من مذكرات أحمد بن إسماعيل الكوراني

أدرنة، تركيا، 1443

عندما يعتاد المرء على نظام حياتيّ معيّن، فإن أي تغيّر - ولو صغير فيه - سيقلب له معيشته رأسًا على عقب.
مضى عليّ عشرون سنة وأنا في هذا النظام، ورغم أنه قد يبدو رتيبًا ومكررًا إلا إني لم أشعر يومًا بالملل منه أو بالرغبة في تغييره. كانت حياتي حياة رجل عادي ميسور الحال، يرضى بما قسمه الله له، ويبتغي من فضل ربه آخذًا الحلال وكافًا عن الحرام. كان يومي يبدأ كل يوم مع استغفار السحر وقيامه، فصلاة الفجر جماعة في المسجد، فجلوس لقراءة وردي حتى طلوع الشمس، ثم نهوض إلى مهمة تعليم أطفال الكتاتيب مع بزوغ شعاع الشمس الأول. لكن هذا اليوم كان مختلفًا...

لم تكن أشعة الشمس هي من أعطتني إشارة النهوض اليوم، بل طرقات عنيفة متتالية على باب منزلي...
نهضتُ مسرعًا، فلم يكن من عادة أحد أن يزورني في مثل هذا الوقت، وتلك الطرقات بأية حال لم طرقات زائر عادي، ولا ضيف يطلب سقيا أو طعامًا، ولا حتى والد جاء بولده لكي أعلّمه في كتّابي.
فتحتُ الباب، فواجهتني أربعة عمائم مألوفة الشكل، يراها المرء يوميًا، تجول الأسواق في النهار، وتحرس الشوارع في الليل، وتحفظ الأمن وتضبطه؛ كانت عمامات رجال الشُرَط.
تقدم كبيرهم وقال بلا مقدمات: "مولاي السلطان يطلبك في قصره".

*******

أماسيا، تركيا، ربيع 1443

وصلتُ إلى أماسيا وموقف أمسِ ما يزال منطبعًا في ذهني...
لستُ من مرتادي قصور السلاطين ولا من ندمائهم، ولم يسبق لي أن التقيتُ بالسلطان أو مثلتُ بين يديه من قبل، بيدَ أن استدعاء السلطان لي لم يكن أكثر ما أثار عجبي، إذ أن الأوامر التي تلقيتُها منه والمهمة التي كلفني بها لَهِي أمرٌ لم يدر بخلدي قط أن أكلّف به، ومسؤولية لم أطمح يومًا أن أحملها على عاتقي.
عندما وصلتُ إلى القصر في أماسيا، كانت الحيرة قد جفّت من قلبي وانتفضت رباطة الجدّ والحزم. أحسب أن قلوبنا نحن المعلمين أشدّ وأحنك من قلوب غيرنا من الناس، فالدور الذي تتطلبه منا مهنتنا، يقتضي علينا أن نخفي عطفنا وحناننا خلف ستار سميك من الغلظة والشدة، تكون زاجرًا ناهيًا وآمرًا محفزًا لتوجيه الجيل الصغير نحو أهداف نبيلة سامية، لكي تقطفها أياديهم الصغيرة بقوة واستحقاق بعد أن تعلمت النظام وحب العلم فتغتني به عن ظلمات الجهل وتملأ أكفّها من ثمار المعرفة.

أدخلوني إلى غرفة فسيحة عظيمة الأعمدة مزخرفة السقف، وركنها الأقصى مفتوح على حديقة غناء جمعت بين خضرة وزرقة، وخرير وزقزقة، وفاكهة وثمار، وأبسطة فُرشت بين الأشجار. وهناك، على أحد تلك الأبسطة، رقدت مهمتي.
كنتُ مهيّأ لما أرى، فقد وصف لي السلطان مراد هذا المشهد، وعرّفني بأبعاد المسألة الشائكة التي استعصى على الآخرين حلها قبل أن يكلفني بها، فتقدمتُ غير وجلٍ ولا متردد، حتى أصبحتُ على بعد خطوات يسيرة من البساط المفروش على العشب الناعم بين الورود المزهرة، فألقيتُ التحية على شاغله قائلاً:
"السلام عليك يا محمد".

