تختنق الشمس بغبار خمسين عامًا محاولة الشروق على ركام هاته المدينة لعلها تبعث فيها الدفء و تجرها
للندم و التوبة , ثم تيأس و تتوارى ساحبة أشعتها , تاركة اللعنة تمتد و تتأصل في تربة منحوسة
!
مملوء هو وجه السماء بالغيوم السوداء التي تنذر بالشؤم, ترتسم عليها دومًا ذكرى انتحار الأمل شنقًا كي لا
يغادر أحد من هنا , حدائق المنازل بشعة مشوهة كالمستنقعات , تفوح منها رائحة الخوف و أسرار هرمة تعبت
من الظلام , يبدو المكان موحشًا كمقبرة مهجورة من رفات الأموات , يبكي الصمت فيها
!
تتهافت الريح من حين لآخر مصفرة , محاولة في كل مرة استشعار جسد يقشعر لها , يا لشجاعتها, لا تخشى
الهلاك على يدي أصحاب العباءات السود , صرير أحد النوافذ أو الأبواب شبيه ببكاء شجي, لا يتوقف , و صليل
سلاسل مصفدة لأرجل متهالكة , تجوب ردهات و غرف المنازل المتآكلة
!
تئن هاته الأشباح القذرة و تتأوه لذنب اقترفته برضاها و لم تطهر نفسها منه و تعتذر , تكابر و لا تبالي !
في البئر القديمة , أصوات قطعة بشرية تتخبط في المياه الوسخة , مخنوقة لا تتكبد عناء الصراخ أو المحاولة ,
شظايا آخر الكلمات الخجولة اليائسة , تُسْمَعُ بتقطع , ثم تنتهي بتنهدات شجية
!
لا معنًا للزمن بين ثنايا المدينة الملعونة , لا معنًا لأي شيء
,!
قطة سوداء رابضة فوق سطح أحد المنازل , إنها الشيء الحي الوحيد في هذا الخراب , وديعة في سكونها , في
عيونها الغابية البراقة البارزة و خرخرتها العجيبة, تحرك ذيلها برتابة , تحــدق في الأفق , في اللاشيء
, !
تِكْـ تُكْـ , تِكْـ تُكْـ , تِكْـ تُكْـ !
إنها الساعة السابعة مساءً , تنتصب أذنا القطة, ثم تُحَوِّل نظرها للأسفل و ذيلها لا زال يتموج !
تُنَار الأضواء في أحد غرف ذلك المنزل !
فتتوقف تلك الريح الذاهبة و الآتية , تعرج النوافذ عن الصرير , تختفي الروائح التي كانت تعزم على الفرار , تتراكض
الأشباح نحو الخزائن لتختبئ من القادم , تتجمد الكتلة في البئر و كأنها لم تكن , خانقة نفسها أكثر من ذي قبل
, وتظهر فتاة في السادسة عشر من العمر من نافذةٍ مكسورة الزجاج ,ذات شعر فحمي منسدل يخفي ملامحها ,
مطأطأة الرأس , تزعق زعيقًا يُلَحِف آهات عديدة , فتنتفض لها الأرض و تنبثق منها هياكل من ظلام , ثم تنتشر
في المدينة لتسوق الأشباح من رقابها إلى الباحة الأمامية لذلكـ المنزل
!
تنزل بخطًا ثقيلة عبر السلالم الخشبية إلى الخارج , مقطوعة المعصمين ذات ثوب بنيٍ صَيْفيٍ مهترئ ملطخ
بدمائها, و تتوقف أمام الأرواح الجاثمة قصرًا ,ثم ترفع رأسها , مثقلا بالآلام و البكاء و الأماني الصفراء اليابسة ,
لتظهر بشرتها ناصعة البياض و عيناها الفضيتان , و ملامحها الحزينة , تكشر الأشباح عن أنيابها و تزمجر محاولة
تمزيق الفتاة فتردعها الهياكل, ترفع آنا يدها لتُظهر دمائها القرمزية المتقاطرة , فيبصق أقرب شبح , لتقطع الهياكل
رأسه و تجره إلى العدم , و تُـنْـزِل آنا يدها رافعة كآبتها
!
تنزف مشاعرها و قلبها الصغير , لم يكن يومًا للتذكير فائدة لكنها تحاول دومًا , تحاول منذ 50 عامًا , تعود أدراجها
مترنحة للبيت , و تقف عند بابه , فيبدأ بالانغلاق رويدُا رويدًا , !
تدمع مقلها دمعة من دم و نار , و تصرخ صرختها الحزينة, فتجذب السلاسل الأشباح لتعود من حيث أتت
!
يَسْكُن الشارع العتيق, و تنام المدينة من جديد , في مرارتها !
ترفع قطتها رأسها , و تعود للنظر إلى الأفق , تعود الريح سائحة , تبدأ الأبواب أو النوافذ صريرها , تقرر الروائح أن
تهرب من جديد , تتنفس القطعة الصعداء وترجع لتخبطها , و تعود الأشباح لسيرها و تجوالها نائحة مجرجرة
أغلالها و أضغانها ... صوت بعيد مبحوح ينادي في جنح ظلام المدينة و ظلم الأشباح ,
طالبًا النجدة !
ـآلـنِهَـآيَـةة !
المفضلات