عن وابصة بن معبد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ((جِئْتَ تَسْأَلُنِي عَنْ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ)) فقال: نَعَمْ ، فجمع أناملهُ فجعل ينْكُتُ بهنَّ في صدري ويقول: ((يَا وَابِصَةُ استفتِ قلبَكَ وَاسْتَفْتِ نَفْسَكَ)) ثلاث مرات ((الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ)) رواه الإمام أحمد وحسّنه النووي والشوكاني والألباني . .
قال الشيخ ابن عثيمين:
"حتى وإن أفتاك مفتٍ بأن هذا جائز ، ولكن نفسك لم تطمئن ولم تنشرح إليه فدعه ، فإن هذا من الخير والبر ، إلا إذا علمت في نفسك مرضا من الوسواس والشك والتردد فلا تلتفت لهذا ، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما يخاطب الناس أو يتكلم على الوجه الذي ليس في قلب صاحبه مرض" . .
قال الحافظ ابن رجب:
"يعني: أن ما حاكَ في صدر الإنسان فهو إثمٌ، وإن أفتاه غيرُه بأنه ليس بإثم، فهذه مرتبة ثانية، وهو أن يكون الشيء مستنكَراً عند فاعِلِه دون غيره، وقد جعله أيضاً إثماً، وهذا إنما يكون إذا كان صاحبه ممن شُرح صدره للإيمان، وكان المفتي يُفتي له بمجرد ظَنٍّ أو مَيْل إلى هوًى من غير دليل شرعي. فأما ما كان مع المفتَى به دليلٌ شرعي؛ فالواجبُ على المُفْتَى الرجوعُ إليه، وإن لم ينشرح له صدرُهُ، وهذا كالرخصة الشرعية؛ مثل الفطر في السفر والمرض، وقَصْرِ الصلاة في السفر، ونحوِ ذلك، مما لا ينشرح به صدور كثير من الجهال، فهذا لا عِبرة به".
وليس معناه أن الإنسان يترك لقلبه العنان؛ باختيار ما يختاره، وفي محبة ما يُحِب، وفي كراهة ما يكره، فهذا يؤدي إلى ضلال مبين؛ وإنما المراد باستفتاء القلب: أن القلب يطمئن بَعْدَ معرفة حُكْم القرآن والسُّنة في هذا الأمر، فإذا كان حلالاً، وكان مما يُرضي الله -تبارك وتعالى- فإن النفس المؤمنة تطمئن إلى هذا الحكم، وأما إذا كان فيه حرامٌ، أو شبهة، فهذا يقع في النفس منه اضطرابٌ، وفِقدان سكينة، وعدم طُمأنينة؛ كما في الحديث الآخر: ((البِرُّ هو ما اطمأن إليه القلبُ، وسَكَنَتْ إليه النفْسُ، والإثم ما حاكَ في نفْسِك، وكرهتَ أن يطَّلع عليه الناس)) . .
وبعض أهل الضلال والجُهّال فهمه على ما يرغب به ، فرد النصوص وحللّ وحرّم على هواه، بدعوى (استفت قلبك)
يقول الشيخ محمد بن صالح المنجد:
"يخطئ كثير من الناس في فهم هذا الحديث ، حيث يجعلونه مطية لهم في الحكم بالتحليل أو التحريم على وفق ما تمليه عليهم أهواؤهم ورغباتهم ، فيرتكبون ما يرتكبون من المحرمات ويقولون : (استفت قلبك) !! مع أن الحديث لا يمكن أن يراد به ذلك ، وإنما المراد من الحديث أن المؤمن صاحب القلب السليم قد يستفتي أحداً في شيء فيفتيه بأنه حلال ، ولكن يقع في نفس المؤمن حرج من فعله ، فهنا عليه أن يتركه عملاً بما دله عليه قلبه " . .
"فالذي يستفتي قلبه ويعمل بما أفتاه به هو صاحب القلب السليم ، لا القلب المريض ، فإن صاحب القلب المريض لو استفتى قلبه عن الموبقات والكبائر لأفتاه أنها حلال لا شبهة فيها !"
"وهذه الجملة إنما هي لمن كان قلبه صافياً سليماً ، فهذا هو الذي يحوك في نفسه ما كان إثماً ، ويكره أن يطلع عليه الناس .
أما المُتَمَرِّدون الخارجون عن طاعة الله الذين قست قلوبهم فهؤلاء لا يبالون ، بل ربما يتبجحون بفعل المنكر والإثم ، فالكلام هنا ليس عاماً لكل أحد ، بل هو خاص لمن كان قلبه سليماً طاهراً نقياً ، فإنه إذا هَمَّ بإثم وإن لم يعلم أنه إثم من قبل الشرع تجده متردداً يكره أن يطلع الناس عليه ، فهذا علامة على الإثم في قلب المؤمن"
فالواجب على المسلم سؤال أهل العلم والعمل بفتاويهم المعتمدة على الأدلة الصحيحة ولا يرد من ذلك شيئاً بحجة ((وإن أفتاك الناس وأفتوك)) فقد قال تعالى: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} وقال صلى الله عليه وسلم: ((هلا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العيّ السؤال)).
قال ابن رجب: "فأمَّا ما كان مع المفتي به دليلٌ شرعيٌّ ، فالواجب على المستفتي الرُّجوعُ إليه، وإنْ لم ينشرح له صدرُه، وهذا كالرخص الشرعية" . .
وقد كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أحياناً يأمرُ أصحابَه بما لا تنشرحُ به صدورُ بعضهم، فيمتنعون من فعله، فيغضب منْ ذلك، كما أمرهم بفسخ الحجِّ إلى العمرة، فكرهه من كرهه منهم، وكما أمرهم بنحرِ هديِهم، والتَّحلُّل من عُمرة الحُديبية، فكرهوه، وكرهوا مقاضاتَه لقريش على أنْ يَرجِعَ من عامِه، وعلى أنَّ من أتاه منهم يردُّه إليهم.
والأصل الذي نعود إليه دوماً: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} . .
المفضلات