~|بينَ البراعمِ والتويجات دماء | في روايةِ الروحِ المُظلمة || Darken Soul |~

[ منتدى قلم الأعضاء ]


النتائج 1 إلى 20 من 64

مشاهدة المواضيع

  1. #18

    الصورة الرمزية Michelle Kris

    تاريخ التسجيل
    Jul 2010
    المـشـــاركــات
    1,709
    الــــدولــــــــة
    العراق
    الــجـــــنــــــس
    أنثى
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: ~|بينَ البراعمِ والتويجات دماء | في روايةِ الروحِ المُظلمة || Darken Soul |~


    عُذراً على التأخير! ><""
    لكن الجزء طويل -w-
    أتمنى أن تستمتعوا به :"")
    +
    تمت إضافة أول رسمة خاصة بالجزء *^*
    ان شاء الله الاجزاء القادمة كذلك ستحوي رسماتٍ خاصة بها :"")


    الجُزء الثامِن..//|*|~مأساةٌ تلاها دِفئٌ واستغراب~|*|//..
    //
    ..
    بَحثتُ عَن قابسٍ لِأُنيرَ المَكان فمشيتُ مُتلمِّساً الجِدار.. وأَنا أتحسَّسُ المِقبض إذا بِجسمٍ غريبٍ يَرتطِمُ بِجسدي جاثِياً عَلى الأَرض.. فتحتُ الأَنوارَ لِيتراءى لِي وَجهُه.. لحظة واحدة.. لانس؟!
    //
    ..
    فتحتُ عَينيَّ لأستفيقَ مِنْ كابوسٍ لَم أَشهد لهُ مثيلاً ولا نظيراً.. كان قَلبِي يَخفقُ بسرعةِ الأُسودِ فكادَ ينكسِرُ مُتحطِّماً لِأشلاء مِن رماد.. وَضعتُ يداً عَلى جَبينِي وَالأُخرى أَمسَكتْ بِقمِيصيَ الدّامِي ناحِيةَ قَلبي فِي مُحاولةٍ فاشِلةٍ لِأُخلِّص نَفسِي مِنْ كُلِّ تلكَ الأَفكارِ الّتي اجتاحَتْ عَقلِي تِلكَ اللحظَة.. صَوبَ ساعةِ الحائطِ وجّهتُ نَظرِي فَكانتِ السادِسة والنصف صباحاً.. نهضتُ مُباشرةً وانطلقتُ نحوَ الحمّامِ فغطستُ فِي حوضٍ شبهِ باردٍ عَسى أَنْ يستيقظَ جَسدِي مِنْ غَفوتِهِ وتتجمّد أَفكارِي قَليلاً.. خَرجتُ بَعدَ ساعةٍ وانتهيتُ مِنْ حَزمِ أَغراضِي للرِحلةِ الأَخيرة..
    //
    ..
    سَلّمتُ عَلى عَمِّي واتّجهتُ صَوبَ طائرةٍ خاصّةٍ جَهّزها لِي بِنفسِه.. عُدتُ إلى طوكيو أَخيراً وَجبلُ فوجِي كَان المَكانَ حَيثُ اتّجهت نحوَهُ قدمايَ مُباشرة.. كانَ التاريخُ قد صادَفَ الخامِسَ والعِشرينَ مِن شهرِ دِيسمبر والساعةُ انطبقتْ عَقارِبُها على الخامِسةِ مساءً..
    //
    ..
    أَحسستُ بالراحةٍ وأَنا أَصعدُ الجَبل ومَنظرُ الثلوجِ المُتراكِمةِ على القمّةِ يلوحُ أَمامِي والدُّنا تعصِفُ برداً ناحِيةَ جَسدِي.. لَمحتُ المَنظرَ حَيثُ أنا وَاقِفٌ بِمُفردِي والنّاسُ كالنِمالِ يبدونَ فِي الأَسفل.. إستَدرتُ ناحِيةَ القِمَّةِ حَيث وطأتْ قَدمايَ البُقعةَ المطلوبة.. إِلتقطتُ الزُّمردة المُلتحمةَ مِنْ حَقيبَتِي ِليبدأَ بالإشعاعِ حالاً بذاكَ اللونِ الأخضرِ شديدَ اللّمعان.. فإِذا بالأرضِ تهتَزُّ بِشِدَّةٍ لِتُخرِجَ مِنْ باطِنِها مِنصَّةً حجرِيَّةً قديِمة..
    //
    ..
    إقتربتُ ناحِيتها واضِعاً الحجرَ الزُمُرُّديَّ خاصّتِي في المكانِ المَطلوبِ فإذا بالعِباراتِ تصطفُّ واحِدةً تِلوَ الأُخرى: "((نحلمُ ونبحثُ في العقول، والأحلامُ لاتفهمُ مانقول، ولا نستطيعُ إلاّ أن ننسى، في عالم أحلامِ المأسى،. ستستمِرُّ الأحلامُ بالظهور، والأفعالُ تقومُ بما في ذِهننا يجور، والطريقُ لا يشعُّ إلاّ بالنور، الّذي علينا فتحُ بابهِ الّذي يدور،. ستنطلقُ الأضواءُ في طريقك، وتنوّرُ لكَ مسلكك، ولاحاجةَ للقلق، فالرُعبُ قد زالَ وإنطلَق،. والآن بعد أن فتحناه، سيتبيّنُ الطريقُ الّذي بنيناه، لتسيرَ عليهِ إلى أن تصلَ إلى مبتغاك، وتنطلقَ إلى حيثُ تريدهُ قدماك))" واكتملتْ أَخيراً:"(( بِصُحبةِ رَفيقِك ))"..
    //
    ..
    صَدمةٌ أَوقفتنِي فِي مَكانِي صامِتاً.. إِشتدّتِ الرّياحُ فأطاحت بي أَرضاً.. جَثيتُ عَلى رُكبتَيَّ مُحطماً وَعينايَ اتّسعتا حدَّ الجُنون.. وَعقلِي سينفجِرُ كالبالون.. نُورٌ ساطِعٌ بَرقَ أَمامِي فأُغمِي عَليَّ جرّاء الصدمةِ خائرَ القِوى.. فَتحتُ عَينَيَّ لِأستشعِرَ الأَلمَ حَيثُ اختفَتِ الزُّمُرُّداتُ عائِدةً إِلى حَيثُ كَانَت.. ثُمَّ أَحسستُ بِألمٍ حادٍّ فِي رأسِي كأنَّ أَحداً ما أَجرى لِي غَسيلاً لِدماغِيَ المُتجمِّد..
