ما أحوج مسلمات اليوم أن يقرأن سيرة زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ليدركن البون الشاسع
بينهن وبين الرعيل الأول الذي تحمل مسؤوليته في حياة الأمة كاملة, فكانت حياتهن رضي الله عنهن
جميعاً مصابيح تشع هدىً ونوراً فتضيء الكون كله.
"خديجة" هي بنت خويلد بن نوفل زعيم بني أسد بن عبد العزى شقيق عبد مناف وحليفه, إليه ينتهي
الفضل والكرم والسيادة بين قومه وعشيرته, وكان له أخ اسمه "ورقة", اشتهر بين الناس بالحكمة
وسداد الرأي.
تزوج "خويلد" من "فاطمة" القرشية أجمل سيدات مكة وأكثرهن صباحة وجه, وروعة حسن فولدت
له "خديجة" فكانت صورة عن والدتها, فقد ورثت عنها الجمال الرائع والحسن الفتان, كما ورثت عن
والدها "خويلد" الحزم والذكاء, وعن عمها "ورقة" العلم والحكمة.
نشأت "خديجة" رضي الله عنها في بيت طاهر كريم مترف, ولما بلغت الخامسة عشرة من عمرها
خطبها "أبو هالة بن زرارة التميمي" فتى قومه بني تميم وأكثرهم مالاً وأوسعهم ثراءً, فعاشت معه تقدره
ويقدرها, وولدت له بنتين هما "هالة" و"هند", ولكن القدر عجل بوفاة الأب قبل أن تشب الطفلتان عن
الطوق, وخلف لأسرته ثروة طائلة.
ولما عرف عنها من حسن الخلق, تنافس فتيان العرب على الاقتران بها, وفاز من بينهم "عتيق بن عائذ"
فتى بني مخزوم, وكان القدر بالمرصاد أيضاً, فاختطفت يد المنون "عتيقاً" دون أن يترك ولداً.
مات "عتيق" وقد ترك لزوجته مالاً وفيراً, فقامت على إدارتها وتوجيهها بما أوتيته من خبرة ومعرفة
وذكاء, واستطاعت أن تمضي في دروب الحياة وتشقها بمنتهى الحكمة والفطنة, وكانت كلما تقدم إليها
خاطب ردته بأدب ولباقة, عازفة عن الزواج, لأنها قد مرت من قبل بتجربتين مريرتين.
لكن شهرتها رضي الله عنها لم تقف عند حد المال والجمال, بل تعدت ذلك إلى سيرتها التي كانت
نبراساً لكل فتاة ولكل أم فعرفت بين القاصي والداني بلقبي الطاهرة, وسيدة قريش.
وكانت يد العناية الإلهية هي التي تدبر وتصرف وتوجه وتعد "خديجة" لأن تكون بعد زمن يسير
المسلمة الأولى وأم المؤمنين وسيدة نساء العالمين, والزوجة المجاهدة الصابرة.
كان الأمين صلى الله عليه وسلم حديث الناس في مكة, يقدر الجميع صفاته وأخلاقه, ويحترمون أمانته
وورعه, ويكبرون صدقه وصواب رأيه, وكانت "خديجة" رضي الله عنها ممن يستمعون إلى أخباره
وأنبائه بإعجاب مشوب بلهفة, وكثيراً ما حدثها بذلك "خزيمة" ابن عمها, صديق محمد صلى الله عليه
وسلم ورفيقه.
فوجدت نفسها يوماً ترسل رسولها إلى "أبي طالب" تعرض عليه عرضاً سخياً مقابل أن يتولى محمد
صلى الله عليه وسلم أمر تجارتها, ورضي محمد صلى الله عليه وسلم بذلك واستبشر خيراً بأفق جديد
ينفتح له من آفاق الحياة الرحبة, وتهيأ للرحيل.
لكن "أبا طالب" كان شديد القلق على ابن أخيه, فأتى إلى "ميسرة" غلام "خديجة" يحذره, ويوصيه
"بمحمد", فتركز اهتمام "ميسرة" على "محمد" يراقبه احتراماً وتنفيذاً لوصية "أبي طالب".
ولقد رأى "ميسرة" من أمر "محمد" ما لا يمكن أن يستهان به, رأى السماء تظله بظلها حين يشتد لهيب
الشمس, وغمامة تتبعه في تنقلاته لتحميه من القيظ الشديد, وعندما آوى إلى شجرة ليستريح في بعض
ظلها أورقت واخضرت وزهت, فازداد حرصه عليه ورعايته له في الحل والترحال.
