وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
جزاكم الله خيرا، ونفع الله بكم
يقول الشاعر :
لسانك لا تذكر به عورة امرئ فكلك عورات وللناس ألسن
وعينك إن أبدت مساوئا فصلها وقل يا عين للناس أعين.

قالَ حَكِيمٌ: لا أحسِبُ أحَدًا يتَفَرَّغُ لِعَيبِ النّاسِ إلا عن غَفلَةٍ غَفِلَها عن نَفسِه ، ولَو اهتَمَّ لِعَيبِ نَفسِه ما تفَرّغَ لِعَيبِ أَحَدٍ.
وعلى المؤمِنُ أن يُهَذّبُ نَفسَهُ قَبلَ أن يَشتَغِلَ بالتّنقِيبِ عن عُيُوبِ غَيرِه.
على المرء المسلم أن يهتم بإصلاح نفسه وتزكيتها من العيوب والآفات، كما أن عليه أن يكف عن تتبع عورات الآخرين والخوض في أعراضهم؛ فإن هذا مما لا يجوز فعله، والإنسان سوف يحاسب بين يدي الله عز وجل عن ذنوبه لا عن ذنوب غيره، فالأولى اشتغاله بها.
وهذه بعض النقاط من محاضرة للشيخ
محمد إسماعيل المقدم عن نقد الآخرين، يقول فيها :
1
- أهمية اشتغال الإنسان بعيب نفسه عن عيوب الآخرين :

عن أبي هريرة
رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يبصر أحدكم القذى في عين أخيه وينسى الجذع في عينه!)، وهذا الحديث رواه ابن حبان في صحيحه، و أبو نعيم في الحلية، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم (33).
فقوله صلى الله عليه وسلم: (
يبصر أحدكم القذى في عين أخيه) القذى: هو ما يقع في العين أو في الماء والشراب من نحو تراب ووسخ أيَّ قاذورات أو أذى أو تراب يقع، سواء في العين أو في الماء أو في الشراب، فيطلق عليه القذى.
إذاً المقصود به الأشياء الهينة الصغيرة التي تكاد لا تدرك، يبصرها الإنسان ويفتح عينيه لها ما دامت في عين أخيه -يعني: أخاه في الإسلام- وفي نفس الوقت ينسى الجذع في عينه، والجذع هو واحد جذوع النخل، وهذه من المبالغة، وكأن جذع شجرة موجود في عينه من العيوب، ثم هو يتجاهله ولا يشتغل بإصلاحه، في حين أنه يدقق ويتحرى مع الآخرين بحيث يدرك عيوبهم مع خفائها.
فيؤخذ من هذا الحديث أن الإنسان لنقصه ولحب نفسه يدقق النظر في عيب أخيه، فيدرك عيب أخيه مع خفائه، فيعمى به عن عيب في نفسه ظاهر لا خفاء به، ولو أنه اشتغل بعيب نفسه عن التفرغ لعيوب الناس وتتبعها لكف عن أعراض الناس،

ولسد باب آفات اللسان وأعظمها الغيبة، يقول الشاعر: عجبت لمن يبكي على موت غيره دموعاً ولا يبكي على موته دما وأعجب من ذا أن يرى عيب غيره عظيماً وفي عينيه عن عيبه عمى وقال الإمام أبو حاتم بن حبان رحمه الله تعالى: الواجب على العاقل لزوم السلامة بترك التجسس عن عيوب الناس مع الاشتغال بإصلاح عيوب نفسه؛ فإن من اشتغل بعيوبه عن عيوب غيره أراح بدنه، ولم يتعب قلبه، فكلما اطلع على عيب لنفسه هان عليه ما يرى مثله من عيب أخيه، وإن من اشتغل بعيوب الناس عن عيوب نفسه عمي قلبه، وتعب بدنه، وتعذر عليه ترك عيوب نفسه، وإن من أعجز الناس من عاب الناس بما فيهم، وأعجز منه من عابهم بما فيه، ومن عاب الناس عابوه، ومن ذمهم ذموه.
يقول الشاعر: المرء إن كان عاقلاً ورعاً أشغله عن عيوب غيره ورعه كما العليل السقيم أشغله عن وجع الناس كلهم وجعه كما أن العليل السقيم أو المريض يشغله الألم الذي يجده في مرضه عن ألم غيره، فكذلك ينبغي للإنسان أن يشتغل بعيب نفسه عن عيب غيره على حد قول الشاعر: أي: الجراح التي في غيري لا تداوي الجراح التي فيَّ، وقوله (ما به به وما بي بي) يعني: الأولى أن يشتغل الإنسان بالعيوب التي في نفسه.
وعن مجاهد قال: ذكروا رجلاً -يعني: كأنهم ذكروا عيوب هذا الرجل- فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (إذا أردت أن تذكر عيوب صاحبك فاذكر عيوبك).
وهذا علاج لهذا الداء على الإنسان أن لا يسهو ولا يغفل عنه، وهو أنه إذا هم أن يتكلم في عيوب الآخرين فليفكر أولاً وليذكر عيوب نفسه وينشغل بها، فسيجد فيها غنية عن أن يشتغل بعيوب الآخرين، فهذا من أدوية هذا الداء (إذا أردت أن تذكر عيوب صاحبك فاذكر عيوبك)، فإذا فتشت سوف تجد كثيراً جداً يشغلك إصلاحه في نفسك عن الاشتغال بذم غيرك.
وقال أحد السلف: إن من تصرف في نفسه فعرفها صحت له الفراسة في غيره وأحكمها.
عن محمد بن سيرين رحمه الله تعالى قال: (كنا نحدث أن أكثر الناس خطايا أفرغهم لذكر خطايا الناس) أي: لأنه إذا اشتغل الإنسان بخطايا وبعيوب الناس لا شك أن هذا سيشغله عن إصلاح نفسه، وبالتالي تكثر خطاياه، ولا يتوب منها، ولا يعاتب نفسه؛ لأنه غير متفرغ لإصلاح نفسه.

