|| زهرة النرجس ||
" إنك لن تعانق الراحة بدون التعب، ولن تخلد السعادة لكَ ويفنى الألم؛ ولكنّ الأمل صناعتك، واليأس من ابتكارك ".
يُسند رأسه على يده التي تستند بدورها على طاولةٍ أمامه، بجلوسه على كرسيه مقوس الظهر، إنارة ضئيلة انبثقت من مصباحه المثبت على الطولة، يقبع أسفلها كتابه النصف مفتوح؛ هكذا ابتلع الصمت وأطبق على المكان.
تتراقص عقارب ساعة المنبه الصغيرة التي أمامه، معلنةً التمرد على سكون المكان وصمته؛ تأرجحت عبرةٌ على أهدابه، لتعزف لحنًا موسيقيًا، قبل أن تختمه بألم السقوط؛ سقطتْ وغيرَّت من لون صفحة الكتاب، بعد أن بللتْ جزءًا منها.
تكورتُ أختها الكبرى، معلنةً عن تكون أخرى، حتى تستعرض عزفها على الأهداب، وألحان ألمها في السقوط، وتتوج ذاك ببركة ماءٍ مالحةٍ صغيرةٍ!
وقبل أن تسقط، انبثق صوت رنين المنبه، يزلزل أرجاء السكون، ويقتل الصمتَ وهو رضيع.
فتح عينيه، لتسقط عبرتُه المعلقة، بجرأة عالية، وخشونة شديدة، لا تأبه برقة الصفحة التي ستسقط عليها؛ وانتهى الأمر، مخلفةً بركة ماءٍ، أكثر انتشارًا من أختها الأولى.
أرسل يده إلى منبهه، طلبًا للصمت، فوافقه؛ نظر إلى كتابه الذي كان يعرض آخر صفحاته قليلًا، ثم شاح ببصره عنه مبتسمًا؛ ليحدث نفسه قائلًا: " مع أني أنهيتُ دراستي لامتحان اليوم، إلا أن القدر أراد مني أن أغفو بجواركِ ".
أكمل ابتسامته، وخالطها بالأسى، ونثر على أطرافها أمارات الحزن، قبل أن تتوجها لؤلؤتان فاضت عنهما عيناه؛ ثم انصرف.
انصرف وبقية تلك الزهرة النرجسية تحني رأسها بحنانٍ أمٍ منبثق، وهي تعد أيامها الأخيرة، قبل أن يعتريها الذبول تمامًا.
يخرج من داره الصغير، منطلقًا نحو مدرسته، لتقديم امتحان اليوم؛ تاركًا وراء ظهره، المكان مبعثرًا في الداخل.
يتأرجح رأسه يمنةً ويسرةً كأنه يعاني الثمل!، ثم ينتهي به المطاف راضخًا نحو الأسفل؛ وقد أرضختُه الهموم المثقلة.
يتذكر كيف كان صباحه يبدأ تملؤه العطور بشذاها؛ ذاك الشذى المنبثق من زهرة النرجس، التي ما فتئت والدتُه تجمعها وتزين بها الدار؛ والدتَه التي كانت النرجس بذاته، حيث بياض قلبها وشذى عطائها.
ينظر إلى حاله كيف استحال، في الوقت الذي تسقط إحدى الزهرات أرضًا، مقلوبةً على مقدمتها رأسًا على عقب، بفعل نسمات الهواء؛ كأنها تواسيه في حاله، أو أنها تزيده جفاء حزن!
أنس طالبٌ ثانوي، مقبلًا على التخرج؛ يدرس في سنته الأخيرة، وها هو يهم لتقديم ما تبقى من امتحانات عامه هذا.
يسعى وسط الأسى، لتحقيق حلم أمه فيه، أن يكون خريجًا متميزًا؛ لعله يلتحق بفرع الطب، بعد أن عيي الأطباء مرض والده العضال، فمات على إثره!
زهرة، أو هكذا اسمها؛ من لقيت حتفها، إثر انفجارٍ ضخمٍ هز سكون الصباح؛ وقد أخذ ذاك الانفجار، يبعثر القوم أشلاءً هنا وهناك، دون رحمةٍ لأي فردٍ كان في الجوار.
لم يكن هنالك من سبيل للتعرف على زهرة، بعد أن ستحالت زهرةً متفحمةً وممزقةً!؛ ومثلها كان العديد.
إلا أن ما يدعى بالمحفظة، كانت أداة المعرفة، بأن هذه المتوفية، اسمها زهرة؛ فيساق لأنسٍ مع سوق امتحاناته، هذه الفاجعة!
يتذكر يومه ذاك، الذي ذهب فيه برفقة جده - والد أمه -، فلم يجدا حتى جثة، بل أشلاء لا تدرك منها هوية؛ سلّم لهم ذاك الشخص محفظتها التي كانت بحوزها، وأخذا يعاينا هويتها المتفحمة، ونقودها المحترقة.
ترقرقت قطرات الندى على الأزهار، مع مطلع الصباح؛ في الوقت الذي ترقرق ندى عيني أنس، على وجنتيه البيضاويتين.
رفع يده ليمسح عينيه فيبصر دربه، إلا أنه اصطدم بشيءٍ قبل أن يتم ذاك؛ نظر إليه وهو يرتدي زيه العسكري، وسلاحه الذي يحمله، ليمتد بصر أنس عن الشخص نحو الحاجز الذي خلفه.
" ماذا عساكَ تريد؟؟!! ".
" مدرستي، إنها خلفكَ، ودربي من هنا! " هكذا أجاب أنس.
" أولا تبصر بأن الطريق مغلق!!، هيا ارتحل ".
" ولكن، لدي امتحاني، عليّ أن أقدمه ".
يستدر الرجل مشيرًا إلى أنس بأن يرحل.
لملم أنس حقيبته التي سقطتْ إثر الاصطدام، في الوقت الذي كان يلملم فيه آماله التي بُعثرت.
طرد من خاطره كل ذكرى وألم وشجن، ناشدها الصبر أن تنتظر عودته لدياره فيقضي معها كل الزمن.
الآن عليه أن يسلكَ طريقًا أطول، لأجل أن يصل إلى مدرسته التي لم يكن الفاصل بينه وبينها كبيرًا!
ينطلق مسرعًا طاردًا للذكرى وراء ظهره، فتناديه زهرة نرجس سقطت أرضًا؛ ينظر إليها نظرةً خاطفة، فتحنّ الريح لحاله، فتحملها وتخفيها خلف ظهره.
أُوقِف وأُوقِف انطلاقه السريع، الذي كان الأمل منه لحاق أي شيءٍ من الامتحان؛ أوقِفا بحواجز تفتيشٍ في المدينة، فهذا يطلب منه الهوية الشخصية، وآخر يريد أن يناظر حقيبته الصغيرة.
حتى أخذت الطيور تغرد مسليةً إياه في موقفه الطويل، في الوقت الذي كان الأسى والحزن يغردان على محاكاه، ولا تداعب حواسه سوى خيبة الأمل؛ كيف لا وامتحانه على وشك أن يرتحل!
أخذ يمشي مشيًا إلى مدرسته، بعد أن تجاوز كل العوائق؛ يمشي وقد خاب أمله في لحاق الامتحان، بعد ضياع ما ضاع من وقتٍ وميعاد؛ في الوقت الذي أخذت فيه نسائم الصباح، تهدِّئ من عليلها، تماشيًا مع حاله!
وصل إلى مدرسته، فأخذتْ أذناه تلتقط أصواتًا، فسرها على أنها أهازيج من حضر؛ رفع رأسه المثقل بالخيبة، ليتغيّر حال عينيه من اكتئابٍ أثقل الأجفان إلى اتساعًا حُشي الذهول!
كان مبنى المدرسة قد استحال حطامًا، ونيران بجواره تغازله بأطرافها، وأفواج الطلبة يهرعون من داخله إلى الخارج!؛ السبب: " انفجار ضخم في المبنى المجاور، هدمه ليهدم ما حوله كذلك! ".
حمل السلامة في يمناه، وغنيمة العافية في يسراه، واستدار يهلل لسانه حمدًا لله؛ ثم أخذ يعود أدراجه صوب دياره.
يصل إلى منزله، وقد مزجت خيبته بغبطة؛ أراد دخول داره غير أن زهرة نرجسٍ نضرةٍ متفتحةٍ، تقطن عند الباب أسفله، أخذت تناديه.
التقطها حاملًا إياها، وهو يحاور التعجب الذي في داخله: " ما هذه؟!! "؛ أو: " من أين هذه؟!! "؛ أو: " من الذي وضع هذه؟!! ".
يظل للنرجس في نفس أنس وقعًا خاصًا خالصًا، فهي أكثر ما يذكره بوالدته المتوفاة حديثًا.
يكتفي بابتسامة لنرجسته التي اجتذبها من الأرض، ثم يصطحبها إلى داخل الديار، كي يمضيان نصيبها من الليالي والأيام سوية.
يضع عنه حمل حقيبته ليتحسس بتلات نرجسته، في الوقت الذي كان قد وضع فيه أتراحه ليعانق روح أمه المنبثقة من زهرته.
أخذ يجول ببصره في المكان وهو ينطلق صوب غرفته، لم يكن ممرًا طويلًا ليسمح له بإطالة إطراق البصر، غير أنه التمس توضيب المكان مع غرفته، بعكس ما أودعهما عند تباشير الصباح.
أخذ يحدث نفسه وهو يدخل الغرفة: " لابد أن هذا من فعل جدي " ويبتسم رغم الألم!.
فأنس يعيش بالقرب من جده، الذي هو في قلقٍ عليه بعد وفاة أمه قبيل امتحاناته؛ ولكنه لا يعيش معه، بعدًا عن ضوضاء بيت العائلة الكبير.
" شكرًا جدي " هكذا نطق بكلماته بصوتٍ مسموعٍ، قبل أن يدخل إلى غرفته منطلقًا صوب نرجسته التي على وشك الذبول والفراق.
وضع الزهرة النرجسية النضرة التي اجتذبها قبل قليل، إلى جانب أختها شبه الذابلة؛ ثم قال: " هكذا صار لديكِ من يرعاكِ، فقد صرتما زهرتين اثنتين " وابتسم ابتسامةً عذبةً، لونت ثغره.
" اجعلهما ثلاثةً إذًا! " هكذا أتاه صوتٌ مؤلوفٌ من الخلف.
استدار إلى الخلف بوجل، ليجد الزهرة الأكثر تفتحًا ونضرةً في ناظره بين الزهرات كلهن.
" كيف .. أين .. متى .. ولماذا " ومن شاكلتهن كلماتٌ أخرياتٌ، غصن في حلقه حد اختفاء الصوت؛ في الوقت الذي تجرأت أطرافه على شلل المصادفة، لترمي به في الحضن الدافء الذي لطالما ارتمى فيه.
استسلم لاختفاء صوته، وخضع للكليمات الغائصات في مجرى تنفسه، وأعلن المودة لثلوجٍ جمدته مكانه بعد أن صار في حضن أمه.
ليعلم بعد أنين وحنين، وعصائر عودة الروح، مع حساء المودة، وكبسولة الوقاية من الأسى؛ اللواتي قُدِّمنَ له برؤية وجهها - أمه - مرةً أخرى.
ليعلم ويتبيّن له، بأن أمه أسقطت محفظتها بعد شرائها لمستلزمات وجبته المفضلة؛ وقد كانت امرأةٌ تركض خلفها لاهثةً، لأجل أن تعيد المحفظة لها؛ بيد أن الانفجار حال بينهما، وحال بين كل شيء!
تُوفيت المرأة الحاملة لمحفظة أم أنس، والمقاربة لأم أنس عمرًا؛ إزاء إصابة أم أنس بجروحٍ وإصاباتٍ عديدة، نُقلتْ على إثرها إلى المستشفى للعلاج؛ في الوقت الذي لم يدرك أحدهم هويتها، لعدم حملها ما يثبت هويتها.
قضتْ من الزمان ما قضتْ في العلاج، ثم صحتْ لتعود إلى ابنها؛ معلنةً إشراق شمس أملٍ جديدةٍ، وغياب سُحُب كابوسٍ أسود!
النهاية
يتبع ...

رد مع اقتباس


المفضلات