حزنٌ خافت :

وقف العدو على بابنا الحديدي الصدئ ..لم يطرقه أبدًا .. بل ولج إليه كولوج الفاتحين لمدينة منيعة التحصين

ركل الباب بكل قوته .. مجبرًا أبصارنا المفجوعة أن تتجه إليه قسرًا

نظر إلينا واحدًا واحدًا

كرسي كان يتحرك يومًا ما لأب أربعيني .. كسته الحرب ملامح شيخوخة مبكرة

وأم على فراشها تصارع مرضًا متطورًا لاوجود له في قائمة أطباء مدينتنا على الأقل

وسبعة أطفال من حولهم كأنهم أعجاز نخل خاوية ..

بما فيهم أنا !!

بدا منزلنا غارقًا في لجة صمت لامتوقعة

مقارنة بضوضاء الحرب في مدينتنا المكلومة

فلا طائرات العدو ولا دبابته ولا قذائفه تعرف معنى الهدوء ،
على الأقل عزفها مستمر مذ قرروا الإطاحة بهذه البلدة و أهلها ليلًا

وقف العلج يراقبنا بابتسامة ساخرة ظهرت بوضوح تحت كل تلك العدة التي تلف وجهه القرمزي

رمى رصاصة استفزازية على وسادة أمي أولًا

سقطت الرصاصة بجانب رأس أمي فسقط أخي الصغير ميتًا ..

- لم تجد الرصاصة طريقًا إليها إلا من خلاله -

غادرنا الصمت ..

فجأة صرخ أخي الكبير محمد باكيًا .. جاثيًا على أخي عبثًا يحاول إيقاظه.. بكلمات لامفهومة

تراكض بقية إخوتي الأربعة

مختبئين خلف كرسي والدي يرجون منه أمانًا زائفًا وحصنًا مؤقتًا

رجت ضحكات العلج أركان منزلنا المتهلهلة ..

بدا مستمتعا بنظرات الخوف والهلع على وجوه إخوتي

أطلق رصاصة نشوة على سقف منزلنا

وتساقط بعض الغبار على رؤوسنا الصغيرة

لم تنفض أختي الصغرى مروة عن رأسها أي غبار

جلست القرفصاء واستندت بظهرها على جثة أخي الصغير ثم لحقت به بكل هدوء

هو الخوف ربما .. أو رغبة في الهروب كانت ناجحة !!

صرخت سلوى وركضت بجنون نحو العدو

تضربه بكلتا يديها وهو يضحك

حملها ككيس قذر ورماها خارجًا نحو دبابته

أغمضت عينيّ أسًى .. ليته قتلها هنا .. على الأقل كانت ستذوق ميتة واحدة ستكون حلمها في المكان الذي تساق إليه

نظرت إلى إخوتي الثلاثة المتبقين

محمد يحتضن إيناس التي تبدو على شفير الجنون ، محاولًا منحها أمانًا لايملكه

جابر متقوقع خلف كرسي والدي .. عيناه جاحظتان من الهلع ..

أمي على الطرف الآخر للغرفة

وحدها ملامح أمي لم تكتسي بأثر لما يحدث حولها

بقيت على جمالها ..عيناها الباسمتان تذكرني بما كنا عليه قبل اندلاع هذه المأساة

كتفا أمي مسدلتان بقربها وعيناها معلقتان بالسماء و ابتسامة تغتصب ثغرها الساحر

هذا ما كنت أحتاجه .. الأمان الغائب و الذي يحاول أخي محمد عبثًا أن يمنحه لأختي إيناس

أو ذلك الذي يبحث عنه أخي جابر بقرب كرسي والدي

وجدته أنا في ملامح أمي .. الغائبة عنا دماغيًا

شعرت بفؤادي يغادر أجواءنا الخانقة

يرافق أمي وعالمها البعيد عنا جميعًا ..

وجدت نفسي أتحرك لا إراديًا .. أخرج من مخبأي بزاوية الغرفة

أركض نحو أمي ..

دوت رصاصات لاعدد لها .. تلتها صرخات أخي جابر المفجوعة ..

ارتميت فوقها و احتضنتها بكل يديّ و أغمضت عينيّ

اختفت صرخات إيناس .. و تمتمات محمد لها ..

شهقات أخي جابر أيضًا لم تدم ..

صارت أنينًا بيد أنها لم تلبث أن اختفت كليا

يبدو أني بقيت وحدي .. و أمي

لا أدري كم من الوقت بقيت فوقها لكنه بدا دهرًا ..

اختفت الأصوات من حولي تمامًا .. وأصبح المكان غارقًا في هدوئه السابق

رفعت رأسي بروية ..

الغرفة فارغة تمامًا

إيناس ما زالت تحتضن محمد بكل قوة

مروة ما زالت تجلس بجانب حسام المنبطح أرضًا

أخي جابر متقوقع بجانب كرسي والدي

وحدها سلوى .. بلا أثر سوى صدى صرخاتها الأخيرة في أذني

بدا المشهد مألوفًا ..

وكأننا نلعب لعبة الاختباء .. إلا أن ماحولهم من دماء تخبرني أن لعبة الاختباء ..ليست للجسد هذه المرة بل للروح أيضًا


على الأقل ..هناك أحد يتنفس في هذه الغرفة غيري
وهذا كل ما أريده

نظرت إلى أمي بحنان .. ماتزال مبتسمة .. عيناها للسماء ..
إلا أن كتفيها المسدلان لم يعودا كذلك ..

إحدى يديها كانت على ظهري ..وكأنها تشاركني الاحتضان

أحسست بلحظة جنونية .. وشعرت أن والدتي استعادت وعيها

حركتها .. هززتها .. لم تستجب ..

كنت أخاطب إخوتي الموتى حولي ..

أمي استفاقت .. استفاقت أمي

ركضت للخارج و أحضرت ماء ..

بدأت أمسح وجهها ابتداء من جبينها ..أحسست بشعور مخيف .. تمنيت أن لا يزورني أبدًا

وكأن شيئًا قد تغير في ملامح أمي

نظرت في وجهها ..متأملاً ..

هذا الثقب الدائري .. لم يكن على وجه أمي سابقًا .. من أين جاء ؟!

وضعت يدي عليه .. ببلاهة

أسألها: ماهذا يا أمي؟!

لا أعلم كم مرة كان علي أن أعيد السؤال

حتى أجابتني برودة جسدها !!

ارتخت أطرافها أكثر من ارتخائها مسبقًا

ميتة .. كيف لم أرى تلك الرصاصة التي سلبت مني روحك ؟

كنت فوقك تمامًا ..! كيف حدث أن تسرقك دون أن تعبرني ؟


تراجعت للوارء .. مصدومًا .. شعرت بكل ماجرى حولي فجأة

توالت مشاهد استشهاد إخوتي أمام عينيّ ..

سقط كرسي والدي العتيق على رأسي ..كان فارغًا من والدي المعتقل طبعًا !

آمتني ضربته ..لكني لم أمت للاسف ..وبقيت وحدي أتنفس في غرفة غادرتها أرواح عائلتي تباعًا


أو ربما بقيت وحدي ميتًا في غرفة تلاقت فيها أرواح قاطنيها في نعيم وروضٍ مزهر


انتهى