خطبة الجمعة في الحرم المكي .. الفتنة والابتلاء سنة جارية في الأولين والآخرين
لشيخنا صالح آل طالب (حفظه الله ) .. خطبةً أحوج ما نكون إليه في هذا الوقت
ذكر شيخنا ... أن حقيقٌ بمن اتقى الله أن يعلم أن لله يوما تُكَعُّ فيه الرجال وتُنسَف فيه الجبال وتترادف الأهوال وتَشهَد الجوارح والأوصال ، وتُبلى السرائرُ ويُكشفُ ما في الضمائر ؛ فرحم الله من عمل لآخرته ولم تُلْهه الدنيا عن الآخرة الباقية ،
بعد ذلك ذكر شيخنا .. أنه لما خلق الله الأرض ودحاها ووضع فيها زينتها وقدَّر فيها أقواتها أسكنها خلقه من الجن والإنس ، وحتى يتم نعمته ويقيمَ حجته والى فيهمُ النبواتِ وأنزل فيهم الشرائع وبعث إليهم الرسالات ، وجعل الهدى والنور الذي جاء به الأنبياء هو تاجُ نعمه وذروةَ سَنامِ فضله ، فلا زينةُ الدنيا ولا ممالكُ الأرض ولا خيراتُ الحياة ولا كنوزُها تَعدِل نعمةَ الهدى والنورالذي جاء به رسل الله من لَدُنْه ؛ إذ كيف تساوي هداية السماء بمتاع الأرض ؟! وكيف يقايس ما عَاقِبتُه الحسنى وجنةُ الخلد بما مآله الفناءُ والزوال ؟!
ولما كان دينُ الله عزيزاً وشريعته غالية ، فإنه لا يستحق حملَها إلا خيارٌ من خيار ، فكانت الابتلاءاتُ والمحن تعرض للمؤمنين والأذيةُ والفتن تحيط بالمصدقين حتى لا يبقى على الدين إلا من يستحقه وليعلم الله الذين صدقوا .. أن الفتنة والابتلاء سنة جارية في الأولين والآخرين *الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ * فالإيمان ليس مجرد كلمة تقال ، بل هو حقيقة ذات تكاليفَ وأمانةٌ ذات أعباء وجهادٌ يحتاج إلى صبر ، والله تعالى يعلم حقيقة القلوب قبل الابتلاء ، ولكنَّ الابتلاءَ يكشف في عالم الواقع ما هو معلومٌ لله تعالى فيحاسب الناس على ما يقع من عملهم ؛ فهو فضل من الله وعدل وتربيةٌ للمؤمنين وصقل ، والفتن والابتلاءات أنواعٌ وصور : * وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً * فمنها السراء والضراء ، ومنها الفتنة بانتشار المنكرات وغلبة الأهواء ، وكثرة الدعاة على أبواب جهنم وكثرة الاختلاف ، وخلط الحق والباطل ، ومن الفتنة أن يتعرض المؤمن للأذى من الباطل وأهله ثم لا يملك النصر لنفسه ولا المنعة ، ومن الفتنة أن يعيش المؤمن بدينه كالغريب بين الناس ..قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" بَدَأَ الإسْلامُ غرِيبًا ، وسَيَعُودُ غرِيباً كَمَا بَدَأ ؛ فَطُوْبَى لِلْغُربَاء " ، فالحديث عن الثبات وقت المحن والصبر في البلاء والفتن حديثٌ موجه إلى عموم المؤمنين من الأخيار والصالحين والدعاة وطلبة العلم والمحتسبين يتسرب الوهن والإحباط إلى بعض المسلمين ، ويرون تسلط الأعداء والمرجفين ، ومن يُشعل فتيل الخلافات ويثير النزاعات ويطرحون الأفكار الغريبة المشتتة ..
وإذا كان أثرُ العلماء والمصلحين ظاهراً في تسكين الناس وتثبيتهم على الحق حين الشدائد وكثرة الفتن .. فإن ثمة مرجفين يجدون في أوقات ضعف الأمة وتكالب الأعداء عليها فرصاً لترويج باطلهم وتشكيك الناس في عقائدهم ؛ يسخرون من الدين ويلمزون المطوعين من المؤمنين ، ويُسهمون في إحباط الأمة وتخاذلها وتمييع مبادئها لتضييع هويتها ..