التفتَ إليّ مجفلاً. لم يكن صوتي ما أجفله، ولكني أيقنتُ حينها أنه لم يعتد على أن يناديه الآخرون باسمه المجرد. كان ولي العهد محمد ابن السلطان مراد، ومع أنه في الرابعة عشرة من عمره، إلا أن حظه من المعرفة أكثر من حظ الأميين بقليل، إذ كان يرفض الانصياع لأوامر معلميه، وأهمل في حفظ القرآن وغيره من العلوم، وفشل والده ومستشاروه في إيجاد حيلة يحتالون له بها حتى يضعوا فيه أساسات رجل عليه أن يتحمل عبء السلطنة وحُكم الأمة في المستقبل.

ردّ عليّ السلام متثاقلاً ثم التفت عني متناسيًا وجودي.
قلتُ مستكملاً: "لقد أرسلني والدك إليك لأعلمك وأؤدبك، وأعطاني هذا القضيب لأضربك به إن خالفت أوامري".
نظر الفتى إليّ مشدوهًا لوهلة، ثم لم يلبث أن أطلق لحنجرته العنان في الإفراج عن قهقهة تردد صداها بين الأشجار الملتفة.
تقدمتُ بكل بساطة نحوه وهو ما يزال مستمرًا في قهقته المستهزئة، ورفعتُ يدي الممسكة بالقضيب، وهويتُ بها عليه بضرب شديد غير مبرّح، على الأماكن التي يصحّ فيها الضرب. انقطعت القهقهة فجأة إبّان ذلك، تلتها لحظة من السكون من جانب حنجرة الفتى على أثر الصدمة الصاعقة التي غطّت ملامح وجهه، ولم تلبث أن شقّت محيّا الصدمة آهات وصرخات عبّرت عن مكنون الألم الذي تسببه ضربات القضيب، والذي فاق أي شعور آخر يحس به الذهن أو الجسد.
بعد تلك الحادثة، لم تعد حياتي هي الوحيدة التي انقلبت رأسًا على عقب، فقد امتدّ ذلك إلى حياة الفتى محمد ولي العهد. الأثر الحسيّ الذي تركه فيه القضيب سيختفي بعد سويعات، لكن الأثر المعنوي سيبقى معه مدى الحياة.

حاشية 1: بعد شهور قليلة، تمكّن محمد من ختم القرآن كاملاً حفظًا وتجويدًا، وانتهل كمية كبيرة من علوم شتى. إن في هذا الفتى نباهة وتميزًا قلّ أن يُرى نظيره، وأحسب أن الانغماس في الترف هو ما كان يحول بينه وبين استثمار ذلك في ما يفيد.

حاشية 2: انتقلنا إلى قصر السلطنة في أدرنة مع بداية الصيف، حيث وصل حديثًا ابنا الدوق فلاد الثاني، والذي عاونه السلطان مراد على العودة إلى حكم والاكيا بعد أن قبل بدفع الجزية بالمقابل. انضمّ الفَتيان إلى محمد في معظم دروسه الدينية والعلمية واللغوية، وشاركاه حتى في دروس الفروسية وفنون القتال، وهي دروس كانت تُعدّ خصيصًا لأبناء الأمراء والسلاطين على يد أمهر المعلمين لتنشئتهم أحسن تنشئة.





