في هذه الأجواء الرمضانية عاش عدد من الشعراء تجاربهم ، فانطلقت ألسنتهم تلهج بالثناء على منحة السماء ، وتصور تلك المشاعر الروحانية التي تلهم بسكينة النفس ، وصفاء الروح ، وسمو الأحاسيس .
وفي شهر الصيام ، تصوم الجوارح كلها عن معصية الله تعالى ، فتصوم العين بغضها عما حرم الله النظر إليه ،ويصوم اللسان عن الكذب والغيبة والنميمة ، وتصوم الأذن عن الإصغاء إلى ما نهى الله عنه ، ويصوم البطن عن تناول الحرام ، وتصوم اليد عن إيذاء الناس، والرجل تصوم عن المشي إلى الفساد فوق الأرض .
قال أبو بكر عطية الأندلسي :
إذا لم يكن في السمع مني تصــامم *** وفي مقلتي غــض،وفي منطقي صمت
فحظي إذن من صومي الجوع والظما *** وإن قلت : إني صمت يوما فما صمت
وقال أحمد شوقي :
" الصوم حرمان مشروع ، وتأديب بالجوع ، وخشوع لله وخضوع ولكل فريضة حكمة ، وهذا الحكم ظاهره العذاب وباطنه الرحمة ، يستثير الشفقة ، ويحض على الصدقة ، ويكسر الكبر ، ويعلم الصبر ، ويسن خلال البر ، إذا جاع من ألف الشبع ، وحرم المترف أسباب المتع ، عرف الحرمان كيف يقع ، والجوع كيف ألمه إذا لذع " .
ويرى حجة الإسلام أبو حامد الغزالي أن الصوم ثلاث درجات :
" صوم العامة : وهو كف البطن والفرج وسائر الجوارح عن قصد الشهوة .
وصوم الخصوص : وهو كف السمع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن الآثام . وصوم خصوص الخصوص : وهو صوم القلب عن الهمم الدنيئة ، وكفه عما سوى الله تبارك وتعالى " .
يقول الصابي في الذي يصوم عن الطعام فقط ويدعو إلى التخلي عن العيوب والآثام :
يا ذا الذي صام عن الطعام *** ليتك صمت عــن الظــلم
هل ينفع الصوم امرؤ طالما *** أحشاؤه مــلأى مــن الإثم
ويؤكد أحمد شوقي ذات المعنى فيقول :
يا مديم الصوم في الشهر الكريم *** صم عن الغيبة يوما والنمــيم
ويقول أيضا :
وصلِّ صلاة من يرجو ويخشى *** وقبل الصوم صم عن كل فحشا
فهذا الشاعر أحمد مخيمر يناجي رمضان قائلا :
أنت في الدهر غرة وعلـى الأر *** ض سلام وفي السماء دعــاء
يتلقاك عند لقياك أهل الـــ *** ـبر والمؤمنون والأصفيـــاء
فلهم في النهار نجوى وتسبيــ *** ـح وفي الليل أدمــع ونداء
ليلة القدر عندهم فرحة العمـ *** ـر تدانت على سناها السماء
في انتظار لنورها كل ليـــل *** يتمنى الهدى ويدعو الرجــاء
وتعيش الأرواح في فلق الأشوا *** ق حتى يباح فيها اللقـــاء
فإذا الكون فرحة تغمر الخلـ *** ـق إليه تبتل الأتقيــــاء
وإذا الأرض في سلام وأمـن *** وإذا الفجر نشوة وصفــاء
وكأني أرى الملائكة الأبـــ *** ـرار فيها وحولها الأنبيــاء
نزلوا فوقها من الملأ الأعلــ *** ـى فأين الشقاء والأشقياء ؟
إنه رمضان الخير الذي يرجع الروح إلى منبعها الأزلي ، فتبرأ من أدران الحياة ، وتتخلص من مباذل الدنيا ، وتتجه إلى الله خالق السماوات والأرض داعية مبتهلة . إنه رمضان الضيف الكريم الذي يعاود كل عام حاملا سننا علوية النظام كما يصوره الشاعر
محمود حسن إسماعيل
أضيف أنت حل على الأنام *** وأقسم أن يحيا بالصــيام
قطعت الدهر جوابا وفـيا *** يعود مزاره في كل عــام
تخيم لا يحد حماك ركــن *** فكل الأرض مهد للخيـام
ورحت تسن للأجواء شرعا *** من الإحسان علوي النظام
بأن الجوع حرمان وزهـد *** أعز من الشراب أو الطعام
وهو يصور الصائمين المترقبين صوت المؤذن منتظرين في خشوع ورهبة نداءه :
جعلت الناس في وقت المغيب *** مرتقبي ندائك العاتي الرهيب
كما ارتقبوا الأذان كأن جرحا *** يعذبهم ، تلفَّت للطبيــب
وأتلعت الرقاب بهم فلاحـوا *** كركبان على بلد غريـب
عتاة الأنس أنت نسخت منهم *** تذلل أوجه وضنى جنـوب
إنه رمضان الذي تتجه فيه النفوس إلى الله بخشوع وإيمان .
يقول الشاعر مصطفى حمام :
حدِّثونا عن راحة القيد فيه *** حدثونا عن نعمة الحرمـان
هو للناس قاهر دون قهـر *** وهو سلطانهم بلا سلطـان
قال جوعوا نهاركم فأطاعوا *** خشعا ، يلهجون بالشكران
إن أيامك الثلاثين تمضــي *** كلذيذ الأحلام للوسنـان
كلما سرني قدومك أشجا *** ني نذير الفراق والهجـران
وستأتي بعد النوى ثم تأتي *** يا ترى هل لنا لقاء ثـان؟
ويقول الشاعر الكبير محمد حسن فقي في قصيدة زادت أبياتها على 150 بيتا ،
نظمها بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك :
رمضان في قلبي هماهم نشوة *** من قبل رؤية وجهك الوضـاء
وعلى فمي طعم أحسّ بأنــه *** من طعم تلك الجنة الخضـراء
لا طعم دنيانا فليس بوسعــها *** تقديم هذا الطعم للخلـفـاء
ما ذقتُ قط ولا شعرت بمثله *** ألا أكون به من السعــداء



رد مع اقتباس


المفضلات