(13)
البَحرُ المالحُ!!
قال الإمام الشافعي في أول كتابه (الأم): (كل ماء من بحر عذب أو مالح فالتطهر به جائز)
فأنكر عليه المبرّد وغيره ونسبوا الإمام إلى اللحن، وقالوا: الصواب: ملح لا مالح؛ لأن الله تعالى قال: (وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ)، فأثار ذلك حفيظة الأئمة من الشافعية، كالبيهقي والجويني والنووي، وحُقَّ لهم ذلك، فالشافعي إمام في اللغة نقلا ودراية، وأجابوا بأجوبة نقلها النووي في (تهذيب الأسماء واللغات) وأقومها وأقواها: أن هذه الصيغة من الصيغ المنقولة عن العرب، يقال: ماء ملح وماء مالح، وفيه لغتان أخريان، مَليح ومُلاح، بضم الميم، ولام مخففة، نقلها أبو سليمان الخطابي، ومن شواهدها قول عمر بن أبي ربيعة:
ولو تفلتْ في البحرِ والبحرُ مالحٌ . . لأصبحَ ماءُ البحرِ من ريقها عذبَا
ووجد هذا البيت في قصيدة لمحمد بن أبي صفرة، واستشهد لها ابن برّي بشواهد أخر، وأثبتها ابن فارس والراغب الأصفهاني، والبَطَلْيوسي، وآخرون، وقالوا: إنها لغة صحيحة قليلة، ونقل الأزهري عن أبي عُمر غلامِ ثعلب قال: سمعت ثعلبا يقول: كلام العرب: ماء مالح، وسمك مالح، وقد جاء ماء مِلْحٌ ، وقال آخرون: هي لغة رديئة، ليست بالعالية، وأنكرها من المتقدمين يونس بن حبيب، وقال: لم أسمع أحدا من العرب يقول: ماء مالح..
وعدم سماعه ليس بحجة، وإنما هو مبلغه من العلم، فقد سمعها الثقاة ونقلوها ولكنهم يقولون: هي قليلة أو رديئة..
وبقي أن يقال: لأيّ معنى آثر الإمام الفصيح أو ما دونه على الأفصح؟
والجواب: أنه لا يلزم اختيار ما هو أفصح في الكلام ولا ما هو أفشى وأشهر، ولو لزم ذلك لضاع كثير من الكلام المنقول عن العرب، وفي القراءات القرآنية الصحيحة الثابتة ما وصفه النحاة واللغويون بالقلة والندرة والرداءة، بل ضعف بعضهم كثيرًا من القراءات التي نقلها الأئمة، وجعلوا كلام الشعراء الهائمين حجة على القراءة (وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ) ..
ولما كان المقام مقام خطاب للعامّة وفي مسائل الفقه حَسُن أن يُختار ما هو شائع لدى العامة.
وبدا لي فرق دقيق بين مِلْح ومالح، وهو أن الملح وصف ثابت كماء البحر، والمالح لما طرأت عليه الملوحة، كالفرق بين الصفة المشبهة، واسم الفاعل، ولهذا نظائر.

رد مع اقتباس


المفضلات