2-
بعض أسباب الحسد والبغي وتتبع عيوب الناس :
قال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: ما من أحد أحب الرياسة إلا حسد وبغى، وتتبع عيوب الناس، وكره أن يُذكر أحد بخير.
وهذه إشارة إلى أسباب هذا الداء، وهو حب وتتبع عيوب الناس، وتصيد أخطاء الآخرين، وسبب الحسد والبغي هو حب الرياسة وشهوة الرياسة، وهي الشهوة الخفية، فما من أحد أحب الرياسة إلا حسد -يحسد الآخرين- وبغى، وتتبع عيوب الناس؛ لأنه يكره أن يُذكر الآخرون بخير، وبالتالي يحاول دائماً أن يهزمهم ويحطمهم ويكشف عيوبهم من أجل أن تكون له الرياسة والعلو.

3-
تتبع الإنسان لعيوب غيره دليل على عيبه ونقصه :
كان مالك بن دينار رحمه الله تعالى يقول: كفى بالمرء إثماً أن لا يكون صالحاً، ثم يجلس في المجالس ويقع في عرض الصالحين.
فقوله: (كفى بالمرء إثماً أن لا يكون صالحاً) أي: هو في نفسه ليس من الصالحين، وليس رجلاً صالحاً.
وقوله: (ثم يجلس في المجالس ويقع في عرض الصالحين) أي: يغتابهم ويذكر عيوبهم.
وقال
أبو عاصم النبيل: لا يذكر الناس بما يكرهون إلا سفلة لا دين لهم.
وقال الشاعر: لا تكشفن مساوي الناس ما ستروا فيهتك الله ستراً عن مساويك واذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا ولا تعب أحداً منهم بما فيك وسمع أعرابي رجلاً يقع في الناس والأعراب هم البدو الرحل الذين لا يعيشون في المدن، ولا يسمعون القرآن، ولا يحضرون دروس العلم، والأصل فيهم الجهل والجفاء إلا ما استثني، كما ذكر الله تبارك وتعالى في سورة التوبة، لكن هذا الأعرابي مع ذلك نطق بالحكمة، ونطق بما تدل عليه أحدث الاتجاهات في علم النفس الحديث، حيث إنهم يفرحون بهذه الأشياء، ويظنون أنهم هم الذين أوجدوا هذه العلوم، لكن انظر هذا الأعرابي مع بساطته عبر بما يطلقون عليه الآن: (الحيل الدفاعية) التي يسلكها الإنسان ليدفع عن نفسه العوص والعيب، ومنها حيلة الإسقاط، أي: يسقط أخطاءه على الآخرين، فهو يشعر بعيب معين في نفسه، فكي يلفت النظر بعيداً عن أن ينتبه الناس إلى هذا العيب الذي هو في نفسه يرمي الناس بما فيه من العيوب، وكلما كثرت فيه هذه العيوب كلما كثر تتبع هذه العيوب في الناس، فهي حيلة من الحيل الدفاعية بالاصطلاح الحديث في علم النفس، فهذا الأعرابي سمع رجلاً يقع في أعراض الناس، فقال: قد استدللت على عيوبك بكثرة ذكرك لعيوب الناس؛ لأن الطالب لها -أي: للعيوب- يطلبها بقدر ما فيه منها.
أي: فكثرة الاشتغال بعيوب الناس تدل على وجود نفس هذه العيوب في نفسه هو، فهي عبارة عن عملية دفاعية بكونه يسقط هذه العيوب على الآخرين.
يقول: قد استدللت على عيوبك بكثرة ذكرك لعيوب الناس؛ لأن الطالب لها يطلبها بقدر ما فيه منها.
وأجرأ من رأيت بظهر غيب على عيب الرجال أخو العيوب أي: صاحب العيوب.
وقال الشاعر: شر الورى من بعيب الناس مشتغلاً مثل الذباب يراعي موضع العلل فالإنسان لو في جسمه جروح مكشوفة، وفيها الدم وفيها كذا وكذا، فتجد الذباب يحب أن يتتبع مواضع العلل والداء كي يقف عليها، فكذلك هناك أناس لهم هواية التفتيش في القمامة، فترى أحدهم عنده هذه الهواية، ويحب التفتيش في القمامة، فما يقع إلا على العلل، ولا يذكر محاسن الآخرين، لكن دائماً يفتش في القمامة، ويقلب هذه الأشياء، وهذا ما يعبر عنه الشاعر بقوله: شر الورى من بعيب الناس مشتغلاً مثل الذباب يراعي موضع العلل وهذا التفتيش في القمامة
أن من أوجب الواجبات أن يصلح الإنسان نفسه؛ لأنه لن يلي إصلاحها غيره، فهذا متعين عليه، ومن سنة القتال أن يبدأ المقاتل بالعدو الأقرب فالأقرب،
ومن أقرب الأعداء بالنسبة للإنسان نفسه التي بين جنبيه، فهي أقرب عدو قريب منه، فينبغي أن يشتغل الإنسان بهذا العدو أولاً،
ولا يشتغل بغيره في حين يدع العقارب والحيات والآفات تنهش في جسمه وتؤذيه في دينه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.