الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين: أما بعد فالتقوى مفتاح كل خير في الدنيا والآخرة وعنوان السعادة ، والعبد أحوج ما يكون إلى لزوم التقوى في جميع أحواله ولا يصلح حاله ويتيسر أمره إلا بذلك , والتارك للتقوى متعسر عليه أمره وفاقد للسعادة في الدنيا والفلاح في الآخرة . وقد أمر الله عباده بالتقوى فقال سبحانه ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) وقال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ) وقال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ) وقد وصى الله بها الأولين والآخرين فقال سبحانه ( ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله ) .
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ملازما للتقوى من أخشى العباد لله وأتقاهم له , وكان يسأل الله الثبات على التقوى , وكان يوصى أصحابه بذلك كما قال لأبى ذر : " اتق الله حيثما كنت واتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن" رواه الترمذي. وقال : " أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة " رواه أبو داود والترمذي,
وبين أن أهل التقوى هم أفضل الناس وأكرمهم عند الله فقد سئل صلى الله عليه وسلم " من أكرم الناس فقال اتقاهم" متفق عليه وقيل : يا رسول الله أي الناس أفضل , فذكر المجاهد ثم قال " مؤمن في شعب من الشعاب يتقى الله ويدع الناس من شره " متفق عليه. وقال صلى الله عليه وسلم " إن الله يحب العبد التقى النقي الخفي " رواه مسلم.
وكان السلف الصالح يتواصون بالتقوى. والتقوى أن يجعل العبد بينه وبين عذاب الله وعقابه وقاية تقيه من ذلك , ويكون ذلك بفعل الأوامر واجتناب النواهي , فالتقوى اسم جامع لطاعة الله والعمل بها في ما أمر به أو نهى عنه , فإذا انتهى المؤمن عما نهاه الله وعمل بما أمره الله فقد أطاع الله وأتقاه.
وقال ابن القيم : التقوى ثلاث مراتب :
(1) حمية القلب والجوارح عن الآثام والمحرمات.
(2) حميتها عن المكروهات .
(3) الحمية عن الفضول وعما لا يعنى . وقد كان السلف الصالح يتقون بعض المباحات خشية الوقوع في المحرمات , فيجعلون التقوى حائلا منيعا من الوقوع فيما حرم الله , قال الحسن : ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيرا من الحلال مخافة الحرام " وفى الحديث " لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس"
وللتقوى ثمرات عظيمة:
(1) تحقق معية الله قال تعالى ( إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ).
(2) حصول محبة الله قال تعالى ( إن الله يحب المتقين ).
(3) دوام المحبة بين المتقين قال تعالى ( الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ).
(4) تيسير الأمور قال تعالى ( ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا ).
(5) الانتفاع بالقرآن قال تعالى ( ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين ).
(6) الفلاح قال تعالى ( واتقوا الله لعلكم تفلحون ).
(7) الوقاية من الخوف والحزن قال تعالى ( فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ).
(8) قبول العمل قال تعالى ( إنما يتقبل الله من المتقين ).
(9) مقعد الصدق قال تعالى ( إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر).
(10) الحفظ من كيد الأعداء , قال تعالى ( وأن تتقوا وتصبروا لا يضركم كيدهم شيئا ).
(11) غفران الذنوب قال تعالى ( من يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا ).
(12) حصول الرزق قال تعالى ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ).
(13) الفرقان بين الحق والباطل, قال تعالى ( إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا )
(14) الحفظ من وساوس الشيطان , قال تعالى ( إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ).
(15) النجاة من النار قال تعالى ( وان منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ثم ننجى الذين اتقوا ).
(16) دخول الجنة ( تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا ).
وللتقوى طرق إذا سلكها العبد أوصلته إليها:
1- أداء الفرائض قال تعالى ( يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون )
2- مجاهدة النفس قال تعالى ( والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم )
3- الدعاء ( واجعلنا للمتقين إماما ) وكان رسول الله يدعو " آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها" رواه مسلم.
4- إتباع الحق قال تعالى ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون)
5- تلاوة القران ( وكذلك أنزلناه قرانا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا ).
وثمة أمور لا تنافى التقوى ولا تمنع الإتصاف بها :
(1) مقارفة الصغائر مع عدم الإصرار عليها .
(2) الوقوع في الكبائر أحياناً مع التوبة والإقلاع عنها , قال تعالى في وصف المتقين ( والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ).
