منذ متى وأنا هنا ؟ لا أعلم ...
في كل مرة أحاول فتح عيني ما تلبث ان تغلق ,
هذه المرة إستطعت فتحتها ولكن لماذا ؟ لماذا تعاد الي تلك الذكريات الآن ...
ها أنا ذا أبلغ الخامسة عشر من العمر ,
إسمي " إيدين آلستون " أقيم في إحدى ضواحي لندن ..
- إيدي بني , العشاء جاهز
(( حاضر )) ... هذا صوت أمي ,
كم أكره الجلوس مع والديّ مع أني الإبن الوحيد لهما ,
كيف لي أن أسامح من كانا السبب في معاناتي .
فأنا أعاني من مرضٍ في القلب منذ صغري
وهذا ما دفع والديّ الى حرماني من اللعب ككل الاطفال ,
كل ما تركاه أمامي جهاز حاسوب و تلفاز .
كنت أجلس في غرفة فارغة من أي لعبة
و كنت لا استطيع اللعب في المتنزهات .
لم أجد سوى أصدقاء تعرفت عليهم من الانترنيت والذين لا تربطني بهم أي علاقة .
و يا للسخرية ! مع كل إحتياطاتهما تنتابني نوبات من مرضي .
لا أجد من ينفعني سوى دوائي الذي لا يفارق جيب بنطالي .
- كيف هي الدراسة يا بني ؟ هل تحتاج الى مساعدة ؟
قالها أبي و هو يعرف الجواب مسبقاً ..
ولكن هذه المرة أمي هي التي أجابت
- لا داعي للقلق عليه يا عزيزي .. فولدنا ذكي جداً ..
ذكي جداً ... مللت من سماع هذه الكلمات التي لا معنى لها ,
أنا شخص عادي أحتاج الى حضن دافئ يؤيني في أوقات ضعفي
أريد أن أجد بجانبي شخصاً أحبه , صديقاً أثق به .
ذات مرة كنت أسير في طريق المدرسة ذاته الذي أسير فيه كل يوم ,
هناك شي ما مختلف هذه المرة .
لقد رأيت فتاةً جالسة على الرصيف ضامةً رأسها بين يديها ,
في البداية لم اهتم لأمرها , تعديتها بخطوات عديدة ...
لا أعلم ما الذي أعادني اليها , دون شعور مني عدت اليها قائلاً :هل هناك مشكلة ايتها الفتاة ؟
نظرت اليّ والدموع تملئ وجهها ثم ما لبثت ان مسحتها قائلة : آسفة ! هل سببت لك الإزعاج ؟
تفاجئت من ردة فعلها وقلت : لا ... ولكن
لا اعلم لماذا عُقد لساني عن الكلام , فعلاً ما الذي أريده منها ! لماذا عدت إليها ؟
فوجئت أكثر حين قالت الفتاة : لقد توفيت أمي قبل شهر , أنا حزينة فقط .
قالت تلك الكلمات و ركضت في الطريق الآخر .
وقفت لبرهة دون أن افهم ما الذي جرى (( توفيت أمي قبل شهر , أنا حزينة فقط )) ,
ألهذه الدرجة فقدان احد الوالدين شي محزن ؟! .
هذه هي الحقيقة التي لم أدركها مبكراً ...
عدت الى المنزل و كأن شيئاً لم يكن ,
ولكن كلمات تلك الفتاة لا زالت تتردد في أذني . (( أنا حزينة فقط )) .
كنت أنتظر اليوم التالي بصبر ,
فقد كان يوم عطلة . إحتجت الى الراحة بعد شعوري بالتعب
ولكن طلب والدي كان غريباً جداً
- إيدي ما رأيك أن نخرج في نزهة أنا و أنت فقط ؟
ضحكت في نفسي وقلت نزهة ! منذ متى وأبي يطلب هذا الطلب ؟
(( آسف , لدي إمتحان غداً ويجب أن أدرس ))
قلت ذلك بكل برود وأنا أرى وجه والدي الحزين .
ثم ذهبت الى غرفتي وأنا مرتاح البال
حتى جاء ذلك المساء الذي غيّر كل شي في نفسي .
فتحت أمي باب غرفتي بفزع قائلة (( إيدين , والدك في المستشفى . لقد تعرض لحادث , هيا بنا ))
نظرت إليها وقلت (( آسف , لدي إمتحان غداً . لا أستطيع )) ,
إستطعت تمييز دموعها التي إنهمرت ثم تركتني وغادرت .
بعد عدة دقائق سمعت صوت الباب يُغلق , لقد غادرت أمي .
من المفترض أن أشعر بالراحة لأنني سأكون وحيداً
ولكن ما سر هذا الإحساس الغريب .
ها قد عادت كلمات تلك الفتاة تتردد في إذني (( توفيت أمي قبل شهر , أنا حزينة فقط )) .
خرجت من غرفتي وكان في نيتي الخروج لأستنشق بعض الهواء
فقد شعرت بضيق في نفسي هذا أمر إعتدت عليه .
