جَرَينا صَوبَ الغُرفةِ وأَمعنّا النَظَرَ فإِذا بِنا نَلحظُ قارورةَ مُنوِّمٍ على النافِذةِ رُبطَتْ على عُنُقِها رِسالةٌ فَتحتُها والغضبُ يَغلِي فِي داخِلي والغَيظُ أَكَل عَقلِي فَكانَتْ تَقول: "دارك، أَيُّها القاتِلُ الأَسود.. حَبيبتُكَ بِرِفقَتِي حالياً، شِبهُ صاحِيةٍ لكِنّها سالِمَةٌ مُعافاة.. إِنِ بَغيتَ لُقياها، هَلُمَّ إليّ وواجِهنِي بِمُفردِكَ حِينَ تَصحُو مِنْ غَفوتِكَ الهادِئَة.. أراكَ فِي الحَيِّ القديمِ عَلى أَطرافِ المـَدينَةِ السَّوداء، أَنا فِي إنتظارِك، عَدوُّكَ اللَّدود..
ع¤ارياس جاك مايرفاير.."
//
..
"ماذا..؟" كانتِ الكلمةَ الوحيدةَ الّتي نَطَقَ بِها فَمِي... مايرفاير في خِتامِ اسمِه، ما الّذي يجري.. ماذا يُريدُ مِنِّي ذاك العالِم، آهٍ لَو أعلمُ ما الذِي يَجرِي لَكنتُ انتهيتُ الآنَ مِن كُلِّ ما يُعيقُ ويشلُّ تفكِيري.. "لانس" نَطقتُ والخوفُ يرسُمُ ابتسامةً مُرتعِشةً على شِفاهي "سأذهبُ لإنقاذِها، أَعلمُ أنِّي سأُورِّطُكَ مَعِي فِي هذا لكِن.. رافِقني أَرجوك"..
//
..
شدَّ لانس على يَدي قائِلاً: "أَنا مَعكَ أَينما ذهبتْ".. التقطتُ حِزامِيَ الخاص حَيثُ رَصاصاتِيَ المُستديرةُ متمركزةٌ وسِلاحِي مَعه.. نبضاتُ قلبِيَ المُتسارِعةُ شَعرتُ بِها في عُنُقي واقشَعرَّ جَسدي بَرداً.. خَرجنا وانطلقنا بأَقصى سُرعةٍ الى المنطقةِ المقصودة، وفِي الطَّريقِ عَنِ الخُطَّةِ الّتي جاءَ فيها أَن أَنطلِقَ إلى المبنى ولانس يحمي ظهرِي خارِجه حتّى أستعِيدَ ماليسّا وأُعيدها إلى حَيثُ لانس مَوجود، بَعدها أَعودُ وأَبحثُ عَن ع¤ارياس..
//
..
وَصلنا إلى مُرادِنا وقامَ لانس بِتركينِ سيَّارتِهِ فِي مكانٍ مُظلِمٍ فانطلقنا بِأقصى سُرعةٍ حسبَ الخُطّة، كانَ هُنالكَ العديدُ من المُتمردينَ وأَمثالِهم يتربّصونَ بِنا.. قُمتُ بإحاطةِ لانس بدرعٍ يحميهِ قبل أَن أَترُكهُ لأنطلِق نحو ماليسا.. كانوا كثيرين حَقاً والمكانُ ضخمٌ والمبنى مُحطّمٌ وهذا زادَ الطينَ بِلّة! حتى أَنَّنِي تعبتُ وأَنا أبحثُ في الغُرفِ الكثيرةِ التِي لم أَجِد فيها أَثراً صغيراً لـ ماليسا.. أَينَ أَنتِ.. أَين؟!
//
..
كانت مَجزرةً على يَديَّ هاتين، المكانُ امتلأ برائحةِ الدماءِ والجُثثُ تتهاوى على الأَرض واحدةً تتلوها الأُخرى.. في أَعماقِ الظلامِ قَبل أَن أيأَسَ مِنَ العثورِ عليها إذا بي أَلمحُ باباً مُحكم الاِغلاقِ مُهشَّماُ مُكسّرَ الأطرافِ.. ذهبتُ ناحيتهُ وفَتحتُ الأَقفالَ واحِداً تِلوَ الآخرِ وإذا بِها هُناك، رغم فَرحِي إلاَّ أَنَّ منظرها كانَ مُؤلِماً فِعلاً إذ تُقيّدُها حبالٌ عَريضةٌ بقوَّةٍ حتى أَنَّ مناطقَ الحبالِ على بشرتِها ازرورقت وجسدُها تملؤهُ الخدوش وجُروحٌ واضحةٌ أَنّها آثارُ سكاكِين وخَناجِر..
//
..
رَكضتُ ناحِيتَها وفككتُ قَيدها وَجريتُ خارِجَ الغُرفةِ وأنا أَطلِقُ النَّارَ على مَن كان يتبَعُنا ودَخلتُ بِها إِلى إِحدى الغُرفِ الخالِيةِ الموجودَةِ هُناك.. جَثيتُ ووضعتُها أَرضاً وسَقطتُ مُستنِداً على الحائِطِ بِقربِها مُحاولاً أَخذ أَنفاسٍ بِصُعوبة.. بدأَتْ ماليسا بدورِها تأخُذُ بَعضَ الأَنفاس وهِيَ مُغمَىً عَليها.. حَمداً للهِ أَنَّها بِخَير..
//
..
بَقيتُ أَنتظِرُ وأَترقَّبُ لَحظةَ استيقاظِها كَمُزارعٍ ينتظرُ هُطولَ الأَمطارِ كَيْ يرتاحَ مِنْ عَناءِ سَقيِ مَزروعاتِه.. مرّرتُ يَديَّ على جِراحِها وخُدوشِها مُحاوِلاً شِفائها وَلو قَليلاً.. بَعد ثوانٍ، فتحَتْ عَينيهَا بِبُطئٍ شديدٍ فَقلتُ بسُرعةٍ: "ماليسا أَأنتِ على ما يُرام؟!" فإِذا بِدُموعِها تنهمِرُ كالسَّيلِ على وَجنتَيها، بعدَ لحظاتٍ أَدركتُ أَخيراً أَنّها قد قفَزتْ مُعانِقةً إيّايَ وجسدُها يرتجِفُ بقوَّةٍ إِذِ استَندَ رأَسُها على صَدرِي.. فِي تِلكَ اللحظةِ شعَرتُ بدفئِ جَسدِها الضّئيلِ ذاك فبدأتُ أُربِّتُ على رأسِها مُحاوِلاً تَهدِأتها وهَمَستُ أَنْ "لا عليكِ.. أَنا هُنا ولانس فِي الخارِج ينتظِرُنا"..
