أشرق صباح اليوم التالي و لكن دلال كانت زهرة ذابلة حزينة فقدت نشاطها , وحل محلهما الحزن و الهدوء الشديدين , و استمر هذا ليومين وانتهى بارتفاع درجة حرارتها و سعال و عطاس .


أصابني الذعر الشديد عليها و أخذتها مع عمتي إلى الطبيب, و بعد فحصها وصف لها الطبيب مجموعة من الأدوية , و غطت بعدها في نوم عميق .


وقفت أراقبها بحزن شديد و كلي يقين بأن سبب مرضها سبب نفسي , فهي منذ رحيل والدي و هي تذهب إلى غرفتهما , تبكي على سريرها , تراقب أركان المنزل بصمت كأنها تراهما , و نقفز بنظراتها نحو الباب عند دخول أي شخص , و تدخل في بكاء مرير بعد كل مكالمة قصيرة منهما .


كنت أحاول جاهداً إسعادها ولكن دون جدوى , فقد كنت دائماً بعيداً عنها و أصد كل محاولاتها للاقتراب مني .


و لكن الآن و بعد تدهور صحتها لابد لي من الاقتراب منها بأي طريقة ممكنة, يجب علي أن لا أقف عاجزاً و أنا أراها تحتضر أمامي.


البداية كانت في غاية الصعوبة , فكانت تتفنن في صد محاولاتي , فتشيح بوجهها عني كلما اقتربت منها , و ترميني بألعابها و صرخاتها و بنظراتها القاتلة المليئة الحقد و اتهامي بأني سبب منعها من الذهاب مع والدي حين أمسكتها .


حرت بأمري معها و أصبحت شغلي الشاغل , و أصبح هدفي إسعادها و لو لثوان .


بينما كانت دلال تتابع أحد الرسوم المتحركة جلست بجوارها محاولاً مشاركتها فيما تتابع , ثم سحبت نفسي و أحضرت علبة ألوان و كراسات رسم , وجلست على الأرض و وضعت الأوان أمامها وابتسمت و قلت بصوت محاولاً أن يكون مرحاً و حنوناً :

" دلال حبيبتي الحلوة ... لما لا ترسمين معي ... اعرف أنك تحبين الرسم ... هيا يا دلال تعالي "


ولكن ما من مجيب , طأطأت برأسي أرضاً ثم بدأت أرسم و لفترة ليست بقصيرة لم تبدو لي هذه الفتاة أنها عازمة على مشاركتي في الرسم , و انتابتني خيبة أمل كبيرة , و في اللحظة التي عزمت فيها للعودة لغرفتي , تفاجأت بتلك الصغيرة تنزل من على الأريكة و تلقي بجسدها بجواري و تبدأ بالرسم , طرت فرحاً لاستجابتها معي و لكني لم أرى ابتسامتها بعد يبدو أن الأمر محتاج لجهد أكبر , و لكنها بشرى خير على كل حال .


مر اليوم على خير , و كان خالياً من البكاء و النحيب و لله الحمد , و عند المساء شعرت بأن الضيق بدأ يتسلل لقلبها , فاقتربت منها و جلست أربت عليها و أضمها إلي و أمسح على رأسها و طبعت عليه قبله كما كانت أمي تفعل و يبدو أني زدت من حزنها و شوقما لها فبدأت نوبة البقاء القاتلة , أشعرني بكاؤها برغبة عارمة في البكاء معها فبكيت .


بعد وقت قصير هدأنا و نامت الصغيرة و كان هناك دمعة لاتزال عالقة على وجنتها فمسحتها , و وضعت الصغيرة على سريري .



تأملتها بحنان و عطف , ثم أخذت نفساً عميقاً واتجهت إلى مكتبي , أخذت ورقة و قلم و بدأت أنظم وقتي وأعد جدولا يساعدني على كيفية قضاء الوقت مع دلال بشكل يبعدها عن الحزن و التفكير0


ملأت جدولي بالنشاطات التي يحبها معظم الأطفال على ما أظن من رسم وتلوين و مشاهدة تلفاز و قراءة قصص و بعض النزهات و الزيارات للأقارب أيضاً التي ستكون منفذاً لي للخروج و المرح مع أصدقائي .


انتهيت منه و فرحت بذلك و استغربت من اهتمامي الكبير بدلال , أيعقل إني بدأت أحبها ؟؟؟ لا لا أظن إنها ليس أكثر من مسؤولية , و وعد قطعته لوالدي بالاعتناء بها , و قليل من الشفقة على حالها لا أكثر و لا أقل .


في صباح اليوم التالي توجهت إلى المطبخ لتناول الفطور فوجدت الصغيرة هناك تأكل طعامها و تلهو بالملعقة فألقيت عليها تحية الصباح و ألحقتها بابتسامة , استنكرت تلك المسكينة ذلك و لكنها ردت علي بابتسامة بريئة أبهجت روحي , جلسنا معاً لتناول الطعام و بدأت بالحديث , و لكنها كانت تأكل بصمت حتى شعرت أني مذياع نسي صاحبه إغلاقه , و لكني تابعت دون توقف لعلها ترأف بي و ترد علي , و أخيراً تزعزع صمتها و بدأت تتحدث عن الرسوم المتحركة التي تتابعها و التي لا أفقه فيها شيء , كنت أصغي باهتمام في بادئ الأمر و لكن سرعان ما مللت من حديثها و سرحت لعالم أخر .


و في العصر جلست أقلب المحطات في التلفاز و ألعب في الحاسوب و هي كانت تلهو حولي بلعبها و عرائسها و كنت أشاركها لهوها أحياناً و ألعب معها بعرائسها واشرب الشاي الذي تعده بخيالها , أوَتصدقون ذلك لقد دخلت إلى عالمها بكامل أرادتي و دون أي إجبار من أحد .


و في المساء كنت أقرأ لها بعض القصص قبل نومها في سريرها الذي انتقل إلى غرفتي بعد مرضها السابق .


استمرت الأيام هكذا و بدأت علاقتي معها تزداد قوة , و بدأت تحبني و تلاشى الحاجز الذي كان بيننا شيئاً فشيئاً .