نظرت في الجهة الأخرى و تحديداً الى غرفة والديّ ,
لم أدخلها منذ بلوغي التاسعة . فضول شدّني لفتح غرفتهما .
لم أستطع مقاومته .
لم يكن هناك ما شّد إنتباهي سوى دفتر كان مرميّاً على الطاولة
أخذته و بدأت أقلب بين صفحاته ... الواضح أنها مذكرات أمي ولكن ..
إسمي مكتوب هنا .. سأقرأ
* اليوم الرابع من مارس ,
سأقول انه اليوم المشؤوم بالنسبة لنا...
ففي هذا اليوم عرفنا ان إيدي مصاب بمرض في القلب وتعليمات الطبيب كانت الا يرهق نفسه ,
ولكنه صغير ! كيف له الا يلعب كباقي الاطفال ...
أضطررنا الى شراء حاسوب له مع أنه كان مكلفاً بالنسبة لنا , أردنا الا يشعر بالنقص ...... *
وبدأت أقلب أكثر حتى توقفت عند جملة مكتوبة في النهاية
أضطرتني الى قراءة الصفحة كلها
* اليوم الحادي عشر من ديسمبر ,
كان الجوّ بارداً جداً . وهذا أثّر على صحة إيدي ..
صحيح أنه في العاشرة من عمره الآن ولكنه لا يزال صغيراً في نظري ويحتاج الى رعاية ولكن ...
أشعر أنه يبتعد عني كل يوم ,
أعلم تماماً أنه يكرهنا لأننا لم ندعه يعيش تلك الحياة
التي كان من المفترض أن يحياها ولكنه شعور لن يفهمه الان .
أنا و زوجي نتألم أكثر منه .
حين اراه يتألم من مرضه أردد كلام زوجي الذي قاله منذ ان عرفنا بمرضه " ليتني كنت مكانه " *
(( ليتني كنت مكانه )) ألهذه الدرجة يصل حبّ الوالدين ؟!
لم أستطع إخفاء دهشتي الكبيرة من هذه التضحية ...
لم أتمالك نفسي , لا ... لا يجب أن أبكي , لا أريد لدموعي ان تسقط ...
لكني لم استطع منعها لقد بدأت أبكي دون توقف ,
جلست في زاوية الغرفة وانا اضع رأسي بين يدي تماماً كما رأيت تلك الفتاة
وتلك الكلمات تتردد في أذني
(( توفيت أمي قبل شهر , أنا حزينة فقط ))
(( ليتني كنت مكانه )) ...
لا اعلم كم من الوقت بقيت هكذا
لكني صحوت فجأة حين تذكرت ما قالته أمي
((إيدين , والدك في المستشفى . لقد تعرض لحادث , هيا بنا )) .
مستحيل ... يجب أن أكون بجانبه الآن
خرجت اركض من المنزل متوجها الى المستشفى ,
كم أنا أحمق لا شك بانه كان حزيناً مني هذا اليوم .
أبي ارجوك تماسك .. أبي (( ليتني كنت مكانك )) ..
بدأت أركض دون توقف , بل حتى أني نسيت طلب سيارة أجرة .
لم أشعر بنفسي حتى بدأ صدري يؤلمني ,
يا الهي إنه الم فظيع . ألم يمنعني من الركض لابد لي من التوقف لبرهة .
بدأت التقط انفاسي بصعوبة .. أخرجت الدواء بيدي المرتجفتين وتناولت منه .
جلست على الرصيف لأرتاح قليلاً .. لقد فهمت الآن ,
لماذا لم يسمحا لي باللعب حين كنت صغيراً ..
إنه تماما كما أشعر به الان ,
الخوف من فقدان شخص عزيز عليك . كم كنت أحمق !
يا الهي أشعر بثقل كبير في رأسي ,
أنا متعب جداً ,
لم تعد الصورة امامي واضحة الآن .
منذ متى وأنا هنا ؟ لا أعلم ...
في كل مرة أحاول فتح عيني ما تلبث ان تغلق ,
هذه المرة إستطعت فتحتها ,
نعم ... إنها أمي على شفتيها ابتسامة جميلة , ما سببها يا ترى ؟
- هل أنت بخير يا إيدي ؟
بخير , نعم ربما أغمي عليّ وانا في طريقي الى المستشفى ,
نعم المستشفى .. ابي !! نهضت بفزع وصرخت (( أين أبي ؟ ))
- لا تقلق إنه بخير , لقد نجحت عمليته واستعاد وعيه لكنه لم يستطع القدوم لرؤيتك .
قالتها ولا تزال محتفظة بتلك الابتسامة ,
هذا يعني انه بخير حقاً .. الحمد لله ..
الآن فهمت كم أحب والديّ , أنا آسف حقاً لجهلي ...
لست مضطراً لأفقد أحدهما حتى أفهم كم أحبهما ...
- النهاية -
المفضلات