//
..
"ماليسّا.. سنخرُجُ بعدَ قليلٍ ولاتخافِي مَهما سَمعتِ مِنْ صوتِ كُراتِ الرَّصاص، ستركُضينَ ناحيةَ لانس وإِيّاكِ والتفكيرَ بالنظرِ إلى الوراء.. مفهوم؟" شدَّت ماليسّا على ذِراعَيَّ قائلةً والرجفةُ والخوفُ لَمْ يُفارِقاها البتّة: "وَ.. أنت..؟ ماذا عنك؟!" فأَجبتُها أَن: "عليَّ القِيامُ بشَيءٍ هامٍ هُنا"، إستمرَّ الجِدالُ حتَّى قالَتْ: "أَرجوكَ لا تَذهبْ! إِنَّهُ قاسٍ وبِلا قَلب.. مُخيفٌ ولا رحمةَ عِنده!" فَرددتُ بِهدوءٍ والابتسامةُ على وجهِي: "سأَعود، أنا أَعدُكِ.. ولكِن، عدينِي بأنَّكِ لَنْ تَعودِي للوراءِ حِينَ أَترككِ مَعَ لانس".. هُنا أَنزلَتْ يَدها وعمَّ الصمتُ الأَرجاءَ فَنطقتُ أَن: "ثِقي بِي" فَردّتْ بهُدوءٍ: "أَثِقُ بِك، ولكِن لاتتأخَّر أَرجُوك فقلبِي لن يَحتمِلَ الانتِظارَ والخَطرُ مُحاطٌ بِك"، فكانَ ردِّي أَن: "لاتقلقِي سأَعودُ بكُلِّ تأكيدٍ فلا تَنسَي أَنَّنِي القاتِلُ الأَسوَد، والآن استعِدِّي.." شَددتُ على يَدِها وتابعتُ أَن: "سَننطَلِق.. عِندَ ثلاثَة إِبدأي الرَّكض.. 1،2،3!!"
//
..
خَرجْنا مِنَ الغُرفَةِ ورَكَضنا بِأَقصى سُرعَةٍ فالمَكانُ كَبيرٌ جِدَّاً وَنحنُ فِي الطَّابقِ ماقَبلَ الأَخِير "الطابق التاسِع".. كَانَتْ تَسمَعُ صَوتَ رَصاصَاتِ سِلاحِي عَلى الأَعداءِ وكَذلِكَ َرصاصاتِهِم وهِيَ تُحاوِلُ تَجاهُلها وَعدمَ الصُّراخِ بِسببِها بأَقصى قوَّة، وَصلنا حَيثُ الطَّابَقِ الثَّالِثِ بالمِصعَدِ بِصُعُوبَةٍ حَيثُ تَوقَّفَ المِصعَدُ فَجأَةً والوَاضِحُ بِأَنَّ الأَعداءَ عَطَّلُوه، حَملتُها بَين ذِراعَيَّ وَقفزتُ مِنَ المِصعَدِ الَّذي فَتحتُهُ مِنْ إِحدى الجِهات.. أَسرَعنا إِلى غرفَةٍ لِنرتاحَ قَليلاً مِنْ هَذا الرَّكضِ الطَّويل وقُمتُ بِإغلاقِ البابِ كَي لا يَدخُلَ أَحد، جَثَتْ ماليسَّا عَلى رُكبتَيها وبدأَتْ تنهَتُ مُرهقةً مُحاوِلَةً أَخذَ بِضعِ أَنفاسٍ وأَنا كُنتُ مُنهَكاً بِدَورِي فاسترَحنا قَليلاً ونحنُ مُستنِدانِ على الحائِط، بَقينا صامِتَينِ بِلا كَلامٍ ولا هَمسٍ حَتَّى اتَّصَلَ بي لانس..
//
..
"دارك! أَتسمعُنِي؟ أَينَ أَنت؟!" قالَها لانس بِقلقٍ واضطِرابٍ شَديدَينِ فأَجبتُ: "أَنا في الطابقِ الثالثِ وماليسّا هُنا مَعِي".. استبشرَ لانس والبَهجةُ تعلو فوقَ صوتِهِ: "حمداً لله.. حمداً لله.. أَنا الآنَ في بدايةِ الطابقِ الثالِثِ وتخلَّصتُ مِنْ كُلِّ المُتواجِدينَ هُنا".. "مُمتاز، نحنُ قادِمانِ إلَيك" قلتُ فأغلَقنا الخطَّ ثُمَّ انطلَقنا ناحيةَ لانس، سلّمتُهُ ماليسّا وانطلقتُ صَوبَ الطَّابقِ الأَخيرِ حَيثُ سأَعرِفُ مَن هذا الـï**ارياس..
//
..
دَخلتُ إِلى الغُرفَةِ بَعدَ أَنْ أَزلتُ السِّحرَ الَّذي كانَ يغطِّيها كالرِّداء، كانتِ الغُرفَةُ قاتِمَةً سَوداء والسَّقفُ عِبارةً عَنِ السَّماء يتسللُ ضوءُ القمرِ خلالَ زُجاجِها.. مَشيتُ حينَ رأَيتُ شَخصاً يَقِفُ فِي نِهايةِ الغُرفَةِ استدارَ نَاحِيَتِي حِينَ سَمِعَ وَقعَ خطواتِ قَدمَيَّ فرَأيتُ وَجهه، كانَ شابَّاً رُبَّما أكبر مِنِّي بِسنتَينِ أَو ثلاث ذا شَعرٍ أَشقرَ مائلٍ للبياض و وَجهٍ حادِّ الملامِحِ مِثلِي تَقرِيباً.. جٍسُمهُ مَفتولُ العَضلات، وكانَ أَطولَ مِنِّي ببضعِ إنشات.. نَظرنا إِلى بَعضِنا وكُنت حادَّ الملامِحِ كَسابِقِ عَهدي وهُوَ ينظُرُ لِي مُبتسِماً كاشِفاً عَنْ أَنيابِهِ الحادَّةِ تِلكَ بِخُبثٍ شَديد..
//
..
