وكما توقعت، كانت أختي الكبرى "عفيفة"؛ هي أول الواصلين، فهي العقل المدبر لهذه المفاجأة منذ البداية، رغم أن أخي الأكبر "أكرم" والذي يصغرها بسنة واحدة فقط؛ يقول بأن الفكرة نفسها خطرت بباله، قبل أن تقولها هي!! بغض النظر عن صاحب الفكرة، فإنني حقاً سعيد بفكرة اجتماعنا نحن الأخوة العشرة فقط، مع أمي وأبي، فهذه الفرصة لم أحظى بها من قبل، بل إن هذا الحدثٌ لم أشهده طوال حياتي!
بالطبع وحتى لا يُحدث وصول أخوتي أي جلبة، فقد تم الاتفاق على أن يقوموا بتنبيهي لوصولهم؛ على هاتفي الخاصي، لأقوم بفتح الباب لهم بهدوء؛ بدل قرع الأجراس! ورغم أن غرفة نوم والداي تقع في الطابق العلوي، وقد قمنا باختيار الصالة الكبيرة في الطابق الأول لتكون مركز الحدث؛ إلا أن أختي "عفيفة" كانت على قدرٍ كبير من الحذر والهدوء، وهي تطلب مني مساعدتها في نقل الطاولة، لنضعها في منتصف الصالة!! شعرتُ بامتعاضٍ من طلبها ذاك، فالطاولة ثقيلة جداً، ولا أجد ضرورة لذلك، ولكنني أعرف أن أي اعتراض على قراراتهǺ شبه مرفوض، فقلت لها:
- ما رأيك لو ننتظر البقية، فهي ثقيلة، وإذا لم نمسكها جيداً قد تُحدث جلبة!
وقبل أن تُجبني بشيء، وصلتني الاشارة المتفق عليها من "كريم"، فأسرعت لفتح الباب، وكان قد أحضر معه أخي "سليم"؛ بعد أن استقبله في المطار، والذي جاء خصيصاً من أجل هذا الحدث الهام، فهرعتُ نحوه أسلم عليه بشوق، إذ أنه منذ انتقل للعمل في دولة أخرى، ونحن لا نراه إلا مرة واحدة كل عام، وأعتقد أن مجيئه اليوم؛ سيكون مفاجأة لوالدي بحد ذاتها! وبالطبع لم يكن هناك وقتٌ للكلام الكثير، فأوامر "عفيفة" تقتضي الإسراع بالترتيبات اللازمة! ومن دون نقاش؛ وجدتُ نفسي مع "سليم" و"كريم" ننقل الطاولة إلى حيث أشارت! وبينما قامت هي بترتيب الأطباق، التي أحضرتها معها على الطاولة؛ طلبت مني الاتصال بـ "كريمة" لتطمئن بأن الأصناف التي تكفلت بإعدادها جاهزة، ولم أكد أسمع صوتُ "كريمة" على الطرف الآخر، حتى فوجئتُ بها تقول لي:
- من الجيد أنك اتصلتَ الآن، افتح الباب بسرعة لو سمحت، وتعال ساعدني في حمل الأغراض..
لقد فاجأني ذلك حقاً، فقد كنتُ أتوقع أن تكون آخر الواصلين! فرغم أنها توأم "كريم"، إلا أنها كانت مختلفة عنه بشكل كبير! صحيح أنهما متفاهمان تماماً، لكنهما مختلفان! فـ "كريم" دقيق جداً في مواعيده، وهو أكثر من نعتمد عليه من هذه الناحية، أما "كريمة" فعكسه تماماً، فهي إن قالت بأنها تتوقع أن تكون عندك في الساعة السابعة مثلاً، فإنك تتوقع أن تكون عندك في أي ساعة، إلا السابعة!! ولا ريب أن "عفيفة" كانت قلقة من هذه الناحية، ولكن "كريمة" ولأول مرة.. أتت في الموعد الذي حددته تماماً!!
وبينما كنتُ أحمل الأكياس المتبقية، التي أحضرتها "كريمة" معها، إلى الداخل، وصَلَت "أمامة"، فسلمتُ على زوجها الذي أوصلها بسيارته، وقد بدا مستعجلاً للعودة إلى فراشه قبل موعد الصلاة، فيوم الجمعة بالنسبة له، هو يوم راحته الوحيد، ولا شك أن وجود "أمامة" معنا اليوم، سيعطيه راحة إضافية، إذ لن تطلب منه الخروج في نزهة عائلية، أو ما شابه!!
وفي غضون أقل من ساعة؛ جاءت "آسيا" بصحبة "أكرم"، فمنزلها قريبٌ من منزله، ثم جاءت "مريم"، وأخيراً حضر "رؤوف"؛ وأحضر معه الفواكه المتفق عليها، فشرعت "أمامة" بتقطيعها مع "كريمة" بسرعة، لإعداد سلطة الفواكه الطازجة، بخلطة "كريمة" الشهيرة!
