إن رحم "آمنة بنت وهب" من أشرف الأرحام وأسماها وأعلاها, إذ استقرت فيه نطفة كريمة عظيمة,
ما زالت تتقلب في الأصلاب - أصلاب الرجال - بتدبير وتقدير من الباري عز وجل حتى استفرغها
"عبدالله بن عبدالمطلب", فتى قريش, الذي فاق أقرانه دلالاً وجلالاً وجمالاً ..,
والذي كان نور النبوة يتلألأ بين عينيه, ويشع من ناظريه, ويسري في كيانه ..,
والذي كان فديته من الذبح - براً بقسم والده - أغلى ما عرفه وعهده العرب.
وذلك من أجل أن يبقى الاصطفاء الإلهي حقيقة قائمة, راسخة في قلب التاريخ البشري, شاهدة على
الإرادة الربانية المطلقة, لا تبديل لكلماته ولا راد لقضائه.
قال الله تعالى: { إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين*ذرية بعضها من
بعض والله سميع عليم } [آل عمران: 33, 34]
وانصرف "عبدالله" مع أبيه عبدالمطلب بعد الإفتداء من الذبح وقد ازداد إشراقاً ..,
فلقيته عند الكعبة امرأة من بني أسد بن عبد العزى فقالت له حين نظرت إلى وجهه الذي يتلألأ بنور
النبوة: لك مثل الإبل التي نحرت عنك وقع علي الآن ..!؟ .... فقال:
أما الحـــرام فالممات دونه *** والحل لا حـــل فأستبينه
يحمي الكريم عرضه ودينه *** فكيف بالأمر الذي تبغينه
ثم وقع اختيار "عبدالمطلب" على "آمنة بنت وهب - الزهرية", من بني زهرة, زوجة لوليده "عبدالله"
وهي يومئذٍ أفضل امرأة في قريش نسباً وموضعاً.
ولقد رأت "عبدالله" أيضاً كاهنة من تبالة, كانت قد قرأت في الكتب يقال لها: فاطمة بنت مر - الخثعمية,
وكانت من أجمل نساء العرب وأعفهن, فرأت في وجهه نور النبوة, فعرضت نفسها عليه, فأبى ..,
كانت الإرهاصات بنبي من ولد اسماعيل - عليه السلام - تنتشر بين العرب جميعاً من أقصى الجزيرة
إلى أقصاها, اتقاءً مما عرف من أهل الكتاب وعلمهم وما ورد في توارتهم تصصريحاً أو تلميحاً, وكذلك
ما كان يردده الكهان والمنجمون.
ولقد أحاطت بــ "عبدالله بن عبدالمطلب" ظروف في النشأة والشباب وبهاء الطلعة
وروعة الاطلالة, وعفة النفس, وسمو الخلق, والنور غير المعهود والمألوف ..,
ما كان يدعو بعض النساء والفتيات إلى أن يكنّ أصحاب الحظوة منه.
وتم الزواج ... واقترن "عبدالله" بــ "آمنه"
واستقرت النطفة الشريفة في رحم "آمنة".
وأدى رسالته التي خصه الله بها .. وكفى ..والقدر في يد من يصرف القدر - سبحانه.
فبعد أشهر من الحمل, قام "عبدالله" برحلة إلى الشام, وفي أثناء أوبته وقع فريسة المرض,
فأقام عند أخواله في يثرب, من بني النجار, يرعونه ويكلؤونه.
لكنه ما لبث أن توفاه الله تعالى إليه, فتأيمت آمنه, وحزنت أشد الحزن على "عبدالله" الذي ما أقامت معه
إلا أشهراً قلائل .. معدودة, وبكت أعظم البكاء, وانتحبت أقسى نحيب ...,
لقد كان الفراق صعباً ..,
وأصعب منه حركة الجنين في بطنها ..!؟
إنه يتيم من قبل أن يولد وتفتح عيناه على الحياة !!
ذلك مبلغها من الألم النفسي والقهر الوجداني لكنها كان لها عزاء ..! من ذاتها,
فقد كانت جلدة صابرة.