    //
    ..
    نَهضتُ وقد اكتَسى وَجهِي بِعلاماتِ الغضبِ والاكتئابِ الحاد.. عاوَدتُ السَيرَ نَاحيةَ قَصرِي حَيثُ حَفرتُ لِمشاعِري قَبراً أَضعُها فِيهِ وإلاّ لَماتَ الجَمِيعُ جَرّاءَ خُروجِ الوَحشِ فِي داخِلي.. كَان صُعودُ الجَبلِ سَهلاً إذاً لِمَ أَشعُرُ بِأثقالٍ عَلى كَتِفَيَّ مُستقرُّها الآن..؟ جَلستُ تَحتَ ظِلِّ شَجرةٍ مُحدِّقاً ناحيةَ الغُروبِ أَمامِي والدِّماءُ تتساقطُ مِن مُقلتَيَّ بِحُرقةٍ شَديدة..
    //
    ..
    أَمامَ عَينيَّ جَدولٌ يجرِي فِيهِ الماءُ مُسرِعاً.. ذهبتُ ناحِيتَهُ فاغتَرفتُ بيديَّ غُرفةً ورميتُها عَلى وَجهِي كَي أَستفيقَ قَليلاً مِن هَذا الّذِي أَراهُ أَمامِي.. حَشائِشٌ وَرياحينٌ وَعِطرُ الزُهورِ المُختلط بِعبيرِ القدّاحِ وَنسيمِ الهواءِ الباردِ ذاك الّذي ارتطَمَ بِجسدي.. نَحنُ فِي الشِتاءِ إِذاً ماذا أَرى؟! صَفعتُ وَجنتِي قائِلاً "عُد إلى رُشدِك!".. هَكذا صَرختُ وأَنا أَضرِبُ جِذعَ الشجرةِ بيَدِي وَندفاتُ الثلجِ قد كَستْ كِليهِما.. وَقفتُ فإذا بِألمِ رأسِي يَعودُ وذِكرياتٌ مِن طُفولَتِي تَستعِيدُ عافِيتها.. أَنا أعلمُ بِأنّها الذِّكرياتُ ذاتُها ولكِنَّ أَلمَ رأَسِي غَيرُ طَبيعيٍّ إطلاقاً.. فِي حالتِيَ المُزريةِ تِلكَ حاولتُ السَير وأنا لا أَدرِي أَكُنتُ أَخطو بشكلٍ مُستقيمٍ أَم كان جسَدي يتهاوى على صفحاتِ الثلجِ الأبيضِ ذاك..؟
    //
    ..
    فِي الواقِع.. كُنتُ قَد جَثيتُ عَلى رُكبتَيَّ وأنا لا أَشعُرُ بِعصبٍ يتحرّكُ مِنْ جَسدِي.. رَأسِي يكادُ ينفجِر، لا أُريدُ سماعَ أَيِّ صوتٍ إِطلاقاً.. نَظرتُ صَوبَ السّماءِ الأُرجوانيّةِ المُلبّدةِ بالسُحبِ السوداءِ الداكِنة بعَينينِ تعصّبتا بِشكلٍ أَعمى وجسَدِي قد فَقدَ الإِحساسَ رُبّما..
    //
    ..
    فِي تِلكَ اللحظاتِ المُزرية، إذا بِي أَرى طائراً صَغِيراً التَهمهُ صَقرٌ جارِحٌ كَما التَهمنِي الغَضبُ فجأةً فبدوتُ أحمَقَاً وجبَةً سائِغَةً يتلَذّذُ بطعمِها غضبِي المُنفجِر.. نَهضتُ بَعدَ استِجماعِي لِقِوايَ وحاولتُ إكمالَ طَريقِي.. سِرتُ مُنتصِبَ القامةِ أَخيراً.. لَيتَ الدّهرَ يأخذُني إلى حَيثُ أشتَهِي ويترُكَني فِي هُدوءٍ ورخاءٍ واطمِئنان.. لكِنَّ الدهرَ ليسَ هكذا، فالدهرُ لا يترُكُ أحداً بِسلامٍ وأمانٍ حَتّى يُحطِّمَهُ جسديّاً ونفسِياً ويترك الدموعَ تسيلُ على وجههِ فالدهرُ يفعَلُ بالنَّاسِ ما يشتهِي..
    //
    ..
    أَنا مُرهق.. أُريدُ الوُصولَ إلى قَصرِي بأَقصى سُرعة.. أَسيرُ فِي طَريقِ عودتِيَ الحزين مُتأمِلاً فِكرِيَ المسكِين.. لَقَد سَئمتُ السَّيرَ حقَّاً.. لَم أعُد أتحمَّلُ السيرَ خُطوَةً أُخرى علَى قَدمَيَّ هاتَين.. رَكِبتُ مِزلاجَيَّ السوداوَينِ وانزلقتُ عَلى الجَليدِ بِسُرعةِ البرقِ إذ يُجاريهِ الرعد..
    //
    ..
    كانَ الثّلجِ يُغطِّي المكانَ ويأسُرُهُ فِي بَحرٍ مِن البياضِ اللّامُتناهِي.. وأنا فِي تِلكَ اللحظاتِ الغريبَةِ مُتقلِّبَةِ المِزاج شَعَرتُ بالرِّياحِ تَعصِفُ بِجسدِي وفَقدتُ السيطَرَةَ على حَركاتِي.. لَمْ أَلحظ نفسِي إلاّ وهِيَ مُتهاويةٌ على الأرضِ جاثِية، وكاحِلي ملوِيٌّ بِشِدَّة.. حاوَلتُ مُعالجَةَ هذا الألمِ لكنَّنِي كُنتُ مُنهارَ القِوى تمَاماً.. نظَرتُ إلى السماءِ مِن هَذا السَّفحِ العظيمِ الّذي سقطتُ فِيهِ فرأيتُ الشَّمسَ تنوِي الرَّحيلَ وتركَ القمرِ ليُتِمَّ مهمَّتهُ فِي إنارَةِ هذا العالمِ الأسودِ الدّاكِن..
    //
    ..
