كوخ الدمى
بينما كان غارقًا في بحرٍ من الأوراق المتراكمة والأفكار المعقدة، رنّ الهاتف على مكتبه..
عملت خلايا عقله بسرعة تستعرض كل الاحتمالات الممكنة بينما لا تزال أصابعه تضرب على أزرار لوحة المفاتيح على جهازه، وتنتقل بسرعة لتدوّن شيئًا ما على قصاصةٍ من الورق..
لعلّه المدير التنفيذي يريد أن يطمئن على سير المشروع، أو ربما هو المندوب الذي قابله البارحة يريد إعطاءه الرد على اقتراح الشراكة الذي تقدّم به، أو لعلّه الموظف الذي أخبره صباحًا أن لديه أمرًا مهمًا يرغب بمناقشته معه..
ولمّا لم يفلح عقله في تقليص الاحتمالات أكثر، أرسل أخيرًا إحدى يديه لتلتقط سماعة الهاتف بينما لم تتوقف الأخرى عن النقر المتواصل..
"قسم العلاقات العامة.. كيف أخدمك؟"
أدلى بعبارته المعتادة بناءً على الاحتمالات التي رسمها له عقله.. ليصله الرد: "السيد سمير جمال؟"..
بدا أن احتمالاته الثلاث كانت خاطئة، ولكنه لم يفقد تركيزه واستمر في عمله ومحاولته لتخمين هوية المتصل في الوقت ذاته، أجاب بسرعة: "نعم.. كيف أخدمك؟"
جاءه الصوت بعيدًا وغريبًا عن أذنه: "معك الهيئة القانونية لمدينة (.....)"..
مهما كانت الاحتمالات التي رسمها له عقله مستبعدة فهي لم تتوقع أبدًا شيئًا كهذا.. لم يفلح عقله مطلقًا في تخمين ملابسات هذا الاتصال الغريب.. أصابعه الناقرة على لوحة المفاتيح صارت عصبيةً ومتوترةً الآن.. حسب علمه لا توجد أية مصالح للشركة في المدينة التي يتحدث عنها هذا الشخص..
تابع الصوت مجددًا: "يؤسفني أن أنقل إليك هذا النبأ.. ولكنّ والدتك توفيت ليلة الأمس"..
وعمّ الهدوء فجأة...
توقفت أصابعه عن النقر تمامًا.. وشعر بكلّ ثانيةٍ وكأنها دهر.. توقفت خلايا عقله المشغولة دومًا عن التفكير.. وانفتحت في ذاكرته بوابةٌ بعيدة علاها الغبار منذ أمد.. وانسابت أفكارٌ قديمةٌ غيّبها النسيان ردحًا من الزمان وكأنما هو يطالع شريط فيلمٍ عتيق..
كم سنةً مرت منذ رأى والدته آخر مرة؟ لم يعد يذكر العدد تمامًا.. لقد كان يزورها بين الفينة والأخرى عندما انتقل أول الأمر للعمل في هذه المدينة.. لعلّ زياراته قلّت عندما تزوج.. وانعدمت تقريبًا بعد أن ازداد عدد أطفاله وتراكمت أعباء عمله..
متى توقّف عن زيارتها؟ إنه لا يكاد يذكر.. لا يذكر الزيارة الأخيرة.. ولا الكلمات الأخيرة.. ولا حتى الملامح الأخيرة..
عندما يفكّر في والدته، لا يرى ذهنه سوى صورةٍ قديمةٍ لشابةٍ نحيلة ذات ابتسامةٍ متعبة تردد بوهن أن كلّ شيءٍ سيكون على ما يرام..
يعرف تمامًا أن هذه الصورة تعود لأيام طفولته.. فوالدته قد كبرت كثيرًا وصارت مسنةً وارتاحت أخيرًا من أعباءه التي تكفّلت بها لوحدها منذ وفاة والده قبل أن يولد حتى.. ولكنه لسببٍ ما.. لا يكاد يذكر سوى هذه الصورة..
لم يكد يسمع شيئًا من الكلام الكثير الذي تحدث به المتصل.. كان يذكر أمورًا عن الإرث والكوخ الصغير وإجراءات الدفن.. كل ما فهمه هو أنّ عليه السفر إلى مسقط رأسه واستكمال الإجراءات.. وهذا ما كان.. فقد أخذ إجازة في اليوم التالي –لمدة يومٍ واحد- وسافر إلى حيث لفظت والدته أنفاسها الأخيرة..
هذا أقل ما يمكنه القيام به الآن.. لقد كانت والدته سعيدة.. أليس كذلك؟ يستطيع أن يتذكر أنها لم تكن تصرّ عليه ليكرر الزيارة.. فهي لم تكن تريد أن تعيق عمله.. يتذكر الآن كذلك أنه سألها مرةً إن كانت ترغب في الانتقال للعيش معه، ولكنها تنهدت وتأملت كوخها العتيق طويلاً وقالت بأنها لا تستطيع الانفصال عن روحها..