ومن "عبدالمطلب" الذي كان يرعاها ويحنو عليها, ويعطف .., ولا يفارقها إلا لشأن خاص.
وأعظم العزاء لها كان الجنين, فما كانت لتجد ثقلاً, ولا اضطراباً ولا انزعاجاً, بدنياً أو نفسياً ..,
بل على العكس من ذلك ..
كانت تجد الراحة والهناء, وتحس بأنها كيان آخر, فيه ارتفاع وسمو عن مادية البشر ودنياهم,
كأنها الطيف يحلق ويحوم.
أتاها آتٍ في المنام يقول لها: ( أنتي حملتي بسيد هذه الأمة ونبيها ).
وأتاها مرة آخرى قبل الولادة فقال لها: ( قولي إذا ولدتيه: أعيذه بالواحد من شر كل حاسد,
ثم سميه محمداً ).
وهكذا توالت الرؤى على "آمنه", ولأكثر من مرة, تبشرها وتثبتها وتصبرها, وتعزيها,
وتواسيها, وترفع من شأنها, وشأن ما تحمل في بطنها وكان يوم الوضع مشهوداً ...
كان ليلة الثاني عشر من ربيع الأولى, ومع الفجر ...!
وهذا الآوان والوقت له دلالته ومغزاه ومعناه, وأبعاده في آفاق الزمان, إنه فجر الإنسانية
يسفح ظلمة الجهل,
وظلام التراكمات الإنحرافية عن الصراط المستقيم, وظلم البشر لأنفسهم ولبعضهم ...!
وإنه الربيع ..,
بعد زمهرير الشتاء وزوابعه وقصفه ورعوده, وقتامة سحابه وغيومه, وبعد جوفة الصيف بقيظه
وحره ولفحه ..,
وبعد جفاف الخريف وتعري الطبيعة ... وتقلبها ... تقول "آمنة":
- لما وضعته خرج معه نور أضاء ما بين المشرق والمغرب, فأضاءت له قصور الشام وأسواقها,
حتى رأيت أعناق الإبل في بصره.
ورأيت ثلاثة أعلام مضروبات: علماً بالمشرق وعلماً بالمغرب, وعلماً على ظهر الكعبة.
وحضر "عبدالمطلب" جده صلى الله عليه وسلم فحمله وخرج به إلى الكعبة, يطيفه بها ويردد:
الحمد لله الذي أعطاني *** هذا الغلام العظيم الشأن
أعيذه بالله والأركـــــــان
حان الوقت التي كانت "آمنة" تترقبه حيث بلغ "محمدٌ" السادسة من عمره بعد العناية الفائقة له من والدته.
وظهرت عليه بوادر النضج. فصحبته إلى أخوال أبيه المقيمين في يثرب ولمشاهدة قبر فقيدهما الغالي،
وعندما وصلت إلى قبر زوجها عكفت هناك ما يقارب شهرا كاملا ، وهي تنوح وتتذكر الأيام
الخوالي التي جمعتها مع زوجها بينما "محمد" يلهو ويلعب مع أخواله.
تعبت "آمنة" في طريقها بين البلدتين إثر عاصفة حارة وقوية هبت عليهم. فشعرت "آمنة" بأن أجلها قد
حان فكانت تهمس بأنها سوف تموت، ولكنها تركت غلاماً طاهراً، ثم أخذها الموت من بين ذراعي
ولدها الصغير وفارقت هذه الدنيا.
وانهلت أعين الطفل بالبكاء بين ذراعي أمه، فهو -بعد - لا يدرك معنى الموت, فأخذته " أم أيمن"
فضمته المسكينة إلى صدرها وأخذ تحاول أن تفهمه معنى الموت حتى يفهمه.
وعاد اليتم الصغير إلى مكة حاملا في قلبه الصغير الحزن والألم ، ورأى بعينيه مشهد موت أعز الناس
وأقربهم إلى قلبه؛ أمه "آمنة" التي يصعب عليه فراقها.
,,, انتهى ,,,



رد مع اقتباس


المفضلات