    نَهضتُ مُستجمِعاً قوّتِي خالِعاً حَقيبتِي مُلقِياً بِها أرضاً.. بالطبعِ لَن أَصِلَ الليلةَ إلى قَصرِي فاتّخذتُ قَراراً بالتّخييمِ عَسى وَلو أَرتاحُ مِن صَرخاتِ الضوضاءِ فِي طوكيو وتَستقرّ أَفكارِي فِي أماكِنِها وَيعودُ عَقلِي إلى الواقِعِ المَرير.. حلَّ الليلُ وأَنا جالِسٌ فِي عُزلتِي قُربَ تِلكَ النِّيرانِ الحمراءِ المُلتهِبةِ أتأمَّلُ روعةَ القَمرِ وسِحرَ النُجوم.. كانَ الجوُّ بارِداً لكِنَّ المشهدَ أَمامِي كانَ دافِئاً للغاية..
    //
    ..
    بقيتُ أَتأمّلُ ما تراءى لِناظِري لِمُدّةٍ طالَ الأمدُ فِيها.. حَذبتُ بذِراعَيَّ قدمَيَّ ناحيةَ جِذعِي وَدَفنتُ رأَسِي أَعلاهُما.. أَنا وحيد.. لَا أَظُنُّنِي سَأرى ذِكرياتِي عائِدةً إِليّ.. كَيف لا وأَنا القاتِلُ الأَسودُ الّذي عاشَ طُفولتهُ فِي أَحضانِ العُزلة.. والآنَ سَأعودُ إلى صَيدِ المُجرِمين تَحتَ هَدفِي بِتخليصِ الكونِ مِنْ أمثالِ مَنْ عِشتُ فِي السجنِ مَعهُم.. هَكذا استمرّتْ أَفكارِي وانتشرتْ بَينَ النُجومِ حَتّى استسلمتُ للإرهاقِ فدخلتُ خَيمتِي بَعدَ إِخمادِي للنيرانِ الهائِجةِ وغفوتُ إلى نومٍ عَميق..
    //
    ..
    إستيقظتُ فِي اليومِ التّالي على بَريقِ الشَّمسِ اللّماعِ يتغلغَلُ الخَيمةِ إلى عَينَيَّ حيثُ أزاحَ جفنَيَّ وجعلَني أنهضُ بِبُرود فِي هذا الصَّباحِ الكئيبِ هُوَ الآخَر.. غَسلتُ وجهِي وتناولتُ بعضَ التُّفاحِ الأحمرِ فنهَضتُ لِأُعيدَ خَيمَتي إلى حَقيبتِها وهَمَمْتُ بالرَّحيلِ مِنْ هُنا أَخيراً.. لَقدْ زالَ الألمُ عَنْ كاحِلي فسِرتُ على قدَميَّ عائِداً لِأُقابِلَ قَصرِيَ الحزين ..
    //
    ..
    كُنتُ قَدْ ركّنتُ درّاجتِي النّاريةَ حِينَ عُدتُ أَمس إِلى طُوكيو فِي مَوقفٍ لِأَعودَ بِها.. فَحينَ وَصلتُ كَان الزّمنُ حَيث فيهِ الطُيورُ تستفيقُ مِنْ نَومِها.. رَكِبتُ الدّراجةَ عَلى عجلٍ وكان النّاسُ فِي المَدينةِ خائفِينَ مِن عَودتِي المُرّة.. لقدَ عادَ دارك روبرت ميريوفا إلى طوكيو، عادَ قاتِلاً عَديمَ الرحمةِ قاسِيَ القلبِ مُتعطِّشاً لِدماءِ ضحاياه القادمين.. تعرّفَ الجميعُ مِمّنْ رآنِي على هَيئتِي بِلمحِ البصرِ ولم يعرِفوا إِنْ كانوا قَد سَمِعوا خَبراً أسوأ مِن عَودةِ القاتِلِ الأسودِ إليهمِ أم لا..
    //
    ..
    وَطأتْ قدماي مَقبَرةَ أحلامِي البائِسة أخيراً، قَصري الأَسود الّذهبِي! دخَلتُ حديقَةِ القصرِ ورَكَّنتُ درَّاجتي فِي المرأبِ قبلها.. كانَتِ الحديقَةُ مُغطَّاةً بالثُلوجِ البيضاءِ النَّاصِعَة فَلمْ تكُن مُناسِبةً لِعودَتيَ الحزينةِ البائِسة.. تجوَّلتُ فِي الحديقَةِ البيضاءِ تِلك وذهبتُ صَوبَ زهرَتِي السوداء الّتي تسخَرُ الآنَ مِن فشلِيَ فِي رحلتيْ بِكل تَأكِيد..
    //
    ..
    وَصلتُ إليها فرأيتُها تُشِعُّ ببرِيقِها الأسودِ اللَّماعِ فارِشةً تُويجاتِها كأنَّها فِي الرَّبيعِ لا الشتاء.. أمسَكتُ بِساقِها الأحَمرِ حَيثُ أشواكها السَّوداء الحادّةُ جاذِباً إيّاها ناحِيتي فبدأتُ أُحدِّقُ فيها وعَينايَ تَشتعِلانِ غضباً وسعادَةً بِرُؤيتِها، لا أَدري كَيف ولكِنني كُنتُ مُتقلِّبَ المزاجِ حِينها.. قَبَّلتُ تويجاتِها السوداء بَعدَ استِنشاقِي لِعطرِها الجَذَّابِ ذاكَ قُبلَةً فَرَّغتُ فِيها كُلَّ غضبِي وألمِي داخِلَها فكانتِ المقبرةَ ذاتها الّتي عَنيتُها سابِقاً.. ترَكتُها مُبتعِداً عَنها وذهبتُ عِندَ النّافورةِ الأَزليّة مُمرِّراً يدَيَّ فِي مِياهِها البارِدةِ الّتي لَمْ تتجَمَّدْ بَعد وبدأتْ يَدايَ تَخْدَران مِن شِدَّةِ بُرودَتِها والآلامُ تتسارَعُ إلى قَلبي مُعلِنَةً أنَّهُ ساحَةُ إنفِجارِها القادِم..
    //
    ..
    بَقيتُ هُناكَ فِي الحديقَةِ آخُذُ أنفاساً عَميقَةً عَلَّني أرتاحُ قليلاً مِن هذهِ الآلامِ الحزينة.. تأمّلتُ بِعُمقٍ جمالَ الثلجِ المُتساقِطِ بخِفَّةٍ على الأرضِ كالريشِ النَّاعِم حِينَ يسقُطُ مِنْ جسَدِ الطُيُورِ فِي الأعالِي.. هَكذا بَقيتُ حوالَي رُبعِ ساعَةٍ هُناكَ فِي الحديقَةِ الخَلفِيَّة.. ثُمَّ باشَرتُ بالنُهُوضِ ذاهِباً إلى داخِلِ القَصرِ الفارغ.. مَشَيتُ فِي إستِقامَةٍ وفَتحتُ بابَ القَصرِ الحَزينِ بيَدَيَّ النحيلتَين الشاحِبَتين مُستعداً لِتفريغِ أحزانِي داخِلَه..
