{ ألم يجدك يتيماً فئاوى }

تفتحت عيناه صلى الله عليه وسلم على الدنيا محروماً من عطف الأب وفي السادسة من عمره,
أضحى يتيم الأب والأم.
وكان فيما ورثه عن أبيه "عبدالله" خمسة جمال, وعدد قليل من الغنم, وجارية يقال لها "بركة".
كانت هذه الأمة الحبشية, حين ظهر اليتيم على هذه الأرض فتاة في ريعان الشباب, وكانت تحن إلى
وطنها القديم, وتضيق ذرعاً بوطنها الجديد, وبهذا الرق الذي ابتليت به وهي في مطلع حياتها.
تطمئن نفسها حيناً عندما تجد نفسها بين قوم أعزة كرام, يحسنون معاملتها, ولا ترى منهم إلا
كل رقة وحنان.
ولكنها من ناحية أخرى تضطرب اضطراباً عنيفاً حينما تشعر بهذه الحياة الذليلة, حياة الرق والعبودية
التي سيقت إليها سوقاً من دون أن يكون لها في ذلك أي اختيار, ولا تستطيع أن تغير منه شيئاً.
واستمرت هذه حالها, إلى أن أذن الله تبارك وتعالى بإشراق نور ذلك اليتيم الذي ما إن نعمت الأرض
بوجوده حتى تبدل في نفسها كل شيء, وألقى الله في قلبها حباً له هيهات أن يكون حب الأم أعمق منه
جذوراً, وأكثر منه تغلغلاً في حبات القلوب.

لقد ابتسمت لها الحياة بعد عبوس, وغشيها النور بعد حالك الظلام.


ووجدت في الوليد اليتيم أكبر عزاء لها عن شقاء كانت تعانيه, ولكن شاء الله وشاءت التقاليد أن ينقطع
هذا السيل من طمأنينة النفس وارتياحها فإذا بالمرضع تقبل لانتزاع الطفل اليتيم من حضن أمه وحضنها,
فاستولى عليها من الغم لهذا الرحيل المفاجئ ما زلزل كيانها وغمرها بكثير من الحزن والآسى.
لكنها عزت نفسها ما شهدته من أمه من صبر وجلد على هذا الفراق الأليم.
وما أن انقضت فترة الرضاعة حتى عاد إلى كتف جده وامه وحاضنته فلقي من العطف والرعاية
ما تقر به عين الطفل اليتيم, وبعد أن فقد امه كما فقد اباه, خلص الطفل لحاضنته, فوقفت نفسها لرعايته
وغمرته بحبها واخلاصها وحنانها.


هي بركة بنت ثعلبه بن عمر بن حصن بن مالك بن عمر النعمان.
كانت حاضنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تقوم على خدمته ورعايته والاعتناء به صغيراً والحدب
عليه, وكان يجد لديها الصدر الحنون, والكلمة الطيبة والحب الكبير, فشب في بيت عمه "أبي طالب"
وهو يناديها: يا أمه, إذ كانت رضي الله عنها بمثابة الأم له, تقوم على شؤونه وتدبير أموره, وكان كلما
نظر إليها تذكر طفولته, وذكر معها ما رافق تلك الطفولة من أحداث, فيضع يده عليها مربتاً
قائلاً: هذه بقية أهل بيتي.


وعندما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم من "خديجة بنت خويلد" أعتق حاضنته "بركة", فتزوجت
من "عبيد بن زيد" وولدت منه ولدها "أيمن" وظلت تتردد على رسول الله صلى الله عليه وسلم, كما أنه
صلى الله عليه وسلم كان يزورها وفاءً منه لمن كانت له أماً بعد أمه, يزورها ليطمئن عليها, ويأنس إليها.
ولما نبئ رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا إلى الإسلام كانت "أم أيمن" من السابقات إلى الإستجابة
والانخراط في موكب الايمان, لكن زوجها "عبيد بن زيد" أبى ان يسلم, ففرق الاسلام بينها وبينه.
فزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم من مولاه "زيد بن حارثة" ذلك الشاب الذي رفض أن يعود مع
أبيه وعمه, وآثر ان يبقى إلى جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم, مفضلاً أخوة الايمان ونسب
الاسلام على ما عداه.
حملت "بركة" من "زيد" فولدت له ابنه "اسامة", وكلاهما له من تاريخ الدعوة نصيب,
ومع الجهاد في سبيل الله حيز.