كُسِرَ حاجِزُ الصَّمتِ بَيننا حِينَ نَطقَ كَلِماتِهِ الأُولى قائِلاً :"دارك، القاتِلُ الأَسوَد.. أَخيراً إِلتقَينا"، نظرتُ ناحيتَهُ ولَمْ أُرخِ دفاعِي قَطُّ قائِلاً: "مَنْ أَنتْ" فارتسمتِ البَسمةُ عَلى شِفاهِهِ بخُبثٍ مُجيباً: "سأًعرِّفُكَ بِنفسِي، أَنا ï*¬ارياس جاك مايرفاير"، نَظرتُ فِي عَينَيهِ باستخفافٍ وَقُلتُ مُستهزِئاً: "تَشرَّفتُ بِغابئِك، ماذا أَردتَ مِنِّي أَيُّها الـ ï*¬ارياس؟!"،. ضَحِكَ كالمَجنُونِ وكأَنَّنِي أَلقيتُ عَليهِ نُكتةً أَو ماشاَبَه، قالَ لِي بصَوتٍ يكادُ يَكونُ ناعِساً مُستخِفّاً ثُمَّ اشتدّتْ ملامِحُهُ: "لَيسَ ما أُريدُهُ هُوَ المُهِمُّ، بَل ماتُريدُهُ أَنت.."
//
..
نَظرتُ ناحِيَتهُ بإستِغرابٍ ولاتزالُ نَظراتِيَ الحادَّةُ تِلكَ مَحفورةً عَلى وَجهِي فأَكملَ ذاكَ المَعتوهُ كَلامَهُ قائِلاً: "تُريدُ هَذِه أَليسَ كذلِك؟" فِي لحظاتٍ أَخرجَ مِن جَيبِهِ كُرةً غَريبَةً سَوداءَ مُشِعَّة مِثلَ كُرةِ طاقَةٍ أَو ماشابَهَ ذلِك وَفِي داخِلِها صُورٌ تسبحُ كأَنَّها... ذِكرَياتِي؟!
//
..
صدمةٌ قاسيةٌ حقاً.. ذِكرياتي؟! مِنْ أَين لهُ بِها!! كنتُ أَنظُرُ إِلى الكُرةِ تِلكَ باستغرابٍ شديدٍ وكِدتُ أَفقدُ أَعصابِي حِين نَطقَ كَلِماتِهِ بِخُبثٍ قائِلاً: "أَلا تُريدُ ذَاكِرتَكَ هَذِهِ يا دارك؟!"، أَجبتُهُ بِبُرودٍ يُحطِّمُ الجَليد ويَصهَرُ الحَديدَ قائِلاً :"مِنْ أَينَ لَكَ بِها أَيُّها المـَعتُوه..!!"، فَعادَ إِلى ضِحكَتهِ المَجنونةِ وقالَ بِكُلٍّ بُرودٍ وأَنيابُهُ تِلكَ ناصِعَةٌ مُنكشِفَةٌ مِن بَين فكَّيهِ :"مِنْ جَدِّي"..
//
..
صُعِقتُ مَصدُوماً فِي مكانِي مُجمَّداً بِلا حَراك، إِذاً فَهُوَ حَفيدُه، أَيُعقَلُ بأَنَّ الدكتور مايرفاير قَد مَات؟! لا، هَذا لا يُمكِنْ.. مُستحيل!! إِبتسَمَ بِسُخرِيَةٍ وعادَ لِيُكرِّرَ ضِحكتهُ تِلكَ مُجدداً: "ههه، هَل تَفاجأت؟! نعَمْ، أَنا حَفيدُه وأَتيتُ كَي أَقضِيَ عَليكَ لِأَمنعَكَ مِنَ الذَّهابِ إِليهِ وقَتلِهِ لِتأَخُذَ مِنهُ ذِكراكَ بِالقُوَّة!!"، مـ.. ما الَّذِي يَقولُهُ هَذا المـَعتُوهُ الآن؟! كَيفَ عَلِمَ بِأَنَّنِي سأَفعَلُ ذلِكَ حِينَ أَراه؟! في غُضونِ ثوانٍ تراقصَت عقارِبُ الساعةُ مُعلِنةً أَنْ قدْ حانَ وَقتُ أَلمِي.. ضَرباتُ قَلبِي تسارَعت وهذا الشُّعورُ بالأَلمِ فِي صَدرِي عادَ لِيَ الآن مُجدَّداً..! بدأَتُ أَسعلُ دَماً وسَقطتُ جاثِياً عَلى رُكبتَيَّ، كُلُّ هذا كانَ دَليلاً كافِياً عَلى مَوتِ وسُقوطِ تُويَجةٍ أُخرى مِنْ تُويجاتِ حَياتِيَ المُنتهِيَة بِلا شَكٍّ.. آهاتٌ مُعذَّبةٌ وصرخاتٌ مكتومةٌ لَمْ أَستطِع إِخراجَها، كُنتُ أَنهتُ والعَرقُ يتصَبَّبُ مِنِّي وأَنا أَتلوّى إلى درجةٍ كَبيرةٍ تَقشعِرُّ لَها الأَجسادُ وتَصرُخُ لَها العُيونُ والقُلوب، وï*¬ـارياس ذاكَ يَنظُرُ لِي مُستغرِباً مُحاوِلاً فَهمَ مايحصُلُ الآنَ أَمامَه..
//
..
تَوقَّفَ النَّزيفُ أَخِيراً وحاولتُ النُّهوضَ بصعوبةٍ لكِن نجَحتُ فِي النِّهايَة، قالَ لِي ï*¬ـارياس وهُوَ فِي تلكَ النبرةِ المـُستغرِبة المـُستفِزَّة: "ما الأَمرُ يا دارك؟. أَهِيَ صَرخاتُ الوَفاةِ القَريبة؟!!"، فعادَ الأَبلهُ لِيضحَكَ مُجدَّداً ونَظراتُ عَينيَّ حادَّةٌ كما لَمْ يَسبِقْ لِعَينٍ فِي الدُّنيا أَن كانَتْ مِنْ قَبلُ هكذا.. أَخرجتُ سَيفِيَ الأَسودَ ومَددتُهُ ناحيةَ ï*¬ـارياس حَيثُ قُلتُ بِإستِهزاءٍ وسُخريةٍ لَه: "إِنْ كانَتْ هَذهِ صَرخاتُ مَوتٍ حَقَّاً، فَلَنْ أَموتَ قَبلَ أَنْ أُغلِقَ فَمكَ لِلأَبد.. إِستعِدَّ لِلمَوت!!"، قهقهَ قليلاً فأَخرجَ سَيفَهُ مِنْ غمدِهِ وقالَ وَهوَ يَنظُرُ لِي بِإستفْزازٍ عَمِيق: "لِنرَ مَنِ الأَقوى بَيننا أَيُّها القاتِلُ الأَسود، سَأحرِصُ أَنْ تَموتَ قَبلَ أَنْ تَستعِيدَ ذِكرياتِك!!"..
//
..
