"اللحظات الأخيرة"


اتكأتُ على السور الحديدي البارد كبرودة قلبي في تلك اللحظة.. وأخذتُ أتأمل البحر..

حيثما نظرت لا أرى سوى الأزرق مدّ بصري.. ممتدًا وممتدًا إلى اللانهاية.. عميقًا لا يُرى قاعه.. مكان مثالي لإلقاء الهموم والعودة بقلبٍ خالٍ مرتاح..!

هل أبالغ إن قلت بأن روحي المريضة لا يكاد يشفيها سوى هذا البحر الممتد وعبيره المنعش ورائحته المثيرة للحنين..؟

بالأمس القريب غادرتُ منزلي غاضبةً متجهمة بعد شجارٍ كبيرٍ مع عائلتي.. فقد تخلصت والدتي من عدة الرسم خاصتي بحجة أني لا أفعل شيئًا في حياتي سوى الرسم..

بربكم..! أليست حياتي الخاصة وأنا التي أقرر كيف أقضيها..؟ وما أهمية أن أشارك والدتي زيارات جاراتها الصباحية المملة، أو أن أستذكر لإخوتي دروسهم، أو حتى أن أشارك عائلتي الغداء المتأخر الذي ينتظر والدي ليعود من عمله..؟

لقد شكّل الأمر لي صدمةً وغضبًا فظيعًا بالفعل.. لقد مزقت روحي بفعلتها تلك، ولم يقف أحدٌ من أفراد عائلتي إلى جانبي..

مؤخرًا لا شيء يسير لصالحي.. ففوق أنني لم أتمكن من الدخول إلى التخصص الجامعي الذي أفضّله، ها أنا ذا بعد ثلاث سنوات من دخولي الجامعة مضطرةٌ لتغيير التخصص بحجة أنه سيُغلق ويُدمج مع تخصصٍ آخر..!

سيزيد هذا سنواتٍ إضافية من حياتي أقضيها في هذه الجامعة البغيضة..! لقد تشاجرتُ مع رئيسة القسم بسبب هذا الأمر وانتهى الشجار بحرماني من هذا الفصل الجامعي..

أردتُ حقًا أن أغير الجامعة بعد هذا الحادث، ولكن والدي رفض بحجة أنه قد دفع الكثير لأجل دراستي وليس مستعدًا لجعل كل ذلك المال يذهب أدراج الرياح، ولصرف المزيد لمجرد نزوةٍ عابرةٍ لدي..!

كان هذا أيضًا مما زاد التوتر بين وبين أسرتي.. كم أتمنى أن أتخلص من هذه القيود التي تربطني بهم.. بمجرد أن أصبح حرة سأتخلص من كل هذا التحكم الذي يغلّفون حياتي به..

حتى صديقتي وقفت ضدي فيما أفعله مما أدى إلى قطع علاقتي بها..

لا أحد يفهمني في هذا العالم.. لا أحد يقف في صفي.. أشعر بوحدةٍ قاتلة.. بعذابات العالم تجتمع في روحي التي أضنتها كثرة الآلام..

ولهذا السبب تحديدًا أنفقتُ كل مدخراتي التي كنتُ قد بدأت ادخارها من مصروفي الخاص على أمل إكمال دراستي العليا، وأنفقتها على هذه الرحلة البحرية..

لماذا؟ لأنني أحتاج من يفهمني.. من يشعر بي.. ولأنه لا يوجد من البشر من يمكنه فعل هذا.. لجأت إلى صدر البحر الواسع.. علّه يتّسع آلامي المشبعة بالحزن..

غصتُ في أفكاري أكثر دون أن ألاحظ التوتر والحركة المتزايدة من حولي على ظهر هذه السفينة المبحرة بنا في عرض المحيط..

عندما لحظت الأمر أخيرًا وجدتُ الركاب يتهامسون ونظرات القلق تغشى وجوههم.. بينما أعدادٌ كبيرةٌ من رجال الطاقم تروح وتأتي بعصبية وسرعةٍ شديدتين..

بقيت أراقب الوضع بصمت، بينما أفكاري تأخذ منحى سوداويًا بامتياز.. ولم يطل الأمر حتى علمتُ بأن أسوأ مخاوفي قد وقع بالفعل..! فقد أعلن طاقم السفينة بأن علينا جميعًا إخلاءها فهي قد تغرق في أية لحظة..!

ما حدث على ما يبدو هو أن الماء تسرب إلى السفينة العتيقة، وازداد كثيرًا قبل أن يلحظ أحدٌ ذلك، ففات أوان إنقاذ ما يمكن إنقاذه، كما أن ما حدث تسبب بعطلٍ فني منع السفينة من إرسال نداءات استغاثة..!

