أيـهــا الــغــادي :
عن أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم -:
( كل الناس يغدو فبائعٌ نفسه، فَمُعْتِقُها أو موبقُها )
قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ [يغدو] أي يصبح أو يسير
والغدو: السير في أول النهار
والغدوة: ما بين الصباح وطلوع الشمس.
والمعنى:
كل أحد يسعى ويجتهد في الدنيا ويرى أثر عمله في العقبى، وهذا قول مجمل.\
وتفصيله: أنهم ينقسمون في هذا السعي إلى فريقين:
[بائع نفسه، أي مشتريها من ربه، ولأن البيع قد يطلق ويراد به الشراء ].
والدليل على أن هذا المعنى هو المراد قوله: (فمعتقها) والإعتاق إنما يصح من المشتري
فمن ترك الآخرة وآثر الدنيا، يكون مشترياً نفسه من ربه بالدنيا، فيكون معتقها.
ومن ترك الآخرة، وآثر الدنيا يكون مشترياً نفسه من ربه بالآخرة، فيكون موبقها أي مهلكها.
أيها الغادي:
قف ساعة تتفكر: إلى أين أنت غاد؟ ومن أين أنت قادم؟!.
أيها الغادي:
من أنت؟ ومن أين جئت؟ وإلى أين أنت ذاهب؟ أراحل أنت أم مقيم؟ وإذا كنت راحلاً فإلى أين أنت راحل؟
أيها الغادي:
تلفت في ملكوت السماء والأرض، وانفض الغفلة عن عينيك، وافتح قلبك لترى أسرار الكون، ثم قل لي: أعبثاً خلق الكون؟ وأنت ما مهمتك في هذا الكون؟ وما موقفك تجاه الله؟.
أيها الغادي:
تعيسة تلك الحياة التي يعيش فيها الإنسان يتيه في الظلام، تتخطفه الأوهام، وتسبيه التوافه من الأمور وهو يظن أنه بلغ من الحياة قمتها، وسار فيها إلى نهايتها، ولكنه لم يعد أن يكون من
{ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً {103} الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً }… (الكهف: 103،104).
أيها الغادي:
الطريق… الطريق… فإن السبل كثيرة… طريق الرسل والصالحين الذين أراده رب السماء والأرض ففيه تلقى النفس راحتها، والعين هناءها { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى }… (طه: 123).
ويوم يلقى العبد ربه يكون من الذين سعدوا في الجنة خالدين فيها، و { سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً }… (مريم: 96).
قد عصيت الله أيامي وليـلي وفي العصيان قد أسبلتُ ذيلي
فويلي إن حُرِمتُ جنانَ عدن وويلي إن دخلت النار ويلـي
لأبذلن ما أستطيع :
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله...
أما بعد
ماالهم الذي تحمله؟..
سؤال يطرق القلوب..يبحث له عن مجيب !!!
هل همك الارتماء بين أحضان الحبيب؟!!.. أو سماع آخر أغنية للمطرب ذا المجد التليد؟!!
(والله ما أسخفها وأرداها من هموم).. انتبه.!!.. فالذي رفع السماوات وبسط الأرض ليس يلعب
((و ما خلقنا السماوات والأرض و ما بينهما لاعبين)).
إن النفس العزيزة.. تأبى أن تكون في دنايا الأمور..فهي لا تريد أن تكون إلا في المعالي... و لا تطلب إلا كل غالي..
سألت نفسي (العزيزة) ذات يوم: ماذا تريدين؟
قالت: الجنة.
فقلت: و ما أعلى درجة فيها؟
فقالت: الفردوس الأعلى.
قلت: كيف السبيل إليها؟
قالت: بتقوى الله مع تصحيح العقيدة وعدم الشرك وفعل أوامر الله واجتناب نواهيه.
قلت: و ما هو أسرع السبل إلى ذلك؟
قالت: فعل ما كان يفعله أكرم الخلق وأفضلهم عند الله؟
فقلت: ويحك!!..من هم؟
قالت: الأنبياء والمرسلين.