ولقد قص الله علينا في كتابه ، وروى لنا رسوله في سنته من سِيَر الأمم السابقة وأتباع الديانات السالفة ، وقوة اطمئنان القلب لما جاء عن المرسلين على كثرة الصوارف وشدة بأس المخالف ما يبين معه أن إيمانهم لو وُزِنَ بالجبال لرجح بها ، فهذا يُنشَرُ بالِمنشار من رأسه إلى قدميه ما يتزحزح عن دينه ، وأولئك تُخدَّد لهم الأخاديدُ فتُسجَر بالنار ثم يقذفون فيها .. كما ضرب لنا نبينا محمدٌ صلى الله عليه وسلم وصحابتُه الكرام أروعَ الأمثلة في الثبات على الدين ؛ مما أوصل لنا الدين كاملا والعقيدة نقية صافية حتى اعتنقها ملايين البشر وعمَّتِ السهلَ والوعر ، وفي كل زمان فتنٌ وابتلاءات ، ومع ذلك يبقى الدينُ ويبقى الخير ، وفي زماننا هذا و يا لزماننا !! زمنِ زلزلة المفاهيم وخلخلةِ الثوابت وتقلبِ الآراء وانتكاس المبادئ .. زمنِ إعادة النظر في كل شيء دينيٍّ وإِرْثٍ عقديٍّ .. زمنِ السخرية من الدين وأهله وانتقاص الشريعة وحَملتِها ، حتى كثر المتساقطون على الطريق واستحكم اليأس في بعض النفوس ؛ فصار الباعثُ على إعادة النظر في بعض أحكام الشريعة المستقرة ليس دليلا راجحا أو مأخذاً واضحاً ، إنما الباعث ضغط الواقع أو اتباع الهوى ومسايرةُ الناس ، المؤمن لا يهن ولا يحبط ولا يستكين ولا ييأس ولا يستوحش من الطريق لقلة السالكين ، ولا ينظر إلى الهالك كيف هلك ، بل ينظر إلى الناجي كيف نجا ، إننا اليوم أحوجُ ما نكون إلى الفأل والعمل والبشارة وتحفيز الهمم ومعرفة السنن .. سنن الله في أوليائه وأعدائه ، سنن الإدالة والنصر والمد والجزر ؛ حتى يطمئن مؤمن ولا يغتر فاجر ، ولئلا يكون كثرة الباطل مدعاةً لليأس والقنوط ، وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : * وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ* فلا يجوز أن يضعف صاحب الحق أو يهين ؛ فإن لهذا الدين إقبالا وإدبارا وامتداداً وانحسارا .. ضعفٌ وقوة وفرقة واجتماع وغربة وظهور وابتلاء وتمكين .. قال النبي صلى الله عليه وسلم : " يأتي على النَّاسِ زمَانٌ الصَّابرُ فيهِم عَلى دِينِه كالقَابِضِ على الجَمْر " ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ويلٌ للعرَبِ منْ شرٍّ قد اقترَب ؛ فِتنًا كقِطعِ الليل المظْلمِ .. يُصبحُ الرَّجلُ مؤمِنًا ويمسي كافرا ؛ يبيعُ قومٌ دينَهُم بعَرَضٍ منَ الدُّنيا قليل ، المتمسِكُ يومئذٍ بدينِهِ كالقَابِضِ على الجمر " أو قال : " على الشَّوك ، إنها ابتلاءاتٌ وإدالات ، والشدائد كاشفات لأصحاب النفوس كبيرة .. والذين لا تزيدهم إلا صبراً ويقينا وحزماً وعزما، إننا بحاجة إلى تجديد الإيمان في قلوبنا وفي أعمالنا ؛ سيَّما في وقت الشدائد والفتن معاني الإيمان واليقين وحسن الظن بالله والتسليم ، والصبر ، وصدق الولاء ، والتضرع لله والدعاء ، وحسن المجاهدة وتهذيب النفوس وإصلاحها ، والعبودية لله والاستعانة به وحسن التوكل عليه ، والعمل بجدٍّ وفأل ، وتوحيد الصف وجمع الكلمة ، ومدافعة الباطل بلا يأس ، واقرأ في سيرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وكيف كان الفأل والعمل في أحلك الظروف والمواقف : فيبشر بظهور الدين وهو طريدٌ بين مكة والطائف
ودرج الصحابة رضي الله عنهم وتربَّوْا على هذه المثل ، فهذا أبو بكرٍ الصديق رضي الله عنه يقف في أحلكِ المواقف حين ارتدتِ العربُ ووقف جيش أسامة بين خطر الروم وبلاء المرتدين ، فيثبت أبو بكرٍ وحده حتى يثبِّت الله المؤمنين ، وينفِد للروم جيش أسامةَ ، ويقاتل المرتدين في اليمامة ، ويحفظ الله الدين بمواقف المؤمنين ..