بدأنا القِتالَ بِهجماتٍ سَريعَةٍ جَارينا فِيها سُرعةَ الصَّوتِ تَقريباً والرياحَ العاصِفةَ قُوَّةً فَبدا المَكانُ مُهشّماً مُكسراً أَكثرَ مِنْ قَبل كُلَّما إِلتصَق سَيفُ أَحدِنا بالآخَر.. كانَ فِي كُلِّ هَجمةٍ يَشُنُّها عَليَّ أُحاوِلُ رَدعَها فيَقومُ بِتفادِيها، وكُلَّما هَجمتُ عَليهِ أَنا تَفادَى هَجماتِي، أَيُحاوِلُ إِثارةَ غَيضي وغضبِي هكذا؟! صليلُ احتِكاكِ نَصلَي سَيفينا كانَ يَدوِي وَيعوِي وسَحقنا كُلَّ شيءٍ فِي تلكَ الغُرفةِ تَحتَ أَقدامِنا.. توقَّفنا عَنِ الضَّرباتِ إذْ أَنَّ سَيفينا التَصقا بِبعضِهِما مُجدداً ونَظراتُ أَحدِنا أَشدُّ مِنْ نَظراتِ الآخَر وبدأتْ شراراتٌ تَخرُجُ جرّاءَ قُوَّةِ ضَرباتِ صوارِمِنا إِذْ يُحاوِلانِ كَسرَ بَعضِهِما..
//
..
ونَحنُ لانزالُ فِي تِلكَ الوَضعِيَّة ابتسمَ بِخباثَةٍ واختَفى مِنْ أَمامِي، بَعدَ قَليلٍ ظَهرَ لِي مِنْ خَلفِي ولِحُسنِ حَظِّي فَقَد تَفادَيتُ هَجمَتهُ أَخيراً.. وَقفتُ وأنا أَقولُ لَهُ بَعد فَهمِي لِما يَجرِي: "تَقرأُ أَفكاري، وتتَفادَى هَجماتِي وأَنتَ تَعلمُ بِها، يالَهُ مِنْ غِشٍّ وَ زُور!!"، تبسَّمَ ضاحِكاً ضِحكَتَهُ المَجنونَة تِلك وقالَ بِحَماس: " أَنتَ ذكِيٌّ أَيُّها القاتِلُ الأَسود! وَلكِنَّها غَريزةٌ فِيَّ مُنذُ صِغري ولا أَستطيعُ إِيقافَها!!! عَليكَ أَنْ تُحاوِلَ الإِنتِصارَ عليَّ ومَعَ ذَلك فَلَنْ تَستطِيع!"
//
..
إِبتسمتُ بِخباثَةٍ فنَظرَ لِي بِإِستغرابٍ شَديدٍ وَقُلتُ وها هِيَ صَرخاتُ ضحِكاتِي بدأَ صداها يَتردَّدُ أَنحاءَ الغُرفة و هالَةٌ حَمراءُ مُشِعَّةٌ تُحيطُ بِجسدِي: "لَديكَ غَريزَةٌ الغِشِّ تَجري فِي عُروقِكَ وتترَشَّحُ عَبر شُعيراتِكَ الدَّمويَةِ، وأَنا أَملِكُ ما لَنْ تَستطِيعَ قِواكَ تلك لَمسَها مُطلَقاً وَستموتُ تَحتَ قَدمَّيَّ وسَأجعَلُكَ تَلفِظُ أَنفاسَكَ الأَخيرة بِجسدٍ مُهشّم.. سأقطعُ لِسانكَ السّليط وأُمزِّقُ أَحشائك، سأَغرِسُ حِذائِي فِي عَينَيكَ وأَرتشِفُ جُرُعاتٍ مِنْ دِمائِك، وَدِّعِ الحَياة!!"،. أَشعَّتِ الهالَةُ الحَمراءُ حَولِي فَهِيَ نابِعةٌ مِنْ طاقةٌ مَحبوسَةٌ داخِلَ زُمرُّدَتِي الزَّرقاء الَّتِي أَرتدِيها، تمكَّنتُ مِنَ السَّيطَرةِ عَليها وَأنا فِي السَّابِعةِ مِن عُمري والآن سَأُخرِجُها لِأقضِيَ على ï*¬ـارياس فأُحطِّم وجهَهُ تحطِيماً وأُكسِّر عِضامَهُ تَكسِيراً وأُمزِّق قَلبَهُ إِلى ماهُوَ أَصغرُ مِنَ الذَّراتِ..
//
..
إِنفجرَتِ الطَّاقةُ حِينَ صَرختُ بِصوتٍ مُدوٍّ اهتزَّتْ لَهُ عُيونُ ï*¬ـارياس ورَقصَتْ خَوفَاً ولَمْ يَستطِعْ مَعرِفةَ حَركاتِيَ القادمة، أَجل تحطَّمَتْ حاسَّتُهُ الغريزِيَّة تِلك والآنَ حان وَقتُ إِنهاءِ هَذا النِّزالِ الأَحمَق! هَجمتُ عَليهِ بِسُرعةِ الصَّوتِ وبَدأتُ أُمزِّقُهُ بِسيفي مِن جَميعِ مَناطِقِ جَسدِه، بدأَ ينزِفُ بِشدَّةٍ ولَمْ يَكُن يتوقَّعُ هَجماتِي هَذِه.. جِسمُهُ مليءٌ بالجُروحِ الخَطيرةِ، وأَنفاسُهُ العَفِنه بَدأَتْ تَزولْ.. وفِي النِّهايةِ قبلَ أَن أقتُلهُ وأُهشِّم قَلبَه قُلتُ لَهُ بإستخفافٍ شَديدٍ قاسٍ وسَيفِي مُوجَّهُ ناحِيةَ صَدرِه: "أَمِن كَلماتٍ قَبلَ المَوت، أَيّها القُمامة؟"، فَقالَ لِي بِأنفاسٍ مُتقطِّعةٍ مُنتهِيةٍ مُجيباً :"لَم يَنتهِ الأَمرُ بَعد.. حِينَ أَموت.. سَتعودُ الكُرةُ الخاصَّةُ بِكَ إِلى المجرَّةِ حَيثُ... جدِّي!"
//
..
أَحكمتُ قَبضَتِي وإِشتدَّ غَضبِي وإنعقدَ حاجِبايَ تَعصُّباً وقُمتُ بِطَعنِهِ قائِلاً: "لَم أَعُد أَتحمَّلُ ضِحكتكَ الغبيَّةَ هَذهِ وطَريقةَ كَلامِكَ المـَعتوهُة كَذلِك، مُتْ وتخلَّص مِنَ الحَياة!!" سَقطَ جُثَّةً مُهشَّمةً فتابعتُ أَن: "لاتقلَق بِشأَنِ ذِكرياتِي، سأُعيدُها مَهما كَلَّفَ الثَّمن"، وهَكذا ماتَ ذاكَ المعتوهُ أَخيراً وتخَلَّصتُ مِنهُ نِهائيَّاً ولكِنْ.. كانَ عليَّ أَنْ أُواجِهَ عَواقِبَ إِستخدامِ قُوَّةِ الزُّمرُّدةِ خاصَّتِي فَسقطتُ مُنهارَ القِوى عَلى تِلكَ الأَرضِ الصَّلِبَة..