عادت القافلة إلى البلد الحرام, وقد نفقت بضاعتها, وكثرت غلتها وكان ربحها كثيراً وفيراً, قابل "محمد"
بـ "خديجة" وأفضى إليها بوقائع الرحلة وانصرف, ثم أقبل غلامها "ميسرة" يحدثها ويصفي شؤون
القافلة المالية, وكان ما ربحته يفوق أضعاف ما كانت تكسبه في المرات السابقة, ولا يفوت "ميسرة" أن
يحدثها عن فضل "محمد" في ذلك ثم يفيض في سرد ما رآه من أمره ..., و "خديجة" في كل ذلك
سماعة له, مصغية بكل جوارحها وعواطفها إليه ..., ثم تستزيده فيزيدها.
وما كانت لتنسى أبداً وهي في حالتها هذه ما رأته في منامها منذ أمد إذ رأت شمساً عظيمة مضيئة أشد
ما يكون الضوء جمالا وجلالاً وسطوعاً تهبط إلى دارها من سماء مكة فيغمر ضوؤها ما يحيط به من
أماكن وبقاع, وعلى اثر ذلك سعت إلى ابن عمها "ورقة بن نوفل" العابد الزاهد, تقص عليه الرؤيا
فيقول لها: لك البشرى يا "خديجة", يا ابنة عم فهذه الشمس المضيئة علامة على قرب مجيء النبي
الذي أطل زمانه, ودخولها في دارك دليل على أنك أنت التي ستتزوجين منه.
فكرت ملياً, ثم استقر رأيها على قرار ..., مضت إلى دار ابن عمها "ورقة" وحدثته بحديث "ميسرة"
عن "محمد" فهتف "ورقة":
قدوس, قدوس, لقد قرب الأوان, واستدار الزمان, وآن لمكة أن تهد الآية الكبرى.
ثم أبدت رغبتها في الاقتران من "محمد" فوافقها "ورقة", وعادت إلى دارها وأرسلت "نفيسة بنت منبه"
إلى "محمد" تذكرها عنده وتعرض عليه نفسها, فقال صلى الله عليه وسلم لـ "نفيسة" بعد أن رغبته في
الزواج: ما بيدي ما أتزوج به ؟
فقالت "نفيسة": فإن كفيت ذلك, ودعيت إلى الجمال والمال والشرف, ألا تجيب؟
قال: فمن هي؟
قالت: "خديجة" ...
قال: بنت خويلد؟
قالت: نعم
قال في ابتهاج: وكيف لي بذلك؟
قالت: فأنا أفعل
فقال: وأنا قد رضيت.
عمت الفرحة بيوت الهاشميين, وتناقل الناس النبأ العظيم, وتأسس البيت النبوي المبارك, وكانت "خديجة"
رضي الله عنها يوم ذاك في الأربعين من عمرها والنبي صلى الله عليه وسلم في الخامسة والعشرين.
مرت أيام الحياة بـ "محمد" و"خديجة" على أهنأ ما تكون, فقد كان الزواج في حقيقته زواج عقل راجح
إلى عقل راجح, وأدب جم وطيب خلق إلى مثله, وبعد مرور عام وبعض عام أنجبت "خديجة" رضي
الله عنها "زينب" كبرى بنات النبي, وبعد ذلك بعام وضعت "رقية", ثم عقبتها "أم كلثوم" ثالثة النجوم.
وتهامس الناس في أندية قريش بأن "محمداً" لا يلد إلا البنات, وحين دخل العام العاشر من الزواج كانت
قد حملت "خديجة", وتمنى المحبون أن يكون المولود ذكراً.
وحلت في ذلك العام بقريش كارثة, إذا احترقت أستار الكعبة, ومر بها جارف وصدع جوانبها, فتنافس
الناس في البناء .., فكان قضية الحجر الأسود الذي عين رسول الله صلى الله عليه وسلم حاكماً فيما
بينهم, وبحكمته البالغة حقن دماء العرب, ثم غادرهم إلى بيته قلق البال على زوجته التي تعاني من آلام
الوضع, وعلى مشارف البيت الكريم تلقى البشرى, لقد وضعت "خديجة" الوليدة الجديدة
"فاطمة الزهراء".
