قال الله عز وجل : {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ
فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "أَتَاكُمْ شَهْرُ رَمَضَانَ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ، فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ،
تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ،
وَفِيهِ لَيْلَةٌ هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ" (1).
فما أعظم رمضان ! ما أكثرَ نفحاته ! ما أجلَّ كنوزه !
لكن .. ما أكثر المغرورين المعتقدين أنهم نجوا بمجرد إدراكه !!
كم من مسلم يفرح بقدوم رمضان، فيتوب مؤقتاً ويدي عبادات شكلية، ثم يظن أنه قد فاز ونجا !
وصلى الله وسلم وبارك على النبي محمد الذي نهى أن يقول الرجل : صمت رمضان كله، أو قمت رمضان كله.
وصلى الله وسلم وبارك على النبي محمد الذي يقول الحق ويهدي الله به السبيل حين بقول :
"رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ أِلَّا الْجُوعُ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ" (2).
إخوتي ..
اسمحوا لي بسرد هذه القصة :
يحكى أن رجلاً قال لآخرَ : "هل يمكن أن أصلي من غير وضوء ؟".
فأجابه على الفور : "بالطبع لا !".
فقال له : "لكنني جربت .. فوجدت ذلك ممكناً" !!
هل فهمتم هذا المثال للتجارب الساجذة في الحياة ؟!
صلى صلاة باطلة .. لكنه رضي واكتفى بحركات السجود والركوع والقيام ..
وإن فقد حقيقة الصلاة .. وظن أن ذلك ممكناً، يا له من مسكين !
قنع بالظاهر .. وأهدر الأصل .. فحبط ما صنع .. وبطل ما عمل .. بل أوقع نفسه في دائرة العذاب ..
أقصد : لا تخدع نفسك ولا ترضى بالوهم، ولا ترضي غرورك بالباطل،
عِشْ الحقيقة، وافهم الواقع .!
لذا .. فإنني أريدك أن تنظر لرمضان نظرة جديدة وواقعية تناسب هذا الزمان،
انظر لمضان بنظرة إيمانية .. فتراه كالبحر ..
نعم أحبتي ..
رمضان يشبه البحر ..
البحر عظيم، امتن الله علينا بتسخيره : {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ
وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[الجاثية:12].
تجري على سطحه الفلك بالمنافع، وتسكن في قعره كنوز اللؤلؤ والمرجان،
وبين هذا وذاك تسبح خيرات اللحم الطري.
لكن هذه الخيرات والكنوز ليست لكل من يدخل البحر !
بل أستطيع أن أقول : لا يقصدها كل من دخل البحر أو رأى البحر.
تفكر قليلاً، أغمض عينيك، وحاول أن تقوم بعملية حسابية.
كل شيء في البحر كثير كثير؛ الخير كثير .. والخطر أيضاً كثير !
يا الله !! كم حمل البحر أقواماً لمنافعهم، وأعطاهم ومنحهم ..
وكم ابتلع البحر من غرقى وأهلكهم ..
وهكذا رمضان .. كم فيه من ناجٍ .. وكم فيه من خاسر !!
سماء البحر : نجوم، وسماء رمضان : ملائكة تنزلت لسماع القرآن.
قعر البحر : لحم طري، لؤلؤ ومرجان، وليالي رمضان : عتق وغفران.
اللحم الطري في البحر، يشبهه في رمضان العبادات السهلة، الجميلة،
ونفس الوقت : المُوصِلة لرضا الله عز وجل.
أميَز شيء في رمضان دون غيره من باقي الشهور جماعية الطاعة؛
الأمة كلها صائمة ..
الأمة كلها تصلي التراويح ..
الأمة كلها تقرأ القرآن .. المصاحف في كل مكان ..
الأمة كلها تقوم الليل .. كأن الأمة كلها في المساجد ..
الأمة كلها تفطر في وقت واحد ..
الأمة كلها مستيقظة في وقت السحر تأكل وتدعو، وتصلي الصبح ..
جماعية الطاعة ... هذا هو رمضان، وبركات رمضان، وألطاف رمضان، ونفحات رمضان .. لحم طري !
اللؤلؤ والياقوت والمرجان في البحر .. يشبهها في رمضان جواهر الغفران :
فللصائم دعوة مستجابة، ولله كل ليلة عتقاء من النار، وتفطيرك للصائم يهبك مثل أجره ..
سبحان الملك !!
وخذ أيضاً إشارة؛ كم وصَّل البحر محبَّاً لحبيبه، وكمل وَصَلَ المحبون برمضان إلى التقوى والرضوان !!
سبحان الله العظيم !!
كم في البحر من خير لقوم هو شر على آخرين ! إعصارٌ قاتل، شرّد، وأمات، وأباد ..
لكن؛ كم شفى قلوب الموحدين، وأذهب غيظ قوم مؤنين، شماتةٌ في الذين عَذَّبوا المسلمين !
ينشق البحر لموسى : رحمةً له ولقومه، وهو غم على فرعون وقومه !
الموجة التي ترفع السفينة لأعلى، إلى أن تصل إلى السماء، هي نفس الموجة التي تُغرق الذين لم يركبوها !
وكذلك رمضان ساعدة لقوم، وشقاء على آخرين !
تأمل النفحات التي تُرسَل وتفيض مع أول لحظة من لحظات رمضان :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ،
وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَيُنَادِي مُنَادٍ :
يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِ أَقْصِرْ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلِكَ كُلُّ لَيْلَةٍ" (3).