//
..
إِستيقَظتُ عَلى صَوتِ شَخصينِ وأَنا بَينَ ذِراعَي أَحدِهِما إِذْ يُحاوِلانِ إِيقاضِي بالوسائِلِ المُختلِفَة ولكِنَّ الصُّورةَ فِي عَينيَّ لَمْ تتَّضِح إِلاَّ بَعدَ فَترةٍ قَليلَة فَصَوتِي ذَهبَ عَنْ حُنجُرتِي وفارَقها لِبِضعةِ ثوانٍ معدودة، حِينَ فتحتُ عَينيَّ رأيتُ وأَدركتُ بأنَّ مَنْ كُنتُ أَغفُو بَينَ ذِراعَيهِ الدَّافئتَينِ هُوَ لانس وَمنْ كانَتْ تَصرُخُ مُحاوِلَةً إِيقاضِي هِيَ ماليسا.. حِين رأَيانِي أَفتحُ عَينيَّ قالا والراحةُ سَكنتْ فؤادَيهِما سويَّاً: "الحمدُ للهِ"، أَجبتُهما وأَنا أُحاوِلُ الجُلوسَ بِإِعتدال: "شُكراً لِتجاهُلِ أَوامِري والصُّعودِ إِلى الطَّابقِ الأَخير"..
//
..
إِبتسمَ لانس وضَحكا ضحكَةً خَفيفةً قائِلَين: "آسِفان~".. بَدأتُ ألتقِطُ أَنفاساً مُحاوِلاً تهدِئَة نَفسِي في حِينِ كانَ لانس يَضعُ يَدهُ خَلفَ ظَهري ويُحاوِلُ إسنادِي إِذِ انعدمَ توازُنِي، بعدَ مُدَّةٍ قَصيرةٍ قالَتْ لِي ماليسا بِإمتنانٍ وهُدوء رافَقهُما فزعٌ طَفيف "شُكراً لكَ يا دارك لِإنقاذِي، أَنا مَدينةٌ لك"، أَجبتُها باستغرابٍ: "لا عليكِ ولكن.. لِمَ أَنتِ خائفة؟"
//
..
أَشاحَت ماليسّا نظرِها ثُمَّ قالت وهِيَ تنظُرُ إلى الأَرضِ قَلقةً وارتفَعَ حاجِباها خَوفاً: "الجُثَّةِ المُمزَّقَةُ أَشلاؤُها هُناك.. لَمْ أَتعرّف على صاحِبِها كونها مُمزَّقة ولكن، هِي لَه أَليسَ كذلك؟"، نَظرتُ إِليها وكانَتْ جُثَّة ï*¬ـارياس وبدأَتْ الدُّموعُ تتساقطُ مُنهمرَةً مِن عَينَيها ونَظراتُ الخوفِ والقلق منحوتةٌ على وَجهِها.. يَبدو أَنَّها أَوّلُ مرّةٍ تَرى فِيها أَعمالِي حينَ أَفقِدُ صَوابِي، أَشفقتُ على منظرِها فحاولتُ الحراكَ ولكنَّنِي تألَّمتُ بشدَّةٍ ولاحظتُ بأَنَّ ضِماداتٍ تُحيطُ صَدرِي وأَماكِن جُروحِي، فقالَتْ لِي ماليسّا بِقلَقٍ شديد: "لا تتحرَّك! جُروحكَ كانَتْ خَطيرةً وكِدتَ تَقضِي عَلى نَفسِك، أَرجوك.. لاتتحرَّك"، كانت خائِفةً على جُروحِي أَكثرَ مِنَ الجُثّة..
//
..
جَلستُ مُتَّكِئاً عَلى الحائِطِ ولَمْ أَقم بِشيءٍ سِوى التَّحدِيقِ فِي جُثَّةِ ï*¬ـارياس الَّتِي أَرعَبتِ المسكينة.. في الواقع كانتْ مُمزَّقةً بِشكلٍ مُروِّع، هَل قُمتُ بِهذا حَقَّاً؟ يَبدو بأنَّنِي فقدتُ التركيزَ حِينَ هاجَمتُهُ فِي النِّهايةِ..
//
..
قال لانس بِصوتٍ قَلقٍ يشوبُهُ الغضب: "ما الَّذي فَعلتَهُ هُنا يا دارك؟. أَأنتَ مَن قامَ بِهذا، أَعني.. مَنْ مزَّقَ الجُثَّةَ هَكذا.. أَكانَ أَنت؟"، أَجبتُهُ وأَنا أَنظُرُ ناحيةَ الأَرضِ وأَضعُ يدِاً عَلى رُكبتِي: "أَجل، أَنا" أَجابَنِي لانس بعد أَن صَفعَنِي عَلى وَجهِي بِغَضَب: "ماذا تَعنِي بِكلامكَ هذا؟! لاتَقُل لِي بِأَنَّكَ جَعلتَنا ننتَظِرُ في الأَسفلِ كَي لا نرى ماتَفعلُهُ بِضحاياك؟! دارك، أَفِق مِنْ غَفوتِك! مَنْ أَنتَ الآن؟! ما سببُ كُلِّ هذا، بالاحرى.. لِمَنْ هذهِ الجُثّةُ أَصلاً؟!"، ماهذا الشُّعورُ الغريب؟ صَفعةُ لانس تِلكَ آلمتنِي حَقَّاً.. ما الذي يَجري مَعِي؟!
//
..
أَخفضتُ رَأسِي ولَم أرفَع نَظرِي ناحيةَ لانس أو أَجبتُهُ على ماقالَهُ لِي الآن حتّى فأمسَكَ ذقنِي وَرفعهُ نَحوَهُ كَي أُواجِهَه، فحِين كادَ يصَفعُني مُجدَّداً رآى دُموعاً مملوءَةً بالدِّماءِ تَجريِ عَلى وَجهِي وحاجِبايَ معقودانِ بغضبٍ وأَلمٍ.. تَوقَّفَ مصدوماً مُنذهِلاً ولايَعرِفُ ما يَفعَلُ حتّى، أَنزلَ يدهُ وأَمسكَ بِكتِفيَّ قائِلاً وهُوَ يُحاوِلُ أَنْ يجعَلنِي أَنظُرُ فِي عَينيهِ ولكِنَّنِي لَم أَجرؤ عَلى ذَلِك: "ما الأَمرُ يادارك؟. ماذا يَجرِي.. أَخبِرني!. لِماذا لاتتكلَّمُ مَعي؟ لِمَنْ هذهِ الجُثّةُ وماذا دفعكَ لقتلِها بهذهِ البشاعة؟! قُل شَيئاً!"