ترانسيلفنيا، رومانيا، ديسمبر 1447

"يا لها من لعينة!"
تبع ذلك سهمٌ انطلق حادّ الرأس مندفعًا بصفير شقّ الهواء. لم يُصب السهم هدفه، إذ إن "اللعينة"، أو الغزالة إن صح التعبير، غيّرت اتجاه جريها في آخر لحظة، فانحازت عن مسار السهم الذي كاد يصيبها في مقتل، ولاذت بالفرار بعيدًا عن مطاردها.
زمجر متأففًا ورمى بسهم آخر كان مصيره مثل صاحبه. لم يكن اليوم يوم حظه. نظر من حوله فألفى نفسه وحيدًا بين قامات أشجار الغابة الباردة. يبدو أنه نسي نفسه في غمرة المطاردة وابتعد كثيرًا عن مرافقيه وحراسه، وإلا فما كانوا ليتركوا الدوق وحده، دوق والاكيا، فلاد الثاني.

قرّر أن يخرج من بين الأغصان المتشابكة إلى ما يجاورها من المستنقعات، علّه يهتدي طريقه ويعرف أين استقر به موقعه من مكان مخيّم الصيد. بعد أن سارت به فرسه قليلاً، سمع صوت سنابك خيل قادمة من مكان غير بعيد. غيّر اتجاهه وأطلق لفرسه العنان نحو الصوت، وسرعان ما التقى بمصدره. ارتسمت على أسارير وجهه ابتسامة ارتياح عريضة، فقد عرف الفرسان القادمين. إنهم من البويار - وهو اسم يُطلق على النبلاء في رومانيا - وقد عرفهم من هيئتهم وملبسهم ودروعهم. بدأهم الخطاب قائلاً: "ما أسعدني بلقياكم في مثل هذا المكان! كيف كنت سأتصرف لو قابلتُ عصابة جانحة من قطاع الطرق وحدي هاهنا؟!"

بعد ساعة، استُدعي ميرتشا، الابن البكر للدوق فلاد، على نحو عاجل. أخبروه أن والده أصيب في حادث أثناء رحلة الصيد. دار في خلده وهو منطلق إلى الغابة وحيدًا على حصان سريع أن الرياح تجري بما يشتهيه اليوم، فقد أصيب والده في الصيد، لوى كاحله أو سقط عن ظهر فرسه على الأغلب، ولسوف يستغل هو هذه الفرصة لكي يقنع والده بأن يصطحبه معه في رحلات الصيد القادمة، لكي يكون رفيقه المقرب الدائم، وفي الوقت نفسه يشاركه متعة الصيد التي طالما احترق توقًا لها.

وصل بعد بعض الوقت إلى المكان الذي وُصف له من الغابة بجانب المستنقعات، فوجد جماعة من البويار متحلّقين وممتطين خيولهم. اقترب منهم ليسألهم عن مكان والده، واقتربوا هم منهم بدورهم ولم يلبثوا أن طوقوه من كل جانب. لم يُبال بتصرفهم حينها إذ كان مشغول البال بشيء آخر. انفرجت حلقة البويار عن فتحة تقّدم عبرها من خلف الفرسان فارس ضخم له هيبة القادة العسكريين الكبار. خاطب ميرتشا قائلاً:
"سعيد بتلبيتك السريعة للنداء يا سمو الأمير الصغير. إنني القائد يوان دي هونيدوارا. كم أنا فرح بفرصة لقائك كما فرحت بلقاء والدك قبل قليل. لقد بادلني والدك سعادة اللقاء، ولا أرجو منك إلا مثل تلك الحفاوة."

وأنهى جملته بأن تقدم بفرسه فأفسح المجال للمظهر الذي خلفه. كان مظهر جثة غارقة في بركة الدماء، وكانت الجثة جاحظة العينين نحو السماء وكأنما كانت تبحث عن باب خفي فيها، أو تنشد هدفًا لم تبلغه بعيد المنال كبُعد السماء عنها. تجمّدت عروق الأمير الصغير أمام مشهد جثة أبيه، لكنه كان آخر مشهد ينطبع في عينيه، إذ اجتمع عليه فرسان البويار واقتلعوهما من مقلتيهما، ثم ساقوه إلى قرية تارغوفيشت القريبة، حيث جاهد منخراه في إيجاد ذرّات تُستنشق من الهواء بعد أن ألقوه في حفرة وبدؤوا مراسم دفنه حيًا وطمروه بالتراب.