ولزواج "زيد" من "بركة" أحدوثة لطيفة جديرة بالذكر والبيان, إذا كانت "أم أيمن" تأتي بيت رسول
الله صلى الله عليه وسلم زائرة متفقدة ساعية, تتلطف إليه وتقوم على خدمته, ومرةً كان "زيد" في
البيت فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
( من سرّه أن يتزوج امرأة من أهل الجنة فليتزوج أم أيمن ).
فما أسرع ما وقعت كلمة النبي صلى الله عليه وسلم موقع القبول والرضى من نفس "زيد", ...
وتزوج "أم أيمن".
ولقد أولى النبي صلى الله عليه وسلم "اسامة بن زيد" نفس الحب الذي كان يوليه لأبيه, ولقد تبدى هذا
الحب في كثير من تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم نحو "اسامة" قولاً وفعلاً.


أخبرنا أبو اسامة, يعني حماد بن اسامة, عن جرير بن حازم قال: سمعت عثمان بن القاسم يحدث قال:
- لما هاجرت "أم أيمن" امست بالمنصرف دون الروحاء فعطشت وليس معها ماء, وهي صائمة,
فجهدها العطش, فدلي عليها من السماء دلو من ماء برشاء أبيض, فشربت منه حتى رويت
فكانت تقول: ما أصابني بعد ذلك عطش, ولقد تعرضت للعطش بالصوم في الهواجر فما عطشت بعد
تلك الشربة, وإن كنت لأصوم في اليوم الحار فما اعطش.


وكان من شأن النبي صلى الله عليه وسلم مع "أم أيمن" الممزاحة البريئه, إذ كان يمزح ولا يقول إلا حقا.
جاءت إليه "أم أيمن" قبل الهجرة تقول: احملني يا رسول الله.
أي تطلب إليه صلى الله عليه وسلم أن يدبر لها ركوباً,
فقال لها توريةً: أحملك على ولد الناقة.
فقالت: يا رسول الله إنه لا يطيقني ولا أريده !!! ظانة أنه صلى الله عليه وسلم سيقدم لها جملاً صغيراً حديث الولادة, وهو يعني أن الجمل حتى ولو كان مسناً فهو ولد الناقة.
فقال لها: لا احملك إلا على ولد الناقة.
فكان صلى الله عليه وسلم يمازحها, متلطفاً متحبباً متودداً.


كانت رضي الله عنها تنطق الكلمة أحياناً فيتلجلج بها لسانها, فتنحرف عن معناها, وقد تنقلب العكس,
تدخل -مثلاً- على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقول: لا سلام, أو تقول: لا سلام عليكم, وقد رخص لها النبي صلى الله عليه وسلم أن تقول: السلام ... وتكتفي منها بذلك.
وكما حدث يوم حنين إذ وقفت تدعوا للمسلمين قائلةً: سبت الله أقدامكم.
فسمعها النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها: اسكتي يا "أم أيمن" فإنكِ عسراء اللسان.


كانت رضي الله عنها تخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم في أكثر غزواته, محتسبة نفسها عند الله
تعالى, وأجرها عليه سبحانه, وكانت مهمتها في تلك الغزوات أن تقوم على سقاية الماء للعطاش من
المجاهدين, ومداواة جراحهم الاعتناء بهم.
فشهدت احداً وخيبر وحنيناً, وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخصها ببعض العطاء, تعويضاً لها
ومكافئةً على ما تقدمه من جهد وجهاد.


مرض النبي صلى الله عليه وسلم فكانت "أم أيمن" تعوده وتواسيه وقد تذرف بعض الدموع
ولكن بمنأى عنه صلى الله عليه وسلم.
فلما فاضت روحه الطاهره ولحق بالرفيق الاعلى بكت رضي الله عنها بكاءاً حاراً, وأرسلت عبراتها
سخيةً مدرارا, فقيل لها: اتبكين ؟؟
والسؤال هنا من الناس ليس من قبيل التعجب, ولكنه سؤال المؤمنين بقدر الله وقضاءه.
فأجابتهم رضي الله عنها: إي والله, لقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيموت,
ولكني إنما أبكي على الوحي إذ انقطع عنا من السماء.

إن الدافع إلى البكاء يختلف عند الناس بختلاف الصله التي تربطهم بمن فقدوه, ولقد فقدت "أم أيمن"
رضي الله عنها بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم: ابناً, وولياً, ورسولا.


تقدمت السن "بأم أيمن" وبلغت من الكبر عتياً.
فلما ولي الخلافة "عثمان بن عفان" رضي الله عنه, مرضت مرضاً شديداً, ثم توفاها الله تعالى إليه.
رضي الله عن حاضنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومولاته, وأمه بعد أمه, وأم حب رسول الله
"اسامه بن زيد".
وأم الشهيد "أيمن" وزوجة الشهيد "زيد بن حارثة" وبوأها من لدنا مقعد صدق.


,,, انتهى ,,,