//
..
أَجبتُهُ وأَنا أُحاوِلُ مَسحَ دُموعِي المُنهمِرَة كما لَو أَنَّني لَستُ الوَحشَ الَّذي قامَ بِتمزيقِ الجُثَّةِ المرميَّةِ هُناك قائِلاً: "لَيسَ هُناكَ أَيَّ شَيءٍ يُهمُّكَ يا لانس، هَذا الأَمرُ يَخُصًّنِي.. أَرجوك، دَعنِي قَليلاً وسأُحدِّثُكَ فِيما بَعدُ عَنِ الموضوع".. نَهضَ لانس وَذهبَ مُستنِداً على الحائِطِ الآخرِ يَنظُرُ إلى الأَرضِ ويداهُ مَعقودتانِ بِغضبٍ في حينِ بقيتْ ماليسّا بِجواري ولكِنَّنِي أَخبرتُها بأَنْ تَتركنِي قليلاً، فَذهبتْ قُربَ لانس خائِفةً عيناها يشوبُهُما القلق..
//
..
فِي تِلكَ اللحظةِ تذكَّرتُ ما جَرى قَبل أَنْ أَفقِدَ وَعيي فوَقفتُ عَلى قدمَيَّ وأَسندتُ رأسي إِلى الحائِطِ وبدأَتُ أَلكُمُهُ بِغضبٍ وشدَّةٍ وصَوتُ صُراخِي كانَ كالأَسدِ المَجروحِ قَلبُهُ أَما لانس وماليسّا ينظُرانِ إِليَّ باستغرابٍ وكأَنَّنِي قَد جُنِنتُ أَو أَصابَ دِماغِي شَيءٌ ولكِن لا.. لم يُصِبني شَيءٌ أَبداً، إِنَّما هُوَ غَضبِي وأَلمُ صفعةِ صَديقِي تسرَّبتا إِلى الحائِطِ مِنْ خِلالِ أَعصابِ يَدي.. هَرَعَ الإثنانِ لإيقافِي لكِنَّنِي فِي النِّهايةِ جَثيتُ على رُكبتيَّ ويَدايَ اللتانِ كانَتا تضرِبانِ الحائطَ سالَتْ مِنهما الدِّماءُ ورُسمَ أَثرُهما على الحائِطِ كالوشمِ الأَبدِيِّ ولانس وماليسا خلفي لا يعرِفانِ ما يفعلانِهِ لِتهدأَةِ أَعصابِي..
//
..
فِي غُضونِ ثوانٍ، تَخلخَلَ توازُنِي وَسقطتُ لِتلتقِطَنِي ذِراعا لانس حَملنِي لانس فعادَ بِي إِلى المنزلِ مَعَ ماليسا وكُنتُ أَنزِفُ وجُروحِي يَبدو وكأَنَّها انفتحَتْ مُجدَّداً ووجهِي يتعرَّقُ بشدَّةٍ وحرارتِي مُرتفِعةٌ كَثيراً.. كانَ رَفيقايَ فِي حيرةٍ إذْ لا يعرِفانِ مايجِبُ فِعلُه، ليسَ بإمكانِهِما استدعاءُ طبيبٍ فالجميعُ يَهابُ القاتِلَ الأَسودَ قَطعاً فَقاما بِتضميدِ جُروحِي.. على حالتِي هَذِهِ بَقيتُ وأنا فِي غيبوبتِي كُنتُ أُردِّدُ ثلاثَ كلِماتٍ كَانت: "لانس.. آسِف.. ذكرياتِي"..
//
..
فتحتُ عَينيَّ على دَوِيِّ الرّعدِ وتتابُعِ هُطولِ قَطراتِ المَطرِ لِأَرى كِيسَ ثلجٍ عَلى جَبهَتِي ولانس نائِمٌ على حافَّةِ سَريرِي يُمسِكُ بيَدِي وماليسّا تُحدِّقُ في النّافِذةِ بأَملٍ وَيداها مَشبوكتانِ كأَنَّها تدعو.. أَحسستُ بضعفٍ شَديدٍ إِذ كانَتْ حرارَتِي مُرتفِعةً فهمستُ بصوتٍ مَريضٍ: "ماليسّا"، إِستدارَتْ ناحِيتِي والدُّموع تترقرقُ فِي عَينَيها فَهرعتْ تركضُ ناحِيَتِي وأَمسَكَتْ يدِي وقالَتْ بصوتٍ بَشوش: "حَمداً لله.. حمداً لله"، إِبتَسمتُ فَشددتُ على يَدِها قائِلاً: "أَيقِضي لانس، يجِبُ أَنْ أُخبِركُما بِما جَرى"..
//
..
أَفاقَ لانسْ واستبشرَ وَجهُهُ فرِحاً فاعتذرتُ لَهُ مُسرِعاً أنِ: "اعذرنِي يا لانس على عَدمِ شَرحِي للموضوعِ مُباشرةً هُناك.. كُنتُ لا أَزالُ تَحتَ تأثيرِ الصّدمة"، "لا عَليك، أَتفهَّمُ مَوقِفك وعُذراً على إلحاحِي"، قال ردّاً عليَّ فأعقبتُ أَنْ: "كُنتُ أَحمقَ لأنِّي لَم أُخبركَ عَن السَّببِ الَّذي دَفعنِي لِتمزيقِ تلك الجُثَّةِ هَكذا.."، فقاطَعنِي لانْس بِأَنْ مَسَّدَ على شَعرِي بِهُدوءٍ قائِلاً والابتسامةُ مَرسومةٌ عَلى وَجهِهِ: "لا بأس، لا بأس.."، عمَّ الهُدوءُ قَليلاً فقالَ لانس بِخُبثٍ وعَيناهُ صَوبَ عَينَيَّ: " عُموماً فأَنا مَنْ ضمَّدَ جِراحَكَ تِلك، فكانتِ اعتذاري، وأَنتَ ماذا ستُقدِّمُ لِي كإِعتذار؟.. ها؟ ها؟!"، نَهضتُ مِنَ السَّريرِ وخَرِجتُ مِنَ الغُرفَةِ فَحينَ عُدتُ كانَ مَعِي كَأسُ ماءٍ فقال لانس: "لِماذا عانيتَ لِإحضارِه وأنتَ على هذهِ الحال؟. على كُلٍّ، شكراً فأنا أشعُرُ بالعطَـ.." فسكبتُ الماءَ فوقَ رأسِهِ قائلاً: "هَذا لَيس لِتشربَهُ بل لأَسكبهُ فوقَ رأسِك!"..
