ما إن أعطى السيد/ رءوف الإذن بالبدء لـ"رشا" و خرجت من عنده حتى أسر لنفسه :
- أنتِ صلبة فعلاً يا "رشا" ،لعلك لستِ قوية البنيان، لكنك تتحكمين في أعصابك و مشاعرك على عكس شقيقكِ "مازن" الذي بكى و غضب و اهتاج يوم وفاة أمكما لكنكِ دمعتِ قليلاً فحسب، كنتِ في الحادية عشرة بعد . لربما اختليتِ بنفسكِ بعد ذلك و بكيتِ بحرقة لكنكِ حقاً ذات أعصاب فولاذية؛ لمْ تبكي أمام "رندا" لأنكِ جبانة بل لأنكِ كنتِ في حاجة للبكاء..
كان يفكر في تلك الخواطر بينما يسرع بالاتصال بصديقينا "هانز" و "سميث" و قد أمرهما ان يكونا على اهبة الاستعداد -و هدد بتغريم "هانز" اللي ورآه و اللي قدامه في حال تأخرا عن تلبية نداء الواجب عندما يتلقيانه- ،ثم استدعى "ميرا" التي وصلتْ مسرعة ،و بعد التحيات و الاطمئنان على رقبتها المسكينة من أثر المهمة السابقة ،قال لها:
- "ميرا" اسمعيني جيداً..
ثم شرح لها الموقف و نقر سطح مكتبه في نفاد صبر لمَّا راحت تشخط و تنطر لأن المدير لمْ يرسلها مع "رشا" منذ البداية و عندما هدأت ، قال بلهجته العملية الصارمة:
- أيتها الطالبة ، أنا لا أثق في "رندا" تلك و لا أظنها كانت لتقاتل "مازن" بنفسها كما ادّعت في الشريط ،لذا أريدك أن تنفذي مهمتكِ الجديدة بدقة بالغة، لو سقطتِ في شباك سفينة القرصان فلن يستطيع أحدٌ تخليصك و لا حتى البيتا أنفسهم..إن مهمتك تتلخص في..
أصغتْ له جيداً و تلاحقت أنفاسها لأن هذه هي أول مرة تُسند إليها مهمة من مستوى الباء، بل هي لربما أخطر مهمة قامتْ بها في حياتها و في حال لمْ تعدْ فلن يذهب أحدٌ لإنقاذها و لا حتى لانتشال جثتها من عرض البحر...

******
كان "مازن" جالساً تحت شجرة وارفة الظلال في حديقة قريبة من البرج و هو يغمغم في نفسه بأمور من طراز: ( أنا البيتا اللي أقول للأرض اتهدي ما عليكِ أدي..أنا يضمون إلىَّ طفلة في الرابعة عشرة تلعق السكاكر..بل و بتوصية من الرئيس الالفي!! ما دخله هو بألفا العرب؟! لماذا يضمونها إليَّ ؟لماذا؟ )
كان يغلي من شدة الغضب و لن يغدو الأمر غريباً لو انتابته نوبة غضب؛ لكن -و لله الحمد- فهو لا يغضب لأمور كهذه خاصة و قد أصيب بنوبة قبل ثلاثة أسابيع راحت ضحيتها فتاة تدعى "زبيدة" انضمت إليه -و الشهادة لله- لمْ يكن لديها أي عيب جوهري، لكنه -مازن- تسبب في كسر ذراعها في مهمة -دون قصد طبعاً- فتماسكت قليلاً لكنها ما لبثتْ أن بكت في المشفى و هم يعدون الأدوات لتجبير العظم المكسور، و هنا ثارت ثورة البيتا ،كيف تتجرأ تلك الفتاة و تبكي؟؟ ماذا تحسب نفسها حتى تذرف الدموع ؟! في الواقع، "مازن" يمقت أشدّ ما يمقت أن تتباكى فتاة أو تتصرف بأنوثة لأي سبب من الاسباب -رغم أن البكاء لكسر الذراع ليس تباكياً و لا أنوثة- لكنها -و بقدرة قادر- انتقلت من قسم العظام بالمشفى إلى غرفة العناية المركزة و لا تزال هناك حتى هذه الساعة.
راح يسترجع حواره مع السيد/ رءوف حالما عاد من الكويت:
مازن: سيدي، أتضمّ إليّ صيادة مكافآت؟؟
المدير: و ما المشكلة في هذا؟ إنها قوية في القتال و تتحمل إزعاجك،أليس هذا هو ما طلبته؟
مازن: بلى، لكنها تزعجني و تهزأ بي ..
المدير: تهزأ بكَ كما تهزأ بها أنتَ، إن لمْ يكن لديك اعتراض فِعليّ فغادر الآن، أنا أدير مقر ألفا هنا لا روضة أطفال.
مازن: إإإ..إنها فتاة ،و أنا شاب الآن لذا أرفض التعامل معها. أهذا اعتراض فِعْليّ يا حضرة المدير؟
المدير: صحيح، لكن لن تكون هناك مشكلة، خاصةً و هي تصطحب حيوانها معها في كل مكان حتى المهمّات، ثم إنّ كونها فتاة يزيد من مزاياك، فبدل أن تتشارك مع زميلك نفس الغرفة في سكن الطلاب ،ستحصل وحدك على حجرة كاملة، كما أنك لن تراها كثيراً و أظن أنك تفضل هذا..
