قد يكون الضوء أقرب مما تتصور~


فتح عينيه ببطء.. يرقب السماء الصافية من فوقه.. ويتحسس الرمل الذي أمسكه بقبضة يده.. عرف حينها أنه على الشاطئ.. لم يعد بين أحضان أمواج البحر بعد الآن.. ويبدو أنه لن يعود إليها مجددًا...

استرجع بعض ذكريات الماضي العتيق.. حب والده للبحر.. وتعلقه هو الآخر به.. رحلات البحث عن اللؤلؤ اللاتي لطالما رافق والده بها.. موت والدته الذي ترك أثرًا في قلبه...

تردد حينها صدى كلمات والدته الأخيرة في عقله: "يقف المندى بماء البحر المالح.. يخرق الأمواج بنظراته الحزينة لعالم كان ماضيه بينما الرمال تشده ليتوغل في الأدغال التي خلفه"...

لقد أخبرته بأنه سيحتاج -لا محالة- لهذه الكلمات.. وأنه ربما لن يعود للبحر حينها.. وإن أراد ذلك.. لكنه لم يذكر العبارة الأخيرة.. وكأنها مسحت من عقله تمامًا.. يعلم أنها الحل لما واجهه.. أخبرته والدته أنها مهمة جدًا.. بأهمية حياته.. ومع ذلك.. لم يفلح في استرجاعها.. وكأنها ماتت بموت صاحبتها...

لم يدرك معنى الكلمات حينها.. ازداد تعلقه بالبحر.. وبرحلات البحث عن اللؤلؤ التي أصر على مرافقة والده بها.. واكتسب خبرة والده ومهارته.. فكان بذلك بعض السلوى...

بيد أن الأمور لم تدم على هذا الحال.. تبدد كل شيء.. مذ رحلة والده الأخيرة التي لم يعد منها.. حينها كان يصارع المرض.. ولم يُسمَح له بالذهاب.. ذهبت كل محاولاته هباءً.. وعده والده أن يشارك في الرحلة القادمة.. فعل ذلك.. ذهب في الرحلة التي بعدها.. كانت رحلة بحث.. لكن الهدف منها مختلف.. رحلة للبحث عن آخر خيوط أمل قد تعيد والده إليه...

انقلبت حياته رأسًا على عقب.. لم يذهب مجددًا في رحلة بحث.. مضت عشرة أيام على فقد والده.. يشعر بأنه لا زال على قيد الحياة.. لكن نفوره من البحر ازداد.. حتى أصبح لا يرغب في وضع قدمه على الماء المالح.. وكأنه سيجد بذلك الدليل على موت والده...

اتجه إلى الغابة القريبة التي أصبح يذهب إليها.. كبديل قد ينسيه عشقه للبحر.. وإن كان يظن أن هذا بلا جدوى.. أخذ يبحث بين الأشجار عن ما يقطعه.. ويستفيد من خشبه.. ليبيعه ويكسب قوته من خلال ذلك.. تعمق أكثر في بحثه عن ما يناسب.. لم يدرك أنه وصل لطرف آخر للبحر.. لم يدرك وجوده سابقًا.. أثاره منظر بعض قطع الخشب المتناثرة على الشاطئ.. بدت له كأخشاب سفينة صغيرة.. شوه البحر معالمها.. وأحالها إلى حطام...

اقترب أكثر ليتأكد من الأمر.. ظن أنه يتوهم ذلك.. ولم يصدق عينيه اللتين وقعتا على أثر منقوش على إحدى القطع الخشبية.. كان النقش واضحًا.. انجلى بعض الضيق من قلبه.. وتضاعفت ذرات الأمل بداخله.. بما أن هذه القطع تعود إلى سفينة والده.. فمن المحتمل أن يكون والده قريبًا...

انتبه من أفكاره وهو يرى خيوط النور التي تبعثها الشمس قد بدأت بالخفوت.. لم يشعر بمرور الوقت.. يجدر به أن يبحث عن مكان ليقضي به هذه الليلة.. وبينما هو في غمار البحث.. لمح ضوءًا قادمًا من بين صخور منيفة.. قرر تحري الأمر.. ازداد معدل نبضات قلبه وهو يدنو منها.. أطلق صرخة تعج بالسعادة.. كيف لهذا أن يحدث؟! والدي هنا؟! لا يمكن...

عانق والده بشوق كبير.. وعيناه تذرفان الدموع.. لم يصدق أن والده كان قريبًا لهذا الحد.. بينما ظن والده أن البحر أتلف سفينته الصغيرة.. ورماه في جزيرة نائية لم يتمكن من تبين ملامحها سابقًا بسبب ساقه المصابة.. وانتظر شفاءها ليخوض البحر من جديد بروح مفعمة بالأمل...

أدرك الفتى بعدها أنه لم يفهم المغزى من كلمات والدته بالشكل الصحيح.. فهي قد استخدمت البحر لتشير إلى الماضي وأحزانه.. بينما مثلت الأدغال المستقبل المجهول الذي لا بد أن يمضي به.. وتذكر عندها الجملة المفقودة.. "لا تعمِ عينيك عما حولك.. فقد يكون الضوء أقرب مما تتصور"...