//
..
إِنفجرَتْ ماليسا ضَحِكاً وأَنا مَعها ولانس كَذلك! عُدتُ وجلستُ على سريري وتحدَّثنا بِشأنِ ماحدثَ وأَخبرتُهُما بالقصَّةِ كامِلَةً فاستوعَبا الأَمرَ بِسُرعةٍ حتّى قَبل أَنْ أُنهِيَ كلامِي.. ماليسا بدأَتْ تقلقُ أَكثر فسأَلتنِي قائلةً: "ولاتقولا لِي بأنَّكما ستذهبانِ إِلى الدكتور مايرفاير وحدَكُما؟!" فأومأنا أَنا ولانس لها بالإِيجاب.. إشتدَّ المَطرُ والرّعدُ يَدوِي وَيعوِي كَما الذِّئابُ إِذْ نَهضتْ ماليسّا قائِلةً بغضبٍ وَصوتٍ يَرتجفُ: "ومَاذا إِنْ حَصلَ لكُما مَكروه؟! ماذا سأَفعلُ وماذا سأَقولُ للصغيرةِ كايتي؟!"، أَجبتُ بعدَ صمتٍ دامَ ثوانٍ: "ماليسّا لا تقلقي، لانس سَيكونُ بِخيرٍ وسَيعودُ بكُلِّ تأَكيد.."، أَمسكتُ يَدَها قائِلاً بِحزمٍ وثَبات: "وفِي حالِ لَمْ أَعُد، أُريدُكِ أَنْ تَعِدينِي بأنَّكِ لَن تحزَنِي لِأَجلِي ولَنْ تَذرِفِي نِصفَ رُبعِ دَمعة!"، فردَّتْ ماليسّا: "ولكِن كَيف؟! أتَعرفُ كَمْ هَذا مُروِّع؟! لاتَعُدْ يا لانس دونَ دارك، أرجوكُما عُودا سَويَّاً!"
//
..
لَم أُخبِرها حتّى الآن عَنِ الزهرةِ وكَيفَ أَنَّها قَلبِي وَبدأتْ تتساقطُ تُويجاتُها بما يَعنِي أَنَّ أَجَلِي قَريب.. شَددتُ على يدَيها قائِلاً: "الموتُ مُقدَّرٌ حَتَّى لِشخصٍ مِثلِي ولايُمكِنُ لأَحدٍ التَّلاعُبُ بِذلِك، لِذا عَليكِ أَنْ تَستعِدِّي جَيِّداً وأَنْ تتحلَّي بالصَّبرِ والقُوَّة.. وتذكَّرِي، لانس سيكونُ معكِ دوماً فلا حاجَةَ للقلق.. إِنْ كُنتِ تُريدينَ سَعادتِي وأَنا مَيت، فلا تَبكِ عليّ.. إتّفقنا؟"، فِي تِلكَ اللحظةِ عمَّ الصّمتُ وأَعتقِدُ أَنَّها تَقبَّلتِ الموضوعَ أَخيراً..
//
..
بَعدَ لحظاتٍ ذَهَبَ لانس لِتحضير بَعضِ القهوةٍ لَنا وتَركنا أَنا وماليسّا، أعتقِدُ أَنَّها خُطةٌ لإِبقائِنا وحدنا.. ذاك الأَحمق، إحمرّتْ وجنتايَ قليلاً فنظَرتْ ماليسّا ناحِيتي قائلةً بِصوتٍ عميقٍ أَن: "دارك، هل لِي ببضعِ كلمات؟" أَومأتُ بالإيجابِ فردَّتْ بَعدَ نَفَسٍ عَميقٍ أَن: "قَضيتُ سنين عُمري كلّها فِي المكتبةِ وحضور النّدواتِ والمُؤتمرات وكتابةِ الأَبحاثِ حتّى التقَيتُ بِك، تغيّرتْ نَظرَتِي للعالمِ وانفتحتُ أَكثرَ عَلَيه.. كنتُ أَعتقِدُ بأَنَّي بارِدةَ المشاعِرِ حتّى تبيَّنَ لِي بأَنَّكَ أَبردُ مِنِّي، بَحثتُ أَكثرَ عنكَ حتَّى تقابلنا هُناك في المُؤتمرِ أَتذكُر؟ بَعدها تعرَّفتُ عَليكَ أَكثرَ حِينَ ذَهابنا لِزيارةِ قَبرَي والِدَيك، شعَرتُ بِأنَّ مشاعِري وكذلك خاصّتُكَ تغيَّرتْ حتَّى صارَتْ أَدفأ.. بدأتُ أَخرُجُ مِنْ عُزلَتِي، تعرَّفتُ على الكثيرينَ بِسببك.. ثُمَّ بدأتُ.. أُحبُّك"
//
..
قلبِي كَانَ يَنبِضُ كَما تَهطِلُ قطراتُ المَطرِ خارِجاً، إِقشعرَّ جَسدِي بالكامِلِ واحمرَّتْ وَجنتايَ إِثرَ كَلمةٍ واحِدة.. مَضتْ لحظاتُ صَمتٍ وبَدَتْ ماليسا كالزهرةِ الخجولةِ وقتها، تابعتْ بَعد أَخذِ نَفَسٍ عَميقٍ أَن: "حدَّثتُ لانس بِهذا الأَمرِ حِينَ عُدنا مِنَ المُنتزهِ فَأَخبرنِي بأَنَّ عليَّ مُصارحتكَ فِي هذا الموضوع.. لا أعلمُ إِنْ كُنتَ تَشعُرُ بالمِثلِ ولكِنْ، أَحببتُكَ حَقَّاً.. هذا كانَ سببَ رَفضي لِرحيلِكَ مُجدَّداً"، أُحبُّكِ.. لا أَعلمُ مَتى سأَقولُها لَكِ ولكنَّ مَشاعِري تجاهكِ بالمِثل، إكتَفيتُ بِمُعانَقةِ جَسدِها الضَّئيلِ قائِلاً: "ثِقِي بِأَنَّنِي حتّى وإِنْ فارقتُ الحياةَ فإِنَّ كلِماتكِ هذهِ لَنْ أَنساها أَبداً، أشكُركِ"..
//
..