مازن : و ماذا عن اللقاء؟ كيف أحدد لها مثلاً الخطة ؟
المدير : لدينا مقاعد تَجَمُّع أمام المطعم حسبما أذكر، ثم إنها أعطتك جهاز اتصال خاص، أليس كذلك؟
مازن : (بِغِلّ) بلى. سيدي، أريد أن أتحدث بصراحة.
المدير : تفضل..
مازن : حرام عليك يا سيادة المدير، أنا في سن أولادك ! اتقِ الله فيَّه! إيه يعني لمّا أبقى لوحدي من غير زميل و لا شريك في الفريق؟؟ هوّه لازم يعني حكاية الفريق الثنائي؟!
المدير : ( و هو يكتم ضحكة) "مازن"، تعلم أنّه لابد من اتباع النظام، كما أن الأمر لمْ يكن من تدبيري هذه المرة؛ بل إن "الرئيس الألفي" شخصياً هو من رشّح الطالبة الجديدة "شيماء" لتصير زميلتك في الفريق.
مازن : "الرئيس الالفي"! و ما علاقته بالأمر؟ ثم لماذا رشحها هي دوناً عن الاثني مليار آدمي الذين يعيشون على هذه الأرض؟!
المدير : إن "الرئيس الألفي" هو مدير جميع المدراء، يمكن القول أنه رئيس عالم المتحولين التابعين لألفا في كل مكان، و قد أخبرتُه -بنفسي- عن سلوكك و كيف أنك جعلت حياة كل زملائك السابقين جحيماً مستعراً؛ فنصحني بأن أضم إليك تلك الفتاة؛ لأنه يعرفها شخصياً.
مازن : يعرفها شخصياً ؟! ربما كانت ابنته أوشيء من هذا القبيل..
المدير : ربما .المهم الآن، أهناك شيء آخر تريد أن تعترض عليه؟؟
مازن : (و قد بدأ يستعيد ثقته بنفسه) و كيف ستعمل تلك الفتاة قبل أن تتم دراسة الثلاث سنوات؟؟
المدير : (بابتسامة شامتة خبيثة) يمكنها أن تدمج تلك السنوات الثلاث في فترة أقل بكثير كما تعلم. فهي ستتقاتل اليوم ضد المعلمة المكلفة باختبارها متجاوزةً بذلك أصعب اختبار.
مازن : اليوم؟! اختبارها العملي النهائي اليوم؟! لكنها لمْ تدرس الأساسيات بعد، و لمْ تتعلم شيئاً عن السلالات أو الطبيعة و لا حتى النشوء أو الثقافات، كيف تختبر اليوم إذاً ؟
المدير : (الابتسامة إياها تتسع) إنها تعرف الأساسيات جيداً فقد تعلمتها عند السيد/ كارل، و قتالها عالي المستوى، و بالنسبة للمواد الدراسية النظرية فهي تعرف الكثير عنها و لمْ يبق سوى أجزاء صغيرة يمكنها أن تدرسها في بضعة أشهر...و حتى المادة الخاصة -التي يختارها كل متحول ليستفيد منها عندما يحتاجها - كالميكانيكا عند "هانز" - فقد اختارتْ تلك الطالبة الذكية أن تتخصص في التقنيات الحديثة و أصدقك القول أنها أبرع من علمائنا في هذا المجال! يبدو أن تحولها متشعب بمعنى الكلمة؛ فهي تقاتل ببراعة و تحسن ابتكار و فهم و برمجة الأجهزة و برامج التقنية، و تقاوم السـ.. أم أقول لك، دعْ الامور تأخذ مجراها و ستعرف كل شيء في الوقت المناسب..
مازن : (و هو منهار تقريباً) لكن.. لكن القوانين تحتم أن تختبر العلمي قبل العملي.
المدير : (سيقيم مأدبة بمناسبة انهيار "مازن" ) القوانين لها استثناءات، استثناءات أقرَّها "الرئيس الالفي" بنفسه لأجل هذه الحالة فقط..لقد سمح لها بالبدء في العمل فور تجاوزها أحد الامتحانيْن.
مازن : ماذا ؟! أتنصُّون قوانين جديدة لأجل تلك الطفلة؟! هذا تمييز عنصري! افتراء! اعتداء على حقوقي الشخصية! ظلم..ظلم أن تضمَّها إليّ ،إنها تلعق السكاكر!
المدير : (لقد بدأ في توزيع الدعوات إلى المأدبة بالفعل) "مازن"، لقد تقرر الأمر، إمَّا أن ترفض هي العمل معكَ أو لا..و الآن تفضل فلديَّ عمل كثير.
ها هو "مازن" بتمتم بكلامه الطيب المهذب كعادته و قد برزت عروقه كلها، و عيناه لونهما شرع في التغير تمهيداً للنوبة -لكنها لن تصيبه- ،إنه يعتصر مقبض الباب لكنه لم ينتزعه بعد، المهم أنه ذهب خالي الوفاض ..
" أتمنى أن يسقط عليها نيزك بحجم المجموعة الشمسية" هكذا غمغم "مازن" و هو جالس تحت تلك الشجرة عاقداً ساعديه خلف رأسه ، كان يعلم أن "شيماء" الآن تخوض الاختبار العملي -القتال- .استسلم أخيراً للأمر الواقع خاصةً و قد شعر بأن عقله الباطن يلح عليه أن يفكر في أمر آخر ،أمر يتعلق بـ"رندا" ،هناك حلقةٌ مفقودة ، ترى أي خطر تشكله فتاة في الصف الثامن؟؟ - كل هذا و هو لا يعلم باختطافها لشقيقه الأصغر- ...


*****