سبحان الله .. من أول موجة !لكن الانتفاع بهذه النفحات ليس لكل مَن أدركها ..
ليست المنة فقط في إدراك فتح أبواب الجنة، وتصفيد الشياطين؛ لأن رمضان كالبحر،
ليس كل من رآه أو نزل فيه يفوز بما يحويه.
تأمل : قال الله عز وجل في سورة النحل : {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا
وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[النحل:14].
اقرأ الآية جيداً .. النعمة ليست هي البحر .. النعمة تسخير البحر !
فأسأل الله أن يسخر لنا رمضان كما سخر لنا البحر بنعمته ..
وكذلك رمضان؛ مجرد إدراكه ليس هو الفوز، وإنما الفوز في اغتنام بركاته :
عن طلحة بن عُبيد الله رضي الله عنه أن رجلين قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وكان إسلامهما جميعاً، وكان أحدهما أشد اجتهاداً من صاحبه، فغزا المجتهد منهما فاستشهد،
ثم مكث الآخر بعده سنة ثم توفي، قال طلحة : فرأيت فيما يرى النائم كأني عند باب الجنة،
إذا أنا بهما وقد خرج خارج من الجنة، فأذن للذي توفي الآخر منهما، ثم خرج فأذن للذي استشهد،
ثم رجعا إلي، فقالا لي : ارجع فإنه لم يأن لك بعد، فأصبح طلحة يحدث به الناس فعجبوا لذلك،
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "مِنْ أَيِّ ذَلِكَ تَعْجَبُونَ ؟" قالوا : يا رسول الله،
هذا كان أشد اجتهاداً، ثم استشهد في سبيل الله، ودخل هذا الجنة قبله !
فقال : "أَلَيْسَ قَدْ مَكَثَ هَذَا بَعْدَهُ سَنَةً ؟" قالوا : بلى،"وَأَدْرَكَ رَمَضَانَ فَصَامَهُ ؟" قالوا : بلى،
"وَصَلَّى كَذَا وَكَذَا سَجْدَةً فِي السَّنَةِ ؟" قالوا : بلى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"فَمَا بَيْنَهُمَا أَبْعَدُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ" (4).
أدرك رمضان ... فصامه حقاً !
ولاحظ الفرق بين مجرد الإدراك وبين الإيمان والاحتساب :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيْمَانَاً وَاحْتِسَابَاً؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذّنْبِهِ،
وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيْمَانَاً وَاحْتِسَابَاً؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذّنْبِهِ" (5).
وقال صلى الله عليه وسلم : "مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيْمَانَاً وَاحْتِسَابَاً؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذّنْبِهِ" (6).
إذاً هو الإيمان والاحتساب شرطان لحصول الأجر وللفوز ببركات رمضان ..
أما إدراك رمضان بلا توفيق، فليس فقط خسارة حسنات، وإنما شقاء وعذاب !
إن لم يُغفر لك في رمضان، فأكبر مصيبة نزلت عليك أنك أدركت رمضان !
لذا؛ فهذا الكتاب ينذرك الغرق، يعلمك الإبحار إلى بر الفردوس الأعلى.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "آمِينَ، آمِينَ، آمِينَ" فقيل له :
يا رسول الله، ما كنت تصنع هذا ؟ فقال : "قَالَ لِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : رَغِمَ أَنْفُ عَبْدٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ
فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ، فَقُلْتُ : آمِينَ، ثُمَّ قَالَ : رَغِمَ أنْفُ عَبْدٍ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ أَوْ أَحَدِهِمَا فَلَمْ يُدْخِلْهُ الْجَنَّةَ، فَقُلْتُ : آمِينَ،
ثُمَّ قَالَ : رَغِمَ أنْفُ عَبْدٍ ذُكِرْتَ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْكَ، فَقُلْتُ : آمِينَ" (7).
تأمل هذه الألفاظ : "رَغِمَ أَنْفُ عَبْدٍ" و : "فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ" ..
وتأمل هذه الكارثة نعوذ بالله منها : "فَقُلْتُ : آمِينَ" !
سيد ولد آدم، حبيب الله صلى الله عليه وسلم، يُؤّمِّنُ على دعاء كبير ملائكة الرحمن جبريل عليه السلام
فيقول : "آمين"، إنه دعاء قمن أن يستجاب، وكأن قد !!
فإذا استقر عندك ذلك .. فهلم إلى مركب الاستعداد لاغتنام بركاته ..
فِرَّ إلى سفينة النجاة من النار .. اركب فلك التهيؤ لعلو الهمة في العبادة !
(1) أخرجه النسائي (2106)، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (55).
(2) أخرجه ابن ماجه (1690)، وصححه الألباني في "صحيح سنن ابن ماجه" (1371).
(3) أخرجه ابن ماجه (1642)، وصححه الألباني في "صحيح سنن ابن ماجه" (1339).
(4) أخرجه الإمام أحمد (2/333)، وصححه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" (372).
(5) متفق عليه، أخرجه البخاري (1910)، ومسلم (760).
(6) متفق عليه، أخرجه البخاري (1905)، ومسلم (759).
(7) أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (646)، وصححه الألباني في "فضل الصلاة على النبي" (15).
المصادر : كتاب "قلب جديد لمن يريد"، محمد حسين يعقوب.
المفضلات