إن الثبات يحتاج إلى عزيمةٍ وجد وإيمانٍ ويقين ، وللدعاء أثرٌ عظيم في الثبات والنصر ، والاستعاذة من الفتن في الحديث المتفق عليه : "وأعُوذُ بِكَ مِنْ فتنةِ المحيَا والممَات " ..
وما انتصر النبي صلى الله عليه وسلم في بدر حتى سقط رداؤه من على منكبه دعاءً وتضرعا ، والعلم النافع يميِّز به المسلمُ بين الحق والباطل حين تلتبس الأهواء ، والسير في ركاب جماعة المسلمين أمنٌ من الفتنة، إن مرحلة الضعف والانحسار تدعو إلى إعادة بناء الأمة وتسهم في مراجعة حالها مع ربها ، وكلما اشتدت الفتن وتلاحقت كلما اشتدت الحاجة للعبادة حيث ينشرح صدر المؤمن ويطمئن قلبه ، ويحرسه الله من وسوسة الشياطين وإغوائهم ، والعبادة وقت الفتن هي وصية النبي صلى الله عليه وسلم لأمته حيث قال : " بادِرُوا بالأعمالِ الصالحةِ فتناً كقِطعِ الليلِ المظْلِم .. يصبحُ الرجلُ مؤمِناً ويُمسِي كافِرا " ، وقال صلى الله عليه وسلم : " العبادةُ في الهَرْج كهجرة ٍإليَّ " فرقٌ بين من يتخوض في لُجة الفتن وبين من يركن إلى الله تعالى ويهاجر بقلبه إليه ، ويتملق بين يديه ويدعو إلى سبيله ويسعى إلى الإصلاح وتسكين الفتن وتثبيت الناس على الحق ودلالتهم عليه ، فرق بين من ينشر الخير ويزكيه وبين من ينشر العيوب والإحباط والتثبيط ..
إنها سلبية لا تليق بالمسلم ، ومن قال : " هلك الناس فهو أهلكهم " ، والمؤمن أبداً قائم على سفينة المجتمع ألا تكثر خروقها، وليس عليه إلا السعيُ : *وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ *والمسلم يلزم نفسه بمجالس الصلاح ويهرب من مواطن الريَب والفساد :* وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ... * وجماع كل الوصايا ما وصى الله تعالى به رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم في آخر سورة الحجر .. حيث قال الله سبحانه -: * وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ * لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ * كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِينَ * الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ * فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلـهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ * فإن النبي صلى الله عليه وسلم بشرٌ لا يملك أن يضيق صدره وهو يسمع الشرك بالله والاستهزاء بدعوة الحق فيغار ويضيق بالشرك والانحراف ؛ لذلك يؤمر بالتسبيح والحمد والعبادة والثبات حتى يأتيه الأجل ، فيُعرِض عن الكافرين ويلوذ بجوار الرب الكريم ؛ ويؤمر بالصدع والبيان لأن الصدع بالحق والجهر به ضرورةٌ في الدين لتتنبهَ الفطرة الغافلة وتتعلمَ الأمم ، أما جعلُ العقيدة والشريعة عضين .. يُعرض جانب ويُوارى جانب مراعاةً للجماهير وأهواء الناس فهذا خلاف ما أُمر به الرسول صلى الله عليه وسلم، والصدع بالحق لا يعني الغلظة المنفرة ولا الخشونة والتعالي ، كما أن الدعوة بالحسنى لا تعني إخفاء الحق وكتمانه .. إنه البيان الكامل في حكمةٍ ولطف ، ولينٍ ويسر : *وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ*
فإن الصبر وصية الله للرسل والأنبياء والصلحاء والأولياء ، فالصبر رفيق الدرب حين تظلم الدنيا ، والصبر منحةٌ من الله للثبات على الحق ، وحين يغتر الدهماء بالباطل إذا تكاثر واستشرفت له النفوس وتطاولت له الأعناق : *إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * والصبر هو الواحة الخضراء لمن فقد الظل في الصحراء ، وإذا علم الله صدق النوايا وتميز الصابرون الصادقون وانقطعت العلائق بأسباب الأرض وتعلقت بالله القلوب تحققت سنة الله : * حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا ... *
وأخيراً : * فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ*.. اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك اللهم ادفع عنا شر الأشرار وكيد الفجار وشر طوارق الليل والنهار ، اللهم ادفع عنا الغلا والوبا والربا والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن ..
وصلى الله وسلمـ على نبينا وعلى آله وصحبه أجمعينــ