    //
    ..
    ما أنْ وطأتْ قَدمايَ الأرضَ حَتَّى هَبَّتْ مَوجَةٌ مِنَ الرِّياحِ البارِدة تغلغَلَتْ بينَ خُصلاتِ شَعرِيَ الأسودِ وجعَلَتْ جَسدِي يرتعِشُ برداً مِن شِدَّتِها.. أَلقَيتُ تحيّةَ الوداعِ عَلى أحزانِي فِي القصرِ مُخبراً إيّاها بأَنْ تتجَوَّلَ فِي القصرِ لِتترُكَ قلبِي وشأنَ.،. نفضتُها مِن قلبِي بأنفاسٍ عمِيقَةٍ مُتتالِيةٍ زفرتُها حَيثُ شعرْتُ بالّراحَةِ أكثَرْ.. فتَركَتني ببُرودِ ومَشاعِرِ الوحشِ السابِق عائِداً إلى رُشدي وطبيعَتي كَما كُنتُ قبلاً بارِداً غيرَ مُهتَمِّ لِأيِّ شيء.. لِأيِّ شيء..
    //
    ..
    تَجوَّلتُ فِي أَرجاءِ القصرِ الذابِلِ فِي صفحاتِ الدهرِ القاتِلة.. مرّ وَقتٌ لَمْ أَتجوّل فِيه هُنا، كَثيرةٌ هِي الغُرفُ الّتِي هَجرتُها.. دَخلتُ فِيها واحدةً تِلوَ الأُخرى وَكانتِ الدُنيا قَد مَاتتْ فِيها كُلّها.. أَخيراً وَصلتُ إِلى غُرفةِ أَبويَّ الّتي لَم أَتقرَّبْ مِنها بَعد وَفاتِهِما.. أَخذتُ المِفتاحَ وبِصُعوبةٍ فَتحتُهُ إِذ أَنَّنِي أَعلمُ عِلمَ اليقين.. بِأَنَّ دُموعاً قد انهَمرتْ على وَجنتَيَّ مُذ أَمسكتُ بقَبضةِ الباب..
    //
    ..
    كَانتْ غُرفةً دافِئةً رُغمَ أَنَّ لا مِدفئةَ فِيها.. صورَةُ أَبِي وأُمِّي الموضوعَةُ عَلى الرفِّ كَانت لَطيفة.. فَتحتُ أَلبوم الصُّورِ عَلِّنِي أَستعيدُ بَعضَ ذكرياتٍ قَد نَسيتُها.. حينَ فَتحتُ القُفل.. تراءَتْ لِي صُورةٌ ثُلاثيّة لَنا حِينَ وِلادَتِي.. قلّبتُ الصفحاتِ حَتّى ارتسمتِ البسمةُ عَلى وَجهِي لِرُؤيتِهِما أَخيراً.. كُنتُ قد نسيتُ شكلَ وَجهِهِما المُضيءِ تقريباً، حَمداً للهِ أَنّ هذهِ الصُور.. لا تَزالُ مَوجودة.. حِينَ وَصلتُ إِلى الصّفحةِ الأَخيرة، إِذا بِبطاقةٍ بَيضاءَ ترمِي نَفسَها على الأَرضِ فجأة.. إلتقطتُها بِيدي وَإِذا بِي أَرى اسمِي مَكتوباً عَليها.. فتحتُ البِطاقةَ لتترتّبَ أَمامِي الحُروفُ مُبيِّنةً ما جاءَ فِي نَصِّها..
    //
    ..
    ((نَعلمُ أَنَّكَ ستفتحُ هَذا الأَلبومَ يَوماً ما، عَزيزنا دارك.. لقد قدّمتَ لَنا بِهذا أَفضل حَياةٍ تمنَّيناها وكُنتَ أَفضل ابنٍ قَد نتمنّاهُ يوماً.. نُحبُّك.. والِداك)).. حُزنِي وبُكائيَ الصامِتانِ جرّاءَ هَذهِ الأَسطُرِ القَليلةِ كادا يفطِرانِ عَقلِي إلى نِصفَين.. جَثيتُ عَلى سَريرِهِما الدّافِئِ وأَلمُ صَدري يَكتُمُ أَنفاسِي.. ماذا أَفعلُ لِمَعرفةِ مَنْ أَبعدكُما عنِّي..؟ ماذا أفعل..؟ ماذا أَفعل..؟
    //
    ..
    أَخذتنِي غَفوةٌ أَفقتُ مِنها بَعدَ فترةٍ فانطلقتُ صَوبَ الحمّامِ كَي أُريحَ أَعصابِي وَجسدِي فِي مياهٍ دافئةٍ فأَنتهِي لِأَرى عَلى التِّلفازِ أَنَّ مُؤتمراً عِلميّاً قَد بدأَ لِتوِّه.. بدّلتُ ثِيابِي وذهبتُ مُسرِعاً نَحوهُ فَدخلتُ وَإِذا بِي أَراهُم قَد بدأوا النِّقاش.. نَظرَ الجميعُ ناحِيَتِي فَهلعُوا فَرفعتُ يدَيَّ أَنْ لا سِلاحَ مَعي.. إلتَقطتُ أَنفاسِي أَخيراً فإذا بِعَينيَّ أَفتحُهُما لِأَرى تِلكَ العالِمة.. ماليسّا.. تَلاقَتْ أَعيُنُنا فابتَسمَتْ قائِلةً: "عُدتَ أَخيراً"..
    //
    ..
    تعرَّفتُ على بعضِ الحاضِرينَ مِمَّنْ لَمْ يَهلعُوا لِرؤيَتِي إِذ أَنَّهُم كانُوا مَعِي فِي المُؤتمرِ السابِق.. كانَ هَؤلاءِ يَنظُرونَ ناحِيتِي فَعلِمتُ مَطلبهُم.. مَاذا جَرى فِي الرِّحلة..؟ صَعدتُ المِنصَّةَ وأَلقيتُ كَلماتِي فِي الهواءِ قائِلاً: "عُذراً عَلى المُقاطعة.. مِمَّا لا شكَّ فِيهِ هُو تساؤلُكم الحادُّ حَولَ كَونِي نَجحتُ فِي رِحلتِي أَم لا؟ حَسناً.. لقَدْ فشلتْ"..