أما "مريم" فقد انشغلت مع "أكرم" و"كريم" في تركيب الزينة، وتنسيق الزهور، فيما انضمت "آسيا" لـ "سليم" و"رؤوف"، أثناء إعدادهما لجهاز العرض..
وكانت "عفيفة" بالطبع؛ هي المديرة، والمشرفة العامة على ترتيب المكان!
ولأن كل واحدٍ منا يعرف دوره بدقة- إذ كنا قد اتفقنا على كافة التفاصيل، في المجموعة الخاصة التي أنشأتها "آسيا"، عبر أحد تطبيقات التواصل الاجتماعي- فقد أصبح كل شيء جاهزاً بسرعة، وحان دوري لدعوة والداي..
استأذنتُ عليهما، وطرقتُ الباب بهدوء، قبل أن تفتحه لي أمي بابتسامة مرحة:
- الحمد لله على السلامة! هل انتهيتَ من إعداد فطورك الملكي؟؟
فضحكتُ قائلاً:
- أجل يا سعادة الملكة..
ثم وجّهتُ كلامي لأبي، الذي ارتسمت على وجهه ابتسامة مشرقة:
- يشرفني دعوة جلالتكم، لحضور حفلنا المتواضع، فشعبكم بانتظاركم..
عندها شعرتُ بانفعال أمي، وهي تسألني بلهفة:
- هل حضر أخوتك أيضاً؟
وهمّت بالجري نحو الطابق الأرضي، لكنني استوقفتها قائلاً:
- على مهلك يا أمي، فعلى الملك أن يصطحب الملكة، في مشية ملكية!
وكان أبي سريع التجاوب معي كالعادة، فأخذ دوره بدقة، ووقف أمام أمي- على طريقة فرسان العصور الوسطى- قبل أن يتأبط ذراعها، ويسير معها نحو الدرج بقامته الممشوقة، حيث سرتُ أمامهما، وأنا حريصٌ على أن أكون أمام أمي تحديداً؛ خاصة عند نزولنا الدرجات، خشية أن تنفعل لرؤية "سليم"؛ فتزل قدمها، لا قدر الله! وقد حدثَ ما توقعته بالفعل، فلم تكد تقع عينا أمي، على إخوتي- الذين تحلقوا حول آخر درجة في الأسفل- حتى هتفت باسم "سليم" بانفعالٍ شديد، وكادت أن تقفز نحوه قفزاً؛ غير أن أبي كان الأسرع في إعادتها لاتزانها، بعد أن ضمها إليه بقوة، قبل أن تنزلق قدمها على الدرجات! فعَلَت أصوات إخوتي بالهتاف والتصفيق لهما، وكأننا أمام مشهدٍ؛ في فلمٍ عاطفي جميل!
وبعد أن تعانق أخوتي مع والداي، وقد كان نصيب "سليم" هو النصيب الأكبر في ذلك العناق بالطبع، أخذت أمي تسأل واحداً واحداً منهم بلهفة:
- أين أولادكم، وكيف حال أزواجكم؟ وزوجاتكم؟ ألم يحضروا معكم؟ "كريمة".. هل حضرتِ وحدك أيضاً؟ أين أولادك؟ وكيف تركتِ "سمية"؟
بالطبع كان من الغريب أن تحضر "كريمة" وحدها، فهي من النادر أن تترك أولادها، بل لم تكن تتركهم أبداً، فهي الوحيدة بين أخواتي؛ التي آثرت أن تكون ربة بيتٍ فقط، كما أن ابنتها "سمية" لم تتجاوز العامين بعد، لكنها طمأنت أمي بأن ابنتها الكبرى- ذات الأربعة عشر ربيعاً- تكفلت بالعناية بها، وطمأنهَا الجميع على أحوالهم أيضاً، وأخبرناها برغبتنا في أن تكون هذه حفلة خاصة جداً..
سرنا- بعد ذلك- نحو الصالة، خلفَ والداي، وكأننا في موكبٍ مهيب، ثم قدّم "أكرم" لهما الوسادة الصغيرة ،التي وضعنا فوقها المقص، لقص الشريط على باب الصالة، كما يفعل الرؤساء عند افتتاح الأماكن الهامة، وقالت أختي "عفيفة" باسم الجميع:
- من هذه الصالة نهديكم مفاجأتنا، تعبيراً عن شكرنا وامتناننا لكل ما بذلتوه من أجلنا، لتكون انطلاقتكم الحقيقية إلى العالم، بإذن الله..
ولم يكونا يتوقعان، أنها عنَت المعنى الحرفي لتلك الجملة..
وكما توقعنا، أمسك أبي بالمقص، وناوله لأمي، ثم وضع يده على يدهǺ ليقصّان الشريط معاً، وهتفنا لهما بحماسة وسعادة، ونحن نسأل الله لهما طول العمر وحسن العمل، مع دوام الصحة والعافية..