(3) الاستمتاع بالمباحات وملذات الدنيا .
والحاصل أن من لزم الطاعة وغلب عليه امتثال الأوامر واجتناب النواهي وكان ظاهره السلامة من الآثام دخل في عداد أهل التقوى واتصف بها ولو قارف صغيره أو ألم بكبيرة أو توسع في مباح كما دل الشرع على ذلك , ولا يكاد أحد يسلم من هذا حتى الصديقين والصالحين .
والفرق بين المتقي وغيره أن المتقي وقاف عند حدود الله رجاع للحق إذا حصل منه تقصير سريع الإنابة من الغي إلى الرشد لا يغتر بحلم الله ولا يأمن مكره ، وهكذا كان حال الصحابة ، أما الفاجر فعاكف على شهوته ملازم للغفلة بعيد عن التوبة لا يقيم لحدود الله شأنا ولا يرفع بالموعظة رأسا عبداً للدنيا كأنه مخلداً فيها.
موانع التقوى :
1- الجهل .
2- إتباع الهوى.
3- حب الدنيا.
4- طول الأمل.
وقد أمر الشارع باتقاء أمور عظيمة :
1- اتقاء النار قال النبي صلى الله عليه وسلم " اتقوا النار ولو بشق تمره"
2-اتقاء الشبهات قال النبي صلى الله عليه وسلم " فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه"
3 -اتقاء الرياء قال النبي صلى الله عليه وسلم " أيها الناس اتقوا هذا الشرك فانه اخفي من دبيب النمل" رواه احمد .
4-اتقاء دعوة المظلوم " قال النبي صلى الله اتقوا الظلم فان الظلم ظلمات يوم القيامة"
5- اتقاء الشح قال النبي صلى الله عليه وسلم واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم "رواه مسلم
6- اتقاء الدنيا والنساء قال النبي صلى الله عليه وسلم " فاتقوا الدنيا واتقوا النساء"
7- اتقاء شر اللسان قال النبي صلى الله عليه وسلم " ألا أخبرك بملاك ذلك كله ؟ قلت بلى يا نبي الله فأخذ بلسانه قال : كف عليك هذا" رواه الترمذي.
وليس في قول النبي صلى الله عليه وسلم " التقوى هاهنا وأشار إلى صدره " حجة لمن زعم أن من عرف الله بقلبه كان من أهل التقوى ولو كان مفرطا في الواجبات مسرفا في المحرمات ، إنما المراد أن التقوى أصله في القلب , ومن اتقى قلبه اتقت جوارحه ومن فسدت جوارحه فسد قلبه , فالجوارح تابعة للقلب صلاحا وفسادا ، ومن ادعى التقوى وهو مطلق جوارحه في المعاصي فهو كاذب في دعواه مخالف للشرع مخادع لنفسه والله المستعان .
ومما يعين على تحصيل التقوى :
أولا : التعرف على الله بأسمائه الحسنى وصفاته وتصور عظمته وإحاطة علمه وعظيم سلطانه وقهره وملكوته , فإذا تصور العبد ذلك أورثه الخشية و الإنابة ولزوم الطاعة.
ثانيا : معرفة عذاب الله وعقابه واثآر سخطه وغضبه ونقمه ومقته والتعرف على تفاصيل ذلك في الكتاب والسنة فإذا تفكر العبد في ذلك أورث عنده مقام المراقبة والمشاهدة والمحاسبة .
ثالثا : التدبر في نعيم أهل التقوى وما أعده الله لهم من المنازل والسرور والحبور والقصور فإذا تدبر العبد ذلك أقبل على الطاعة وعظم عنده الرجاء والطمع في رحمة الله.
رابعا : النظر في سير المتقين السابقين وصحبة الصالحين وملازمتهم فان العبد إذا لازم أهل التقوى تأثر بهم واهتدى بطريقتهم.
خامسا : حبس النفس على فعل الخيرات ومجاهدتها على ترك السيئات فان النفس إذا قسرت على الخير وفطمت عن الشر شق ذلك عليها أول الأمر ثم ألفته بعد ذلك وصار عادة لها .
سادسا : الفرار من أصحاب السوء وأهل المجون و الابتعاد عن بيئة الفساد وأماكن الفتنة , فان المرء يتأثر غالبا بالشر ويألف المعصية والنفس داعية للعصيان وإتباع الشهوات محبب لها.
المفضلات