    //
    ..
    صُعِقَ الحُضورُ جرّاءَ العِبارةِ الأَخيرة فتابعتُ حَتّى أَنهيتُ كَلامِي أَن: "كانَ السّببُ فِي الخِتامِ واضِحاً جلِيّاً.. كُنتُ وَحيداً فِي رِحلَتِي تِلك، وَكان مِنَ المُفترضِ أَن أَصحبَ رَفيقاً مَعِي للعُبور.. هَكذا اختُتِمتِ المسأَلة، شُكراً لإِصغائِكُم".. تنازَلتُ عَنْ مَجلِسي وأَخذتُ أَنسحِبُ مِنَ المنصَّةِ شَيئاً فَشيئاً.. خَرجتُ مِنَ القاعة وأَنا أَنظُرُ ناحِيةَ السّماءِ فَخجلتِ الشّمسُ واتّخذَتْ مِنَ العتمةِ غِطائها فأَتى القَمرُ..
    //
    ..
    "دارك، تمهّل!" مِنْ وَرائِي تَردّدَ صَوتُها فاستدرتُ لِأَرى ماليسّا تنهتُ مُحاوِلةً أَخذَ بَضعَ أنفاس.. تنهّدتُ بضحكةٍ خفيفةٍ قائِلاً: "أَكُنتِ تتبعينني؟" فأجابتْ بصوتٍ مُتقطعٍ: "أَجل، كُنتُ أَودُّ إخباركَ بشيءٍ قَبل رَحيلِكَ ولكِنَّ الشّجاعة لم تُسعِفنِي حِينَها".. نَظرتُ لَها باستغرابٍ مُنتظِراً لَفظَها لِما فِي قَلبِها فنَطقتْ قائِلةً: "رِحلتُكَ لَنْ تكونَ هَباءً مَنثوراً، أَنا واثِقةٌ بِأَنَّكَ تَفهمُ مقصدَ كَلامِي يا دارك.. شُكراً لكَ على كُلِّ مُخاطرتِكَ بحياتِكَ لأَجلِ إثباتِ صِحّةِ ما تَناقشنا بِشأنِهِ لِفتراتٍ طِوالٍ ماضِية".. كَلِماتُها عَذبةٌ مُلحّنةٌ كما كلِماتُكِ يا أُمِّي.. وجّهتُ نَظرِي صوبَ عَينيها المُختبِئتينِ خَلف تِلكَ النّظاراتِ اللامِعةِ قائِلاً: "أَشكُركِ جَزيلَ الشُكر، آنِسة كريستابيل"، "عَفواً.." أجابت على مهل..
    //
    ..
    نَظراتُها كانتْ تُوحِي لي بالمزيد، "أَمِنْ مُشكِلة؟" سأَلتُ قائِلاً فأجابتنِي بابتسامةٍ تملؤها الدُّموعُ أَنْ: "بلِّغ تَحيّاتِي لِلسيدة آليستيا إِنْ زُرتَ قَبرها يَوماً مّا".. صَدمةٌ وَصمتٌ عَميقٌ اجتَاحَ المكان.. أَنَّى لَها مَعرِفةُ والِدتِي؟! سَألتُها باستِغرابٍ وَفُضولٍ شَديد: "مُنذُ مَتى وُأنتِ تَعرِفينَها؟" فأجابتْ وَهِيَ تُجفِّفُ دُموعَها الساخِنة: "قَد يَبدو الأَمرُ غَريباً بَعضَ الشَّيءِ إلاّ أُنَّ والِدتِي صَديقةُ طُفولَتِها وَزميلتُها لِعشرةِ سِنين"..
    //
    ..
    تَبدِو كَتوأمِها الروحيِّ لا صَديقتها.. هذا ما تردَّدَ فِي ذِهني في تِلكَ اللحظةِ الصّادِمَة.. أَومأتُ لَها بإيجابٍ قائِلاً: "قد نَويتُ زِيارةَ قَبرَي والِدَيّ غداً، أَأنتِ مُتفرِّغة؟".. رأَيتُ الدُّموعَ تترقرقُ راقِصةً فِي عَينَيها فأَومأَت بدورِها قائلةً: "أَحقاً بِإمكانِي الذَّهاب..؟" فأَجبتُ بِإيماءٍ مُوافِقاً "سأَلتقِي بكِ في الخامِسةِ مساء الغدِ هُنا إِذا".. إنحنيتُ مُودِّعاً إيّاها فانحنَتْ بِدورِها كأَميرةٍ لا هُدوءَ لِمثيلاتِها..
    //
    ..
    سِرتُ فِي طَريقِي نَحوَ مُتنزَّهِ النُّجومِ اللامعةِ وأَنا أَشعُرُ بِقلبِي ينبِض، كانَتْ أَوَّلُ امرأَةٍ أُحادِثُها بَعدَ أُمِّيَ الغالِية.. وَصلتُ بعدَ فترةٍ مِنَ السَّيرِ مَضتْ حَيثُ دَخلتُ لِأرى أنَّ المكانَ أصبَحَ مُختلِفاً كثِيراً، رأيتُ الألعابَ والإلكترونيَّات تخترِقُ جِدارَ الطبيِعَةِ حيثُ اقتُلِعَتِ الأشجارُ فَحلَّتْ مَحلَّها الألعابُ الغَريبَةُ تِلك.. خَشيتُ أنَّهُم قَد قَضَوا عَلى مَكانِ راحَتي الّذي أقصِدُهُ لِلتَّمتُّعِ بالطَّبيعَةِ الخَضراءِ السّاحرةِ فِي جَوٍّ مِنَ الهُدوءِ فأَسرَعتُ كأنِّي أعدُو وأسِيرُ فِي آنٍ واحِد، وحِينَ وَصَلتُ رأيتُهُ سالِماً مُعافاً لَمْ يَمسسهُ ضرر..
    //
    ..
    جَلَستُ مُثَبِّتاً ظَهري عَلى جَذعِ الشَّجرةِ الكبيرَةِ حَيثُ أشعُرُ بالإسترخاءِ كُلَّما اتّكأتُ عَليها.. أبصرتُ البُحَيرةَ الزرقاءَ أمامِي ورأيتُ انعِكاسَ النُّجومِ فيها كالمَصابيحِ الصَّغِيرَة الَّتي يُحِبُّها الأطفالْ، كانَ المكانُ يَعُجُّ بالنَّاسِ وصَرخاتُ مَرَحٍ الأطفالِ داخِلَ الألعابِ لا يَصِلُ البُقعَةَ الَّتي أجلِسُ قُربَها..
