان يقول :المحبوس من حبس قلبه عن ربه ,والمأسور من أسره هواه.
وقد اختار يوسف- عليه السلام- السجن عن الحياة في قصر عزيز مصر حيث الاختلاط والتبرج والكر به من أجل إيقاعه في المعصية.
فقال عليه السلام : (ربِّ السِّجْن أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ)

ولما دخل السجن مارس الدعوة إلى الله فقال : (يَا صَاحِبَي السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ)

فنسأل الله أن لايحرمنا من شرف الدعوة إليه ,وأن يحشرنا مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.