ذكرياتُ يومٍ أغسطسيّ ~
انتصبت الشمس شامخةً في كبد السماء في يومٍ أغسطسي مشبعٍ بالرطوبة.
من عادته أن يأتي في هذا اليوم من المدينة،
بهيئته الأنيقة رغم بساطتها
وحقيبة صغيرة تحمل ما يحتاج خلال يومين
يقضيهما في الحافلة المؤدية إلى قريته
التي بدأت تنشط مذ ما يقارب الأعوام الخمس الأخيرة.
لكنه هذه المرة يجري بهلع،
بكمَّين يملؤهما الطين،
وبنطال ممزق قليلاً جراء أشواكٍ اعترضت طريقه،
وبحقيبةٌ أضاعت صاحبها منتصف الطريق.
انحرف عن مساره المعتاد متجهاً إلى المستشفى الوحيد جرياً،
وبيده طفلة في الخامسة من العمر تنزف وتتعرق بشدة ~
لم يبالي للترحيب الذي تلقاه من العديد في المشفى،
لأن في يده من يحتاج إلى العلاج فوراً،
و لأنه معروف بينهم بنوا له سبعين ألفَ عُذرٍ ~
حاول الدخول إلى غرفة العمليات
بيد أنه أُبعد عنها رغم محاولات كثيرة
لم تلقَ سوى علامة أكس كبيرة رافضة طلبه،
فما كان منه إلا أن يروح ويجيء
ذهاباً وإياباً
أمام البوابة مترقباً مصير الطفلة،
و هذا الحال
ما عهده أحد من الممرضين و الأطباء الذين مروا بجواره
فقد عُرف بنظراته الباردة
و شفتين قلما تنبس،
و هدوء يكتسي كيانه ~
حينما أعياه التعب،
جلس على الكرسي
و غفا للحظة أعادت به إلى أيام مراهقته ~
أعتادت الأجواء الأغسطسية أن تخنق سكان القرية برطوبتها التي تبلغ 100% ظهراً،
لتتحول غالباً ما بعد الظهر إلى مزن
تسافر مئات الكيلومترات بعيداً،
أو تصب حمولتها في مزارعهم،
مع ذلك لم تمنع الأجواء صديقه المقرب وهو من اللعب بكرةِ القدم بعد المدرسة قبل عشرين عاماً،
كما لا تمنع أطفال هذه القرية ومزارعيها من الحراك في اتجاهات القرية الأربع...
بعد هدفٍ سدده صديقه في مرماه، اقترب منه قائلاً: لنسترح قليلاً.
وافق بايماءة، وجلسا تحت شجرة قريبة، فقال صديقه: الهدف الذي أحرزته قبل قليل ما هو إلا هدف من طيش مراهقتنا...
أضاف: حينما أكبر، أود لهذا الهدف فعلاً أن يكون له معنى...
سأل صديقه: كيف؟
فأجاب: أحب القرية التي ترعرعنا فيها، وعشنا فيها سنين من عمرنا ولا زالت تحتوينا داخل حدودها، ولكي نحافظ على القرية نحتاج لتعميرها، نحتاج مشفى ومدرسة جيدة وخدمات أخرى ~
فهم ما يرمي إليه صديقه، فقال: سأدرس بجد، أريد أن أصبح طبيباً ~
ابتسم الصديق قائلاً: أرى أن الجراحة تناسبك كثيراً، بما أنك تهرع دائماً لمساعدة المصابين ~
لم يكن واثقاً من الأمر، فبقي صامتاً، إلا أن صديقه نظر إليه وفي شفتيه ابتسامة كبيرة مضيفاً: أود أيضاً أن أصبح طبيباً.
تخيَّل ما قد يحدث في المستقبل،
سيدرسان الطب معاً،
وسيتخرجان من كلية الطب،
ثم يلتحق هو لإكمال دراسته
فيما يصبح صديقه طبيباً عاماً للقرية
وبمالهما والتبرعات سيبنيان مشفى القرية الأول ويحسنا القرية ~
تزينت السماء بحلة شفقيةٍ تزفُّ الشمس نحو الغروب،
تكتسي هذه الأجواء الجميلة بذكريات بائع المثلجات،
و تملِكُ نكهة الفانيليا اللذيذة اعتاد هو وصديقه تناولها بعد قضاء يوم سعيد معاً.
توالت الخطوات بين وحشة القبور نحو قبر ما،
ووُضِعت الزهور البيضاء عليها،
وجاء صوت واضعها يقول: عذراً على تأخري... أتشعر بطعم الفانيلا في لسانك كما أفعل؟ رحلت يا صديق قبل أن تحقق الحلم، رحلت قبل أن تشاهد القرية تنمو كما نمت في مخيلتكَ، صديقي كَوني أصبحت جراح قلبٍ فلن تعيد أية عملية أجريها لك الحياة التي فقدتها في مراهقتكَ... قد تكون نائماً تحت التراب ولكن روحك تسير معنا، تشاهد ما تحقق من حلمك الآن ولاحقاً و طوال الزمان... ليس لي أن أقول إلا ارقد بسلام ~
غادر المقبرة
و أحكم إغلاق بابها
و اتجه إلى كوخ عائلته
الذي يبعد أميالاً قليلة عن المشفى الذي بناه
مروراً بالحقولِ التي اشتراها،
و أراضٍ قام باستصلاحها،
مدرسةٍ بناها،
وملعبٍ هيئهُ فيها،
جميعها لأجل سكان قريته
ولأجل تحقيق حلم صديقه وحلمه،
صار هو الابن لكبار سكان القرية
وأباً لكل أطفالها ~
-تمت-

رد مع اقتباس

المفضلات