    //
    ..
    تَوقَّفتُ قَليلاً وأنا أنظُرُ بِحِدَّةٍ وبُرودٍ إلى العَدَم والفَراغِ كأنَّهُما مُجرِمانِ أكرَهُهُما حَتَّى المَوت.. فِي تِلكَ الأثناءِ واللحظاتِ الصّاخِبة، لَم أشعُرْ سِوى أَنَّ يَداً تشُدُّ السُّترَةِ الَّتي أرتدِيها.. إستدرتُ ناحيةَ يَمينيْ لِأرى طِفلَةً صَغيرَةً بِعُمرِها الرَّبيعيِّ، شقراءُ الشَّعرِ ناصِعةُ البياضِ زرقاءُ العَينَين تَرتَدِي فُستاناً زَهرِيَّ اللَّونِ زاهٍ كالورد.. أصابَتنِي نَوبَةٌ مِنَ العفوِيَّةِ والحنانِ حِينَ تراءتْ لِي براءَةُ وجهِها ذاك كأنَّني أَرَى ملاكاً أَمامِي، نَطقَتْ بِصوتٍ رقيقٍ هادِئ: "عُذراً سيِّدي، أَبإمكانِكَ مُساعدتِي؟"..
    //
    ..
    إنحنيتُ مُقترِباً مِنها قائِلاً: "بالطبع، ما اسمُكِ يا صَغيرتِي؟" فردّتْ بِفرحٍ قائِلةً: "أُدعى كايتي"، "وأَنا دارك، أَخبِريني كَيف أُساعِدُكِ؟" أَجبتُها بهُدوءٍ عَميقٍ مَعَ ابتِسامةٍ طَفيفةٍ فأجابَتْ بِدورِها: "فقدتُ أَثر والِديّ، أُريدُ العودةَ إليهِما"، شَعرتُ بالأَسى تِجاهَ هذِهِ الطِّفلَةِ المِسكينةِ وكَيفَ أنَّها أضاعَتْ والِدَيها، بدأتُ أفقِدُ بُرودي فأَمسيتُ لطيفاً فِي تِلكَ اللحظةِ القَصيرَةِ مُمسِّداً على شَعرِها الذَّهبِيِّ قائلاً:"لا تقلَقِي، سنجِدُهُما.. تعالَي مَعي"..

    //
    ..
    قُلتُها وأنا مادٌّ يداً إِلَيها وعلى وجهِي نُحِتت ابتِسامَةٌ سَعيدةٌ، فقَفزَتِ الطِّفلَةُ فَرِحاً فأعطتنِي يدها، أَمسكتُ بِها وسِرنا صوبَ رِجالِ الأمْنِ الموجُودينَ لِهكذا أُمور.. كانَتْ كايتي تَنظُرُ لِغزلِ البناتِ وعَيناها تتلألأن ناحِيتهُ فاشتريتُهُ لَها فشكرتنِي ونطقت اسمِي بطريقةٍ مُضحكةٍ فتبسّمتُ بِعفوِيَّةٍ وفَرَحٍ لَم أشعُر بِهما مِن قبلُ أبداً.. وهَكذا أكمَلنا طَريقَنا ووَصلنا إلى رِجالِ الأمْنِ المُرتعِدينَ خوفاً مِن رؤيَتِها مَعِي.. "أَلم يَبق سِوى الأَطفال؟ أُتركها وشأنها أيُّها القاتِلُ الأَسود" قالَ أحدُهُم فتجاهلتُ الأَمر ورددتُ ببرودٍ متحجِّرٍ: "هذهِ الطفلةُ أضاعتْ والِدَيها وَطلبَتْ مِنِّي مُساعدتها" صُعِقَ رجالُ الأَمنِ فقالَ آخر بتردُدٍ: " حَسناً أعطِني معلوماتٍ عَن والِديها كَي نَبحَثَ عَنهُما"..
    //
    ..
    بَعدَ فترةٍ وقبلَ وُصولِ والِدَي كايتي إلى حَيثُ نَحنُ واقِفانِ عانَقتنِي كايتي مُحوِّطةً ذِراعَيها الصَّغيرتَينِ حَولَ عُنُقِي قائلةً: " أشكُرُكَ مِن أعماقِ قلبي سيِّد دارك، لَن أنسى لَكَ مَعرُوفكَ هَذا أبداً"، فعانقتُها بِدوري هامِساً: "هذا واجِبي"
    //
    ..
    إنتصبتُ واقِفاً ورِجالُ الأمنِ لا يُصدِّقونَ ما يتراءى أمامَهُم وكَيفَ أَنَّ القاتِلَ الأَسوَد لَديهِ هَذِهِ المشاعِرُ كُلها، أنَّى لِوحشٍ امتِلاكُ المشاعرِ هَكذا..؟ إلاّ أَنَّني فِي الحقيقَةِ لَستُ وحشاً كَما يظُنُّ الجميعُ على الإطلاقْ.. بعدَ ثوانٍ معدودَة، وصلَ والِداها راكِضَين مُعانِقَينِ إيّاها عِناقاً قَوِيَّاً وأَجهشتْ والِدتُها بالبُكاءِ فَرَحاً فَقدْ عادَتْ إليهَا ابنتُها.. هَمَمتُ بالرَّحيلِ والانسِحابِ كَي لا يَرانِي والِداها فيُصدمانِ إِذ يعرِفانِ أنَّني مَن ساعَدها.. فحينَ ابتعَدتُ قالَتْ والِدتُها لِرجالِ الأمنِ أنْ: "شُكراً لَكم عَلى هذا الصّنيع" فردّت كايتي قائِلةً ببهجةٍ وسُرورٍ: " لَولا السَّيدُ دارك ماكُنتُ قَد عُدتُ يا أُمِّي!" توجّهتِ الأَنظارُ ناحِيتي وأَنا أَختفِي بَين الزِّحام..
    //
    ..