دار رأسي في دوامات وأنا أحاول استيعاب ما يجري من حولي بالضبط.. الإخلاء الذي بدأ بتوتر واضطراب إلى قوارب النجاة، تحول فجأة إلى تدافعٍ وهلع عندما بدأت السفينة بالاهتزاز والتمايل بعنف..!

القوارب وستر النجاة في هذه السفينة المهترئة لا تكفي الجميع.. طفت أنانية الجميع ومشاعرهم السلبية إلى السطح وهم يتنازعون ويتسابقون إلى قوارب وستر النجاة..!

وبقيت أنا متسمّرةً في مكاني..!

لا أجيد السباحة إلا قليلاً.. ولا أحد هنا ليقف إلى جانبي أو يساعدني.. والتدافع مع كل هذه الأعداد المهولة من الناس يبدو ضربًا من المستحيل بالنسبة إليّ..!

بدأت السفينة تنغمر تحت الماء شيئًا فشيئًا.. لم أصدق ما يحدث.. لا بد من وجود حلِّ ما.. لا بد وأن تصل المساعدة قريبًا.. لا بد وأنني سأنجو..!

لم أعد أسمع سوى الصراخ والهلع يعم المكان.. لم أعد أبصر سوى وجوهٍ قد خلا منها لونها..

بدأت السفينة تنغمر في الماء أكثر فأكثر.. وبرعبٍ شديد شاهدتُ الركاب الذين لم يحالفهم الحظ بالحصول على بقعةٍ في قارب نجاة، يلقون بأنفسهم إلى الماء..!

أتذكر الآن أنني سمعتُ ذات مرة أن السفينة الغارقة تشكل دوامة عند غرقها وتسحب معها كل من بقربها مهما كان مجيدًا للسباحة..! لا أعرف مدى صحة هذا ولكني لا أريد أن أجرب لأتأكد..!

لا أعرف كيف كان يفكر دماغي.. لعله توقف عن العمل تماما.. لعلني كنت فقط أتبع جمهرة الناس وتصرفاتهم.. فقد ألجمني الجزع والهلع.. ولم أرد أن أنتهي مع السفينة إلى قاع المحيط.. فألقيت بنفسي نحو الماء..!

لا أعرف كيف واتتني الشجاعة لفعل شيءٍ كهذا.. لم أشعر بنفسي عندما قفزت.. ولكن اللحظات التي فصلت بين مفارقة جسدي لسطح السفينة وبين اصطدامي بسطح الماء.. كانت أطول اللحظات في حياتي كلها وأكثرها رعبًا..!

اندفع الهواء إلى رئتي بقسوة.. شعرتُ كما لو أنني قد علقتُ في فراغٍ لا نهائي.. بإدراكٍ ينبعث من العدم بقدوم الموت.. باقتراب النهاية..! واصطدمتُ بعدها بعنفٍ بماءٍ بارد كالصقيع.. مؤلمٍ كلوحٍ صخري مسطّح.. وغصتُ في ظلامٍ مخيف..!

لا أدري كيف لم أفقد وعيي مباشرة عندها.. عليّ أن أفعل شيئًا..! عليّ أن أنجو..! بيأسٍ شديد حاولت السباحة علّني أطفو على السطح.. لستُ سباحةً ماهرة.. ودروس السباحة القليلة التي تعلّمتها لن تسعفني طويلاً الآن..

عندما اخترقتُ برأسي وجه الماء أخيرًا سحبتُ كميةً كبيرةً من الأوكسجين إلى صدري كمن لم يتنفس منذ عقود..!

كنت أحرك ساقاي في الماء بإنهاكٍ شديد عسى أن أتمكن من متابعة الطفو.. لمحتُ قارب نجاةٍ ممتلئًا قريبًا مني.. استجمعتُ ما تبقى لي من أنفاس الحياة في محاولة الوصول إليه..

لماذا يبدو بعيدًا جدًا هكذا..؟ لماذا يبدو وكأنه يبتعد أكثر فأكثر كلما حاولتُ الاقتراب منه..؟ هل سأتمكن من الوصول إلى فرصة نجاتي الأخيرة؟ هل سأتمكن من التعلق بقشة الأمل الوحيدة المتبقية لدي؟

القارب يقترب.. ولكنه لا يزال يبدو بعيدًا.. طاقتي توشك على النفاد.. رجاءً.. تحملي قليلاً فحسب.. سينتهي كلّ شيءٍ لو لم تفعلي.. قليلاً بعد.. لم يتبقّ سوى القليل..!