زياراته كانت قليلة.. ولم يكن يأتيها سوى بنظراتٍ باردة وفكرٍ مشغول.. ومع ذلك كانت تسعد به، وتسأله بلهفةٍ عن أولاده الذين بالكاد رأتهم، يلمح في عينيها أمنيةً تداريها لرؤيتهم.. فيفهم أنها لا تريد أن تثقل عليه وتعيق عمله فيمتن لها في داخله، ويرحل مجددًا..
كانت زياراته المتقطعة تقلّ شيئًا فشيئًا ثم انعدمت تمامًا في وقتٍ ما منذ سنواتٍ طويلة، وانطوت كصفحةٍ من ماضٍ غابر..
لقد كانت حيةً حتى الأمس.. ربما كان بإمكانه زيارتها قبل وفاتها.. ولكن مجددًا.. لقد كانت سعيدة على الأقل.. أليس كذلك؟
كانت إجراءات دفنها قد انتهت عندما وصل إلى المدينة.. كان قد طلب أن يتم دفنها دون انتظار وصوله.. لم يرغب أن يتأخر الدفن لمجرد انتظار شخصٍ واحد.. وربما لم يرغب في مكانٍ ما في داخله برؤية آثار السنوات على وجه والدته المنهك.. أراد فقط تذكر صورتها الشابة المنهكة وهي تطمئنه بأن كلّ شيءٍ بخير.. أراد أن يقتنع بأنها كانت بالفعل سعيدة وراضية..
لم تترك والدته شيئًا يُذكر.. ولكنها تركت له كوخها العتيق.. الذي أطلق سيلاً من الذكريات إلى دماغه بمجرد أن وقعت عيناه عليه.. أوشك أن يرى ظلّه الصغير يجري ويتقافز حول الكوخ.. يهرب من تأنيب والدته عبر النافذة.. ويعود عبر الباب ضاحكًا، لتضحك وتنسى غضبها.. كاد يسمع صوت ارتطام الأواني وحفيف الملابس وآلة الخياطة.. شعر بأنه يشم رائحة حساء الخضر الذي كانت تصر على إضافة القرنبيط إليه، والعبق الشهي لفطيرة التوت المفضلة لديه..
من كان يعتقد بأن مشهدًا واحدًا كفيلٌ بإعادة هذا الكم من الذكريات.. عندما اقترب من الكوخ ميّز رائحته.. سمعت أذنه صوت صرير الباب قبل حتى أن يمدّ يده إليه.. ولكن المشهد الذي طالعه في الداخل، كان مختلفًا قليلاً عن المشهد الذي رأته عين عقله قبل أن يبصره فعلاً.. كان مشهدًا مثيرًا للدهشة..!
فعلى الأريكة البنية العتيقة التي اعتاد الاستلقاء عليها رغم اهترائها الذي يجعله أشبه بالمستلقي على الحجر، كانت تقبع أكثر من عشر دمى قماشية ملونة..! لم يكن هذا ما أثار دهشته فحسب، فهذه الدمى لم تكن الوحيدة في الكوخ..
فقد كان هنالك المزيد من هذه الدمى المنتشرة في أنحاء الكوخ.. تحت كرسي القش، وفوق رف المدفأة، وعلى منضدة الخيزران المتآكلة، والعديد حول ماكينة الخياطة، وعلى فراش والدته، وحتى على الأرضيات..
لم يستوعب شيئًا مما يراه.. أكانت تبيع الدمى؟ ولكن حتى في تلك الحالة، لن يصل عدد الدمى إلى كل هذا العدد الكبير.. فالأمر يبدو كما لو أن جيشًا من الدمى قد احتل الكوخ..
تقدّمت خطواته ببطء.. تناولت يده بوجل دميةً قماشية من فوق رف المدفأة.. كانت ذات شعرٍ أشقر وفستانٍ وردي.. الحقيقة أن الدمى المتناثرة كانت بهيئاتٍ وألوانٍ متنوعةٍ ومختلفة..
قادته قدماه إلى سرير والدته والدمية الشقراء لا تزال بيده.. جلس عليه ببطء وذهنه يحاول تحليل الأمر.. لطالما امتلك موهبةً نادرةً في تحليل البيانات وتفنيد الاحتمالات في ثوانٍ معدودة.. فلماذا تخونه كل قدرةٍ الآن ويقف عاجزًا عن فهم ما يحيط به..؟
شعر بتعبٍ ذهني قلّما يشعر به.. غاص في جلسته أكثر ليلمح شيئًا يظهر من تحت وسادة الليف الكبيرة.. لطالما آمن أن هذه الوسادة وتلك الأريكة وغيرها من الأثاث غير المريح هو ما تفضّله والدته وتعتز به، وأنها بالتأكيد لا ترغب بتلك المنتجات الحديثة الوثيرة التي تغزو السوق.. لم يشك للحظةٍ في إيمانه هذا إلا عندما دخل الكوخ مجددًا بعد وفاتها.. أتراه كان مخطئًا؟ ولكنها كانت سعيدة.. أليس كذلك؟
تساءل للمرة العاشرة وهو يتناول الدفتر الكبير المخبّأ تحت الوسادة.. بنظرةٍ واحدةٍ إلى داخله أدرك أنه دفتر مذكرات والدته.. لم تكن تكتب الكثير.. بضعة سطورٍ هنا وبضعة سطورٍ هناك.. بدأ يقلّب صفحاته بسرعة ويجول ببصره بين سطوره وقد فغر فاه من الدهشة:
التاسع من شباط
لا يزال الجو باردًا في مثل هذا الوقت من السنة.. لقد تأخر بائع الحطب اليوم وأكاد أتجمد من البرد لأن الحطب الذي لدي نفد ولم أعد أستطيع إشعال المدفأة.. أخشى أنه يفكر بترك هذه الوظيفة فقلة من لا يستخدمون المدافئ الكهربائية هذه الأيام.. لا أعتقد أني سأستطيع النوم الليلة، فأنا خائفة أن يكون سمير يعاني من المشكلة ذاتها.. أتراه يملك مدفأة كهربائية..؟ عليه أن يغطي أولاده جيدًا.. لطالما كان غير مبالٍ فيما يتعلق بهذه الأمور..