    تلاشتِ ابتِسامَتِي وبهجتِي لحظةَ انبِعاثِ ذاكَ الصوتِ الّذي يتَرَدَّدُ فِي أُذني كُلَّما سَمِعتُه، كانَ حَتماً صوتَ إطلاقِ نيران.. رَكَضتُ مُسرِعاً والصَّوتُ يترَدَّدُ فِي أُذني حتى وُصولِي، كان زُقاقاً ذا مَدخَلٍ واحِدٍ ومَمرِّ ضيِّقٍ يُؤدِّي إلى الشَّارعِ الآخر.. إستطعتُ دخولَهُ وراقبتُ ما يَجرِي خَلفَ جِدارٍ يكادُ يتهشَّم.. ثلاثَةُ رِجالِ شُرطة مَعَ سَيَّارتينِ خلفهُم يحمِلونَ السِّلاحُ صوبَ مُجرِمٍ يشُدُّ على رهينَتِهِ مُوجِّهاً السِّلاحَ نحوَه.. بدأ الطرفانِ يتحدَّثان خِلالَ وَضعِي لِرصاصةٍ داخِلَ سِلاحيْ..
    //
    ..
    كاد رِجالُ الشُّرطةِ يفقِدونَ صوابَهُم جَرَّاء هَذا فلا عضَلة بإمكانِهم تحريكُها ولا أَسلِحَتهم يستطيعونَ إفلاتَها.. خَرجْتُ واقِفاً خلفَ المُجرِمِ دونَ أنْ يَشعُرَ أحدٌ بِوجودي أو بِتحَرُّكي حَتّى، وجَّهتُ سِلاحي خَلفَ ظهرِهِ مُستعِدَّاً لِإطلاقِ رصاصَتيَ المـُستدِيرة.. أطلَقتُ النَّارَ فَسقطَ جُثَّةً هامِدةً على الأرضِ لِيتحرَّرَ الرَّهينَةُ أخِيراً إلاَّ أَنَّ الشُّرطَةَ صُعِقواْ حِينَ رأواْ وَجهي فقَد مَضى وَقتٌ طَويلٌ عَلى لِقائِي بِأَمثالِهِم.. إبتَعدتُ عَنِ الزَّقاقِ فَتبِعَني أحَدُ رِجالِ الشُّرطَة شادّاً على كَتِفي بِقُوَّةٍ قائِلاً: " لِماذا فَعلتَ ذلِكَ يا دارك؟!"
    //
    ..
    إستدَرتُ ناحيتَهُ فواجهتُ عَينيهِ مُحدِّقاً فيهِما بِحِدَّةٍ وأَنا أَجذِبُ ياقتهُ بِقوَّةٍ قائِلاً: "مِنَ الأَفضلِ لَو تَقولُ شُكراً عَلى تَخليصِنا مِنه، لا تتدخَّل فِي شُؤونِي ثانيةً".. أَبعدتُ يَدِي عَنهُ فسَقطَ على الأرضِ مُرتعِشاً.. ركضَ إليهِ أحدُ الآخَرَينِ وتَبِعَنِي آخَرُ قائِلاً: "دارك، مهلاً!" توقَّفتُ مُستديراً نَحوَهُ بِصمتٍ فأكملَ كلامَهُ أَنْ: " ماذا فَعلتَ بِه؟"، رَددتُ ببُرودٍ قائِلاً: "لَم أَفعَل شَيئاً سِوى قَولِ الحَقيقة"، فصعقنِي ردُّهُ أَنْ: "دارك.. تغيّرتَ بَعدَ الرِّحلة"..
    //
    ..
    سارَ مُعاكِساً اتجِّاهِي تارِكاً إِيّايَ فِي صَمتٍ حائِراً.. مَنْ أَنتَ؟ قالها عَقلِي يائِساً.. أَزحتُ وَجهِي إلى النّاحِيةِ الأُخرى وعُدتُ إِلى حَيثُ قَصرِي وَزهرَتِي ينتَظِرانِ تربُّعِي عَلى العَرش.. تشابكتِ الأَفكارُ فِي عَقلِي والكلِماتُ الّتي نَطقها تغلغلَتْ فِي أُذُنِي حَتّى اشتدَّ وقعُها فبدأَتْ تُزعِجُنِي.. أَنَّى لَهُ مَعرِفتِي وأَنا لا..؟
    //
    ..
    الفجرُ ضبابِيٌّ غائِمٌ ماطِرٌ حِينَ أَفقتُ مِنْ نَومِي.. كَان الجوُّ جَميلاً رغمَ هذا كُلِّه، نَهضتُ فأَخذتُ حَمّاماً سَريعاً وتوجّهتُ نَحوَ الحَديقةِ لِأرى زَهرَتِيَ السَّوداءَ الجَميلةَ فشَعرتُ بِجَوِّ قارِصِ البردِ فِي الخارِج وأحسَستُ بِأنَّ الثَّلجَ كَوَّنَ لِي صُورَةً بَيضاءَ عَنْ جَمالِ هَذا البُرودِ إِذ كَوَّنَ شَخصِيَّةَ قاتِلٍ مأسُورٍ فِي جَليدٍ جَعلَ مِنهُ مَلِكاً وحِيداً بِلا مَلِكة، ولَيسَ هُناكَ مِنْ داعٍ لِملِكَةٍ فأنا مَلِكٌ فَقدتُ المشاعِرَ الدَّافِئةَ..
    //
    ..
    جَلَستُ مُتّكِئاً على أحَدِ أطرافِ النَّافورَةِ البَرَّاقةِ فِي تِلكَ الحَديقةِ الباهِتة، بدأتُ أنظُرُ إلى انعِكاسِ صورَتِي عَلى صَفحاتِ مِياهِها المُتجَمِّدةِ فَكانَتْ مِرآةً مَصقولة.. كُنتُ أَشعُرُ بِبُرودَةَ الطَّقسِ فِي ذاكَ الجَوِّ فقَدْ أحسَنَتْ فِي وَصفِ حالَتي المُتدَهوِرة.. نَظرتُ نَاحِيةَ زَهرَتِي الفاحِمة فرَأَيتُها قَويَّةً مُنتصِبَةَ القامَةِ لَم يُؤثِّر عليهَا الطَّقسُ ولا أَزالَ جَمالَ ألوانِها فلا تَزالُ بَرَّاقةً كَما عَهِدتُها.. نَهضْتُ مِنْ مَوضِعي وسِرتُ مُتَّجِهاً نَحوها، فَبدأْتُ أشعُرُ بِرَوعَةِ قُوَّتِها وصُمودِها ذاك كأنَّني أُريدُ أنْ تَكونَ هِيَ مُلهِمَتي وسَبيلَ صَفاءِ أفكارِي ..
    //
    ..