بدأ القارب يصبح قريبًا أخيرًا.. لم يعد في مرمى بصري فحسب.. بل إنه الآن يكاد يكون في متناول يدي.. إنني أقترب.. أمدّ يدي.. فليتلقفها أحدكم رجاءً..!

عندما لمست بيدي جسد القارب.. أمسكته بقوة وبدأ جسدي في التراخي.. لم أعد أقوى على أي شيءٍ بعد الآن.. بالكاد لا أزال ممسكة بالقارب.. بالكاد شاهدتُ الأيدي تمتد نحوي.. إنهم يتلقفونني.. لقد نجوت..!

ولكنني كنت مخطئة.. مخطئةً تمامًا..! فالأيدي التي امتدت نحوي بدأت بجزع تبعد يدي عن القارب وتدفعني بعيدًا..!

لم أفهم ما يحدث.. التقطت أذناي أصواتًا متداخلةً تصرخ بشيءٍ مثل: القارب ثقيل.. سنغرق.. حمولة زائدة.. أبعدوها..!

كم من الممكن أن نكون نحن البشر أنانيين.. هل كنتُ سأتصرف بتلك الأنانية لو كنتُ مكانهم..؟ يصعب عليّ الآن تحديد أينا الأناني.. هم الذين لا يريدون المخاطرة بحياتهم لأجل شخصٍ واحد؟ أم أنا التي تصرّ على النجاة بنفسها ولو عرّض ذلك العديدين للخطر..؟

لا أدري كيف طاف بخلدي شيءٌ كهذا بينما أنا أُسحب إلى أعماق المحيط..

ليتني كنتُ بين أهلي الآن.. أكان الأمر يستحق..؟ كان بإمكاني شراء عدة رسمٍ جديدة.. ترتيب وقتي للتعامل مع التغيير الجديد في الجدول الجامعي.. إبقاء الود مع صديقتي على الرغم من اختلاف آراءنا..

أسيبكيني أحدهم الآن..؟ ماذا كنتُ سأخسر لو صنعتُ لنفسي جزءًا أكبر في ذكرياتهم..؟ لو شاركتُ والدتي جلساتها الصباحية.. لو ذاكرتُ لإخوتي.. لو تشاركتُ المائدة مع من أحب..

هل سيفتقدونني؟ هل كنتُ شيئًا ذا معنى في حياتهم؟ لماذا تشاجرتُ معهم مجددًا؟ لم أعد أذكر..!! ولكني لا أعتقد أنه كان يستحق..

ماذا سيحل بي الآن..؟ أين سيكون مصيري..؟ متى كانت آخر مرة وقفتُ فيها لأصلي أو رفعتُ يدي بدعوة..؟ كنت أمنّي نفسي بأني سأفعل هذا قريبًا.. هل فات الأوان الآن..؟ هل انتهى كل شيء..؟

بدأت أفكاري تتضاءل شيئًا فشيئًا حتى اختفت.. اختفت مع ظلامٍ سرمديٍّ غرقتُ فيه..

~

أصواتٌ متداخلة غزت رأسي فجأة..

ببطءٍ انفتحت عيناي..

لأبصر فوقي سماءً واسعة..!

كنتُ على متن قارب نجاة.. وكانت العديد من الأيدي تهزني بعنف محاولةً إعادتي إلى وعيي..

بالكاد تمكنتُ من الجلوس وأنا أسعل بشدة..

ما تمكنتُ من فهمه كان أن أحدهم قفز إلى الماء لينقذني ومنحني مكانه في القارب، بينما انطلق لينقذ غيري كونه سباحًا ماهرًا..

لمّا تمكن صوتي من الخروج أخيرًا لسؤالهم عمن يكون، ارتسمت لمحة حزن وندم على وجوههم.. إنه لم يعد..

كانت سفينة الإنقاذ تقترب منا الآن..

لقد عدتُ للحياة..! وأمنيات موتي لا تزال تمتلك فرصةً للتحقق..!

وعالمي الأناني، أكاد أكون الأكثر أنانيةً فيه بعد كل اللطف الذي غمرتني فيه روحك..

أعدك.. يا من لا أعرفك.. ولا أعرف إن كانت السماء لا تزال تظلك أو أنك صرت من سكانها.. أعدك.. بأني سأولد من جديد.. شخصًا مختلفًا..

فاليوم.. أشعر بأني أرى الشمس لأول مرة..!


~ تمت~