هدأَتْ ماليسّا وكذلكَ أَنا وَكِلانا لا يعرِفُ ما يقوُلُ بعد كُلِّ هذا، عادَ لانس يُقدِّمُ لَنا القَهوةً ووجههُ منفوخٌ وخدّاهُ أَحمرانِ ويُقهقهُ بخفَّةٍ محاوِلاً بِفشلٍ كَتمَ الضحكةِ فقرصتُهُ مِنْ ذِراعهِ لِيهدأَ قليلاً.. تجاذبنا نحنُ الثلاثةُ أَطرافَ الحديثِ لإِقناعِ ماليسّا بِضرورةِ إتمامِ الرِّحلة، فوافَقت بعد عِنادٍ دامَ طَويلاً.. "مَتى سَتبدآنِ المـُهِمَّة كَي نتمكَّنَ مِنْ تَوديعكما توديعاً لائِقاً؟" قالت ماليسّا فأَجبناها والغباءُ مرسومٌ على وُجوهِنا أَن: "لانَعلم!"، ضَحِكنا فتبادلنا الآراءَ حَول وَقتِ الرِّحلَةِ وقرَّرنا أَنْ تكونَ بعدَ ثلاثَةِ أَيَّام.. إقترحَتْ ماليسّا أَن نقومَ نحنُ الأَربعَة بنزهةٍ قَبل يومٍ مِنَ الرِّحلةِ كوَداعيّةٍ لطِيفة..
//
..
عادتْ ماليسّا إلى بَيتِها حِينَ توقَّفتِ الأَمطارُ وهدأَتِ الأَجواءُ وَبقِيَ لانس بِجانِبي.. ليلةٌ خفيفةٌ مرَّتْ بِسلامٍ وَأَمانٍ لَمْ أَحظَ براحةٍ مِثلها طِيلةَ حَياتِي.. فِي الصباح، كانَتِ الثلوجُ تَتزحزحُ مِنَ الغُيومِ لِترسوا عَلى الأَرضِ خارِجاً، وعَلى الرغمِ مِنْ ذلك، كانتِ خُيوطٌ رَقيقةٌ مِنْ أَشعَّةِ الشمسِ تتسللُ مِنْ بَينِ تلكَ السُحُبِ البيضاءِ الناعِمة.. نَهضتُ إِذْ لَمْ أَرَ لانِس فِي الغُرفةِ إلاَّ رِسالةً بِخطِّ يدِهِ جاءَ بَين سُطورِها النَّحيلةِ أَنْ (عُدتُ بَعدَ أَنْ تأَكَّدتُ مِنْ سلامةِ جُرُوحِكَ مِنَ الخَطرِ بعدَ أَنْ كُنتَ على شَفا حُفرةٍ مِنَ الموت! هاها أَمزحُ مَعك، أَتمنى أَنَّكَ بِخيرٍ الآن.. كُنتُ أَودُّ البقاءَ أَكثر للإِطمئنانِ عليَكَ لَولا أَنَّ دوريةَ الشُرطةِ إِتصلتْ بِي فِي حالةٍ مُستعجَلة.. إِتَّصل بي إِنِ احتجتَ لِأيِّ شيء.. لانس)، ابتسمتُ فخَرجتُ إِلى الحَديقةِ الثَّلجِيَّةِ وهَممتُ بِسُرعةٍ إِلى زَهرَتِيَ السَّوداء..
//
..
حِينَ وَصلتُ إِليها أَبصرتُ خَمسَ بَتلاتٍ عَلى الأَرضِ ساقِطةً تَكادُ تكونُ مُهشَّمةً ذابِلَةً مَيِّتَة، إِلتقَطتُ البَتلاتِ وأَسَرتُها داخِلَ جَيبِ سُترَتِي السَّوداء ثُمَّ جَلستُ عَلى حافَّةِ النَّافُورةِ المُغطَّاةِ بالثلوجِ البَيضاء أَنظُرُ إِلى السَّماء.. بعد فترةٍ تأمّلتُ ساعَتِي فكانَتْ تُشِيرُ إِلى الثَّامِنةِ والنِّصفِ صَباحاً.. نهَضتُ وَ هَممتُ بالدُّخولِ إِلى المنزِلِ لأُعِدَّ لِنفسِي إِفطاراً خَفِيفاً لَولا مُواءُ تِلكَ القِطَّةِ البَيضاءِ وهِيَ تَدورُ حَولَ قَدَمَيَّ، جَثيتُ عَلى رُكبتِي وأَمسكتُ بالهِرَّةِ وبقيتُ أَنظُرُ ناحيةَ عَينَيها الصَّفراوَتَينِ الجَمِيلتَين..
//
..
كَانَتْ ساكِنةً هادِئةً إِذْ كنتُ أُمسِّدُ فَرائها الناصِعَ ذاك بِيَدَي.. ظَريفة.. حينَ أَمعَنتُ النَّظَرَ فِيها رأَيتُ طَوقاً زَهرِيَّاً يُطوِّقُ عُنُقِها، فقُلتُ لَها بِهُدوءٍ والشَّفقةُ بَينَ صدى صَوتِيَ البارِد المَريض: "هَل أَضعتِ مالكَتكِ يا صَغِيرتِي؟"، بَقيتِ الهِرَّةُ تَمُوءُ فأَحسستُ بِأَنَّها جائِعةٌ وتَقشعِرُّ بَرداً مِنَ الطَّقسِ فِي الخارِجِ فَقُمتُ بِإِدخالِها إِلى القَصر..
//
..
أَحظرتُ لَها طَبقاً فِي المطبخِ وضَعتُ فِيهِ حَلِيباً وبدأَتْ تتناوَلُهُ بِسُرعَةٍ وسَعادَة، إِبتسمتُ مِنْ مَظهَرِها السَّعِيدِ وغَفَتْ بَعدَها قُربِي فذهبتُ بِها إلى غُرفَةِ المَعيشَةِ جالِساً عَلى كُرسِيِّ والِدِي أَمامَ المِدفَأَةِ الكَبِيرة.. نَظرتُ إِلى طَوقِ الهِرَّةِ وشاهَدتُ عَلامَةَ الملكِيَّةِ عَليها، لَمْ أَنتبِه عَليها فِي البِدايَةِ وَلكِن حِينَ قَرأْتُ الملكِيَّة.. صُدِمت، ماليسا؟! أَهذِهِ هِرَّتُها حَقَّاً؟ لاعَجَبَ فِي كَونِها جَميلَةً هَكذا ومُزيَّنةً بِهذِهِ الطَّرِيقَةِ الأُنثويَّة، حِينَ إِستيقَظتِ الهِرَّةُ مِنْ نَومِها قُلتُ لَها وَأَنا أُمَسِّدُ عَلى ظَهرِها :"سَأُعِيدُكِ إِلى مالكَتِكِ ياهِرَّتِي الصَّغِيرة"..