فقلت: و ما كان عملهم؟
قالت: الدعوة إلى الله.
قلت: كأني بك تقولين بأن أفضل الأعمال هو الدعوة إلى الله..
وكأني بك يا نفس تقولين بأن أسرع الطرق الموصلة إلى الفردوس الأعلى هو ما كان يقوم به الأنبياء والمرسلين..
. أليس كذلك؟.
قالت: لا فض فوك!!... بلى.. هو كما قلت.
فقلت لها (أي لنفسي العزيزة)!!!:
لأطلبن الفردوس الأعلى ما حييت..
و لأبذلن للإسلام الغالي والنفيس.. حتى تخرج الروح من الجسد..
فقالت: هيه.. هيه ....
فقلت: و لأبذلن ما أستطيع لإرشاد البشر ولنقلهم من جور الأديان إلى عدل الإسلام..
ولأخلصن النصح للأمة.. حتى يرضى ذا العزة والجبروت..
فقالت: أسأل الله أن يؤيدك وينصرك...فذاك أحلى هم...!!!!
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا اله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك
سبحانه يقبل توبة التائبين :
فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:
(كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ
فَأَتَاهُ فَقَالَ إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: لَا.
فَقَتَلَهُ فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً. ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ فَقَالَ:
إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ:
نَعَمْ وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ, انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فَاعْبُدْ اللَّهَ مَعَهُمْ وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ.
فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ أَتَاهُ الْمَوْتُ فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ, فَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ:
جَاءَ تَائِبًا مُقْبِلًا بِقَلْبِهِ إِلَى اللَّهِ, وَقَالَتْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ. فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ. فَقَالَ:
قِيسُوا مَا بَيْنَ الْأَرْضَيْنِ فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهُ, فَقَاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ.
قَالَ: قَتَادَةُ فَقَالَ الْحَسَنُ ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ لَمَّا أَتَاهُ الْمَوْتُ نَأَى بِصَدْرِهِ).
فسبحان الله ما أكرمه على عباده، يتوب عليهم مهما فعلوا من المعاصي والذنوب إذا رجعوا إليه وأخلصوا التوبة، فهذا الرجل فعل فعلاً عظيماً وهو القتل وليس قتل رجل أو رجلين إنه قتل مائة رجل، لكن الله -عزوجل- قبل توبة وغفر ذنبه وأدخله جنته عندما علم صدق توبته.
فالله عزوجل ينادي عباده فيقول: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً}.
وقول تعالى: { والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً
يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات}.
فباب التوبة مفتوح إلى أن يأتي الإنسان الموت، أو تطلع الشمس من مغربها
قال تعالى: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً)
وفي الحديث: عَن ابن عُمَرَ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ).
فعلى المذنب -وكلنا مذنبون- أن يستيقظ من غفلته، و يفيق من سباته ونومه، ويبادر إلى التوبة؛ لأنه لا يدري متى يفاجئه الموت
قال تعالى: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ)
وقال تعالى: (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ)
وقال تعالى:
(وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ)
والتوبة المقبولة عند الله هي التوبة النصوح، قال تعالى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) .
فأين من أسرف على نفسه بالمعاصي ؟
وأين من تخفى عن أعين الناس ليعص الخالق ؟
وأين من يرتكب الكبائر ليل نهار؟ وأين من يجاهر الله بالذنوب والمعاصي؟
وأين من أعلن الحرب مع الله بأكله للربا؟
وأين من أغواه الشيطان بتتبع النساء؟
وأين من أغواه الشيطان وجعلها تفتن الشباب؟
أين نحن جميعاً من التوبة إلى الله، وإعلان الرجوع إليه، فإنه سبحانه يقبل توبة التائبين، ويغفر زلة المستغفرين، ويقبل من رجع إليه بصدق ويقين.
أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا من التائبين المستغفرين
وأن يغفر ذنوبنا ويستر عيوبنا، وأن يغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا وما أسررنا وما أعلنا إنه جواد كريم .


رد مع اقتباس

المفضلات