ثم تولت "عفيفة" إدارة الحفل، فدعت الجميع إلى طاولة الطعام؛ والتي زخرت بما لذ وطاب، من مأكولات خفيفة، ومعجنات وحلويات، وفاكهة وعصائر، وأخذ كل واحدٍ منا مقعده على جانبي الطاولة المستطيلة، الذكور في طرف، والاناث في الطرف المقابل، فيما جلس أبي قبالة أمي، كل واحدٍ منهما على رأس المائدة.. وبعد أن بدأ أبي بدعاء الطعام، وردده الجميع معه، استمتعنا بألذ وجبة إفطارٍ، حلمتُ بها في حياتي.. كان إفطاراً ملكياً بمعنى الكلمة!!
وبعد أن حمدنا الله على ما رزقنǺ وجمعنا الطعام الزائد في صحون نظيفة، لحفظها في الثلاجة- إذ لم يكن من عادتنا رمي الطعام أبداً، ولا حتى كسرة خبزٍ منه- انتقلنا إلى المقاعد المدعمة بالوسائد المريحة، حيث جلس أبي إلى جانب أمي، كما يجلس العروسان على عرشهما ليلة الزفاف، فيما جلسنا نحن حولهما، أمام شاشة العرض الكبيرة، التي تولى "سليم" و"رؤوف" تركيبها.. ولم يكن أمام "آسيا"؛ سوى الضغط على زر التشغيل، ليبدأ عرض الفلم- الذي قامت بإعداده، بمساعدة البقية- بعد أن أغلقتُ الستائر المخملية، وكأننا في قاعة عرض حقيقية..
بدأ الفلم بـالعبارة الشهيرة: "حدث في مثل هذا اليوم"
إنها الذكرى الخمسون لزواج والديّ! نصف قرن من الحب والعطاء..
وهاهو أبي يحيط بذراعه اليمنى؛ كتفا أمي- التي جلست عن يمينه- فيما رَمَت هي برأسها على كتفه، أثناء مشاهدتهما للعرض..
لا أعرف كيف أصف مشاعري، كلما رأيتُ والداي معاً، فهما مثالٌ للحب الصادق، الذي يحلم به كل انسان، ولطالما تساءلتُ عن سر هذا الحب الكبير؛ الذي لا ينضب معينه بينهما! فرغم كل هذه السنين؛ إلا أن علاقتهما تبدو شابة فتية، تتوقد باستمرار اهتماماً ولهفة، وكأنهما لا يزالا في شهر العسل! هذا إلى أنهما يتقاسمان الكثير من الاهتمامات، رغم أن أبي أكد لي مراراً وتكراراً؛ أنه لم يكن يعرف أمي قبل الزواج أبداً، والشيء نفسه قالته أمي!! ربما يبدو الأمر غريباً، ولكن هذه هي الحقيقة!! وقد عزيتُ الأمر بداية، إلى أن الحب جاء بعد طول عِشرة، لكن "عفيفة" و"أكرم"، وهما أكبر إخوتي، يقولان بأنه ورغم مرور بعض الأوقات العصيبة، التي تمر بها البيوت عادة؛ إلا أن الحب بين والداي؛ كان سرعان ما يتغلب في النهاية؛ على أعتى مشكلة قد تنشأ بينهما!
وإنني أتساءل.. هل يمكن أن التقي بفتاة؛ تشاركني حياتي بحبٍ واهتمام، مثل أمي وأبي!! ربما آن لي التفكير جدياً في هذا الأمر، فسأنتقل الأسبوع القادم للعمل في المستشفى، من أجل سَنَة الامتياز الطبي، حيث سأتقاضى راتباً لأول مرة..
كان والداي يتابعان الفلم بتأثر واضح، فقد أبدعت "آسيا" في إخراجه، أيّما إبداع، فبعد أن عرضت صوراً متنوعة لحياة والداي خلال مسيرة حياتهما، انتقلت للإنجازات التي حققاها خلال تلك السنوات، وبدأت بأختي الكبرى "عفيفة"، ذات التسعة وأربعين عاماً، والحاصلة على شهادة في علم الأحياء، إضافة لأبحاثها واهتمامها بعلم النفس والطبيعة البشرية، فقد كانت مديرة لأكبر مدرسة للبنات في البلاد، لأكثر من عشرين عاماً، عملَت خلالها على تحويلها لنموذجي مثالي، للبيئة التربوية الصالحة، حتى اشتهرت بنظامها، وحسن سلوك طالباتها، فزاد إقبال الناس عليها، يسعون لالحاق بناتهم بها، إلى أن توسعت مبانيها، ووصلت إلى ما وصلت عليه، ورغم أن "عفيفة" تقاعدت هذه السنة، إلا أنها لم تترك أبحاثها العلمية، وأكاد أجزم أنها تعد بيتها خلية تجاربها الأولى، فلم تكن المدرسة؛ سوى صورة مكبرة عنه، وربما كان هذا هو سر نجاحها! وقد تم تكريمها في حفل تقاعدها الذي حضره كبار الوزراء في البلاد، إذ تم تعيينها كمستشارة بعد ذلك، في وزارة التربية، وقسم تطوير المناهج..
ثم انتقل الفلم إلى "أكرم"، والذي حذا حذو والدي في تعلم اللغات والترجمة، إضافة