سؤال يدمع العين ويوجع القلب، لكن لابد من طرحه:
هل طويت المصاحف إنتظارًا لرمضان القادم ؟!
سؤالٌ قد نكون قد اعتدنا سماعه في الأيام الأولى من شهر رمضان، نستمع إليه مصاحباً لتزايد أعداد المسلمين في وسائل المواصلات يتلون كتاب الله، أو حينما تدخل بيتًا من بيوت الله فتجد الناس قبل أو بعد الصلوات جالسين بالمسجد تالين للقرآن.
ولكن الغير مألوف أن يسأل بعضنا بعضاً هذا السؤال :

" في أيّ وقتٍ من العام بخلاف شهر رمضان وخاصة بعده مباشرة، ترى ما كنت تراه في آيام رمضان ؟
من الصعب جداً أن تستمر تلك المشاهد بعد انقضاء شهر رمضان، إذ يعود كثير من الناس لطيّ مصاحفهم انتظاراً لرمضان المقبل.
والشقاء -كل الشقاء- حينما يبتعد المسلم عن كتاب ربه ويهجره، وخاصة بعد أيام الطاعة والقرب.
وما أصعب أن يمرّ المسلم في قراءته لكتاب ربه بتلك الآية وهي تتلى عليه:
{وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} [الفرقان:30]،
فينظر ساعتها في شأنه فيجد نفسه ممّن تنطبق عليهم هذه الآية، فما يبقى لنا حينما يشكونا رسولنا لربه؟
والأصعب حينما يشكو المسلم سوءُ دنياه و يشعر بنفسه تضيق ، فليعلم حينما يفتش في أمره أنه هجر القرآن الكريم عملًا وتلاوة ، وقال الله عز وجل عن عقوبة المعرض عن ذكر ربه في الدنيا والآخرة :
{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى. قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا. قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:124-126].

ولم تكن تلاوة أهل القرآن له موسمية قط، ولم ترتبط أبداً بطاعة الناس وفتورهم، لأنهم لا يتوقفون عن تلاوته في رمضان ولا غيره،ولذا فهم أسعد الناس حالاً وأصفاهم ذهناً وأرضاهم بما قسم الله لهم،.

ولذلك ثمرة بادية عليهم، فهم لا يلهثون في مطاردة الدنيا مع الناس ولا يحزنهم ما يُحزن الناس من فقدها، ، لأنهم يُدركون أن ما أعطوا منها هو خير مما فاتهم فيها، ولا يفرحهم إلاّ قول الله عز وجل:
{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58]،




وما خلا أهل القرآن بتلاوة كتاب ربهم إلا أذاقهم الله حلاوة ما تذوقوا مثلها تنسيهم كل لذة سبقتها أو ستلحقها، فهذا ابن تيمية رحمه الله حينما سُجن ، كان أنيسه في قلبه حينما يتلو كتاب ربه وحينما كفاه مَن سجنوه مئونة البحث عن رزقه أسدوا إليه -دون قصد منهم- نعمة جزيلة، فتفرغ قلبه للقرآن، فقال أثناءها لتلميذه ابن القيم:

"والله لو أنفقت ملئ هذه القلعة ذهباً للذي سجنني ما وَفيت حقه، لقد فتح الله عليَّ في هذا السجن من علوم القرآن ما يتمنى بعضه كبار العلماء، وإني نادمٌ على إضاعة الكثير من عمري في غير القرآن الكريم".

وأهل القرآن يشعرون بالطمأنينة به، يهتمون بحمل مصاحفهم -وخاصة إن لم يكونوا قد ختموا الحفظ بعد- قبل أن يهتموا بحمل هوياتهم، فهو النسبُ الباقي الذي يجعلهم من أهل الله وخاصته، ففي صحيح الجامع عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«إن لله تعالى أهلين من الناس». قالوا: "يا رسول الله من هم؟"، قال: «هم أهل القران أهل الله وخاصته».

وإن أعظم تكرمة لكل مؤمن أن تأتي ساعة رحيله وهو يتلو كتاب ربه ويحرك به لسانه، فإن لحظة الموت تأتي ترجمة لواقع حال الإنسان ويكون آخر كلامه في الدنيا ما عاش عليه فيها، فمن كانت حياته تلاوة للقرآن وتعظيماً لقول "لا إله إلا الله" وُفقَ لقولها قبل موته ..
ومن أعظم المشاهد التي حركت القلوب تلك الصورة التي نشرت على الإنترنت لمصحف صغير كان بحوزة أحد المجاهدين في سوريا،ولم يُفارقه حتى لحظة موته، ونال المصحف الخاص به نفس التكرمة التي نالها ،إذ نفذت الرصاصة في المصحف الشريف قبل أن تنفذ إلى قلب ذلك المجاهد، ليكون مصحفه شاهداً له عند ربه،

فإذا كان هذا المجاهد لم يتنازل عن قراءة ورده ومطالعته في كتاب ربه وهو في ساحات الجهاد وبين أشلاء القتلى،ولم يدع أن له عذراً في تركه لتلاوة كتاب ربه، فهل لأحدنا عذر في أن يضع مصحفه على رف ولا يفكر في محو التراب عنه إلا عند مستهل رمضان القادم؟!!