~
الخامس والعشرون من شباط
لقد فكرتُ كثيرًا ولم أصل إلى نتيجة مرضية.. أتراهم خمسة أم ستة؟ لا أعتقد أن سمير يرغب بإنجاب عدد أكبر من الأطفال.. ولكن من يدري.. قد يفعل بعد كل شيء.. آمل فقط أنه يغطيهم جيدًا عند النوم..
~
الحادي عشر من آذار
حلّ الربيع باكرًا هذا العام.. وقد ارتكبتُ غلطةً مضحكة.. عندما سمعتُ نقرًا على النافذة هرعتُ إلى الخارج بملابس خفيفة ظنًا بأنه سمير أو أحد صغاره.. ولكنه كان مجرد عصفورٍ صغير.. ربما هذا لأنني بالكاد قابلتُ أحدًا هذا الشتاء.. لا شك بأن الصغار قد ملّوا اللعب في المنزل طوال الشتاء.. سينطلقون إلى الخارج الآن للعب بحرية.. لن يحتاجوا الدمى عندها أليس كذلك؟ أعتقد أن عليّ صناعة بعض الدمى التي سيحبون أخذها معهم إلى الخارج كذلك.. يجب أن تكون دمى صغيرة ومرحة..
~
السابع من أيار
لقد تعبتُ من التفكير، لذلك سأحاول التفكير على الورق علّ أفكاري تترتب أكثر.. إذا افترضتُ أن أطفاله سبعة، فعليّ صنع أربعة عشر دمية، سبعة منها تناسب الفتيات وسبعة تناسب الصبيان.. سيحصلون عليها عندما يأتون.. ولكنهم قد يتشاجرون عليها أليس كذلك؟ ربما عليّ أن أصنع أشكالاً مختلفة حتى لا يتشاجروا.. ولكني لا أعرف أعمارهم أو أذواقهم.. سأصنع بعض الدمى المحشوة الكبيرة التي تناسب الصغار جدًا.. وربما أخرى تناسب سن المرحلة الابتدائية حيث تفضّل الفتيات ألعاب الأميرات.. لكن لحظة.. ماذا لو كانوا صبيانًا؟ لم أعد أعرف المناسب أكثر.. عليّ صنع المزيد من الدمى.. يجب أن أتأكد أنهم سيحبونها..
~
السابع عشر من آب
لقد بدأت آلام مفاصلي تزداد مؤخرًا.. الجو لا يزال حارًا أو أقرب إلى الاعتدال، ولكني أشعر بأني أزداد مرضًا ولا أعرف لماذا.. هل يتصرف سمير جيدًا مع أولاده عندما يمرضون؟ عليّ أن أقدّم لهم شيئًا بمناسبة تعافيهم.. ولكن لا.. عليّ ألا أفترض مرضهم.. ولكن ماذا لو كان وقت قدومهم يصادف تاريخ ميلادهم؟ هذا ليس مستبعدًا خصوصًا أنهم سبعة.. أو ربما يكونون ستة؟ على أية حال عليّ صنع دمى جديدة بهذه المناسبة.. أتمنى أن أتمكن من إنهائها قبل أن يأتوا.. فمؤخرًا حتى الكتابة صارت تصيبني بالإنهاك..
~
كان هذا آخر ما دُوّن في الدفتر.. لقد توفيت بعد شهرين من كتابتها لهذه السطور..
أغلق الدفتر وبقي محدقًا به وبالدمية الوردية التي لا تزال في يده.. بماذا كان يفكر..؟ لعلّها من المرات النادرة في حياته التي لم يفكر فيها بشيءٍ على الإطلاق.. لقد توقف دماغه عن التحليل أو التفكير.. استلقى على سرير والدته البارد.. وضع رأسه على وسادتها الليفية.. تمتم بخفوت: ليست مريحة.. على الإطلاق..
ودون أن يشعر غرق في نومٍ عميق.. وحلم بدمية وردية، وبفطيرة توت، وبابتسامة شابة منهكة تردد بأن كل شيءٍ على ما يرام..
~تمت~
رد مع اقتباس

المفضلات