أخذت "خديجة" تلاحظ سمات جديدة تعلو وجه النبي الكريم, وصمتاً طويلاً عميقاً يلازمه, وتأملاً شديداً
يسرح به, وهو مع هذا يزداد تألقاً وصفاءً ويشع نوراً وبهاءً, فأحست بقرارة نفسها وبصدق حدسها أن
الأمر جلل .., فوفرت للنبي صلى الله عليه وسلم كل أسباب الصفاء, وما عكرت عليه أبداً خلواته
وتأملاته, وعندما أهل هلال رمضان, كان انصراف النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه وخلواته وتأملاته
أشد وأبلغ, وفي يوم خالد كريم, وفي ليلة القدر نادى المنادي: هذا يوم البشرى ...
ثم هبط "جبريل عليه السلام" بالأمر المبين إلى الرسول الأمين قائلاً له: اقرأ
وبعد هذا اللقاء رجع الرسول إلى "خديجة" وهو يقول: زملوني, زملوني.
فانصاعت لطلبه وزملته في دثاره وهي تقول:
أبشر يا ابن عمي واثبت, فقد أريد بك الخير العظيم, وإنك والله لأهل لكل خير, والله لا يخزيك أبداً,
إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث وتحمل الكل, وتقري الضيف, وتعين على النوائب.
ومازالت به حتى طعم وشرب وضحك, وذهب روعه, ثم اجتمع الزوجان بـ "ورقة بن نوفل" فحدثه
النبي صلى الله عليه وسلم بحديثه وشأنه, وما أن فرغ حتى هتف "ورقة":
قدوس, قدوس, والذي نفس "ورقة" بيده لقد جاءك الناموس الأعظم الذي كان يأتي "موسى", وليتني
أكون حياً إذ يخرجك قومك.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أو مخرجي هم؟
قال "ورقة":
نعم, لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي, وغن يدركني يومك فأنصرك نصراً مؤزراً.
أسلمت "خديجة" وآمنت الزوجة الوفية, فانطلقت باذلة الغالي النفيس لأجله.
وامتدت يد قريش إلى تجارة "خديجة" تنال منها, فكانت رضي الله عنها تتقبل كل ذلك راضية مرضية,
فيأتي "جبريل عليه السلام" من السماء حاملاً البشرى إلى المؤمنة الصابرة, فيخبرها رسول الله صلى
الله عليه وسلم قائلاً:
لقد أمرني "جبريل عليه السلام" أن أقرئك السلام, والله تعالى يبشرك ببيت في الجنة من قصب ذهب
لا صخب فيه ولا نصب.
لم تفلح وسائل قريش أبداً في فل عزيمة النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه, فلجأت إلى سلاح جديد هو
سلاح المقاطعة, فلا مجالسة, ولا مبايعة, ولا شراء, ولا مزاوجة, ولا مخاطبة مع الهاشميين وأنصارهم
حتى يسلموهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقتلوه.
فكانت لـ "خديجة" في سنوات المحنة فضل كبير, كانت تواسي نساء المسلمين بنفسها ومالها, وتغدق
عليهم من فيض حنانها, وتنفق إنفاق من لا يخاف فقراً ولا شحاً.
ثم انهارت مقاومة قريش, وعاد المسلمون إلى مكة, وهم أصلب عوداً وأشد مضاء.
وفي عام واحد أصيب الرسول بحادثين جللين جعله يسمي ذلك العام عام حزن.
فقد توفي عمه "أبو طالب" الذي كان درعه الواقية, وذرف الرسول صلى الله عليه وسلم الدموع
الغزيرة, لقد مات الرجل الذي كفله صغيراً, ورعاه يافعاً, وحماه نبياً, ثم لحقته "خديجة" ...,
لقد أوهنت سنوات الحصار جسد النبيلة والمجاهدة الطاهرة, فسقطت صريعة المرض, وأحس النبي
بالحزن والأسى, ثم دنا منها رسول الله صلى الله عليه وسلم باكياً وهو يقول:
ما أمر الفراق يا "خديجة", سيكون اللقاء في الجنة, في قصرك يا "خديجة" الذي أعده الله لك في
لؤلؤ مضيء.
فتجيبه الصديقة مع آخر نسمة من نسمات الحياة: إن شاء الله ...
ويبكي النبي صلى الله عليه وسلم, وتبكي بناته, ويخلو البيت الكريم من الشعلة الإيمانية التي أضاءت
حياته وآفاقه ثمانية وعشرين عاماً.
ولحقت "خديجة" رضي الله عنها بالرفيق الأعلى, مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين
والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
,,, انتهى ,,,
المفضلات