    داعبتُ تُوَيجاتِها النّاعِمة السُّود بِيديَّ البيضاءِ الثَّلجِيَّة فكانَتْ ألوانَاً مُتضادَّةً تَماماً، كُنتُ أشْعُرُ بالرَّاحَةِ وأنا أُلاعِبُ هَذِهِ التُّويجات وَهذهِ الأَشواك وكأنَّها ألعابُ أطفالٍ لا غَير.. إِرتَجفَتْ مَشاعِري وهَبَّتْ عاصِفةٌ عاطِفيَّةٌ هائِجَة حِينَ تراءى لِعينَيَّ لِأوَّلِ مَرَّةٍ مَنظَر الزَّهرَةِ وَقَدْ سَقطَتْ لِلتَوِّ تُويجَةٌ مِنها عَلى الثُلوجِ المُتراكِمة الَّتي تَغطِّي الحَشائِشَ المَيِّتة.. هَذِهِ اللَّحظة، جَعلَتْ أنفاسِي تضِيق وبَدأتُ أشعُرُ بِغصَّاتٍ مِنَ الأَلمِ تَجتَاحُ صَدرِي فِي مِنطَقةِ قَلبي غَيرِ الموجود، لِماذاَ هَذا الشُّعورُ فجأةً يا تُرى؟
    //
    ..
    بدأتُ أَتشعِرُ الأَلمَ كَما لَم أشعُر بِهِ قَطُّ فِي حَياتِي كُلِّها، على رُكبتيَّ جَثَيتُ ويَدي عَلى صَدرِي قَدِ استقرَّتْ تَشُدُّ سُترتِي أَلماً.. سائِلٌ أَحمَرُ قاتِمُ اللونِ يُلَوِّثُ مَوجاتِ الثَّلجِ الأَبيضِ أَمامِي، دَم..؟ أَجل، هَذا دَمِي! وَلكِن كَيف؟! ولِماذا؟! نَظرتُ ناحِيةَ الزّهرةِ فسَقطَتْ تُويجَةٌ أُخرى مِنْ عَرشِها مِنها وَعادَ هَذا الشُعورُ يَهُزُّ قَلبي المـَعدُوم مُجدَّداً، تقلَّبتُ عَلى نَدفاتِ الثلجِ مُحطَّماً وقَلبِي كَان يَشتعِلُ أَلماً..
    //
    ..
    إِختَفى هَذا الشُّعورُ بَعدَ حِينٍ فَذهبتُ ناحِيتَها مُتعجِّباً وعلاماتُ استِفهامٍ تحومُ فَوقَ رَأسِي.. إِلتقطتُ التُّويجَتينِ وَذهبتُ ناحِيةَ قَصرِي بَعدَ أَنْ تراءى ذاكَ الشُّرطِيُّ فِي خاطِري، سأُجيبُ عَنِ الأَسئلةِ تتابُعاً.. بَحثتُ عَبرَ صَفحاتِ الإنترنت فِي مراكِزِ الشُّرطةِ عَنْ أَيِّ دَليلٍ قَد يَقودُنِي إِلَيه، فكانَ مَنزِلُهُ قَريباً بعضَ الشّيءِ مِنْ الموضِعِ حَيثُ أَنا..
    //
    ..
    وَصلتُ فرأَيتُهُ واقِفاً خارِجَ المنزِلِ باتِّجاهٍ يُعاكِسُنِي مُحدِّقاً ناحيةَ السّماء.. إِنتصَبتُ خَلفهُ مُحوِّطاً عُنُقَهُ بِكفَّيَّ عَلى مَهلٍ فَقالَ بِعدَ ضِحكةٍ خَفيفةٍ: "أَليسَ مِنَ الأَفضلِ لَو أَخبرتَنِي قَبلَ مَجيئِكَ لِأَستقبِلكَ يا دارك؟"، أَبعدتُ يديَّ عَنهُ فاستدارَ ناحِيتِي حِين قُلتُ: "كَيف عَلِمتُ أَنَّهُما يدايَ تَحديداً؟" فَردَّ ضاحِكاً أنْ: "صِدقاً يا دارك؟! أَلا تعلمُ أَنَّهُ لا تُوجَدُ يَدانِ فِي الدُّنيا بِأسرِها بِهذا البُرودِ سِوى يَداك؟"..
    //
    ..
    نَظرَنا صَوبَ أَعيُنِنا بِصمتٍ فقالَ مُستبِقاً الأَحداثَ: "تُريدُ الحديثَ مَعِي بِأمرٍ مّا، أَليسَ كذلِك؟"، "أَجل" رَددتُ فتقدَّمَنِي نحوَ مَنزِلِه ناطِقاً: "إذاً تَفضّل مَعِي فِي غُرفةٍ هادئة".. تَبعتُهُ بِصمتٍ فَجلسنا فِي غُرفةٍ كَبيرةٍ اجتاحَ الصّمتُ والسُّكونُ مُعضَمَ مَساحتِها، بَدأتُ الحِوارَ قائلاً باستِغرابٍ وَفُضولٍ: "أَتعرِفُنِي؟ وإنْ كُنتَ كَذلك، فَمن أَنت..؟"
    //
    ..
    إتَّسعَتْ عينا ذاك الشُّرطِيِّ بِدهشَةٍ وكأنَّني قُلتُ أمراً لَمْ يَكُن عليَّ قولُه، نَطقتُ بتعجُّبٍ مُستفسِراً:"أقُلتُ شَيئاً غريباً؟"، أجابَ عَليَّ بِصوتٍ كُلُّه إستفسارات وعلاماتُ إستِفهامٍ وتعجُّب :" أنتَ تَمزَح، صَحيح؟!"، أَومأتُ لَهُ بالنَّفِي فَفتَحَ لِي فَمَهُ بإستغرابٍ أكبر وقَال مُجيباً بتعجُّبٍ قوِيٍّ على سُؤالِيَ الأولِ أَنْ:" بالطَّبعِ أعرِفُك! أنا لانس يا دارك!!"
    //
    ..

    وانتهينا أخيراً =w=
    آمل أنكم استمتعتم بالقراءة :""")
    في الجُزء القادم، ستنكشفُ حقيقةُ لانس وعلاقته بدارك أخيراً *w*
    وستنكشفُ حقيقةٌ أٌخرى ذُكرَ بعضُها في هذا الجزء :"")
    الجُزء التاسِع تحت عنوان
    ..//|*|~ذكرياتٌ تعود، وقَلبِي يتمزّق~|*|//..
    إلى لقاءٍ آخر~


    التعديل الأخير تم بواسطة Michelle Kris ; 16-10-2014 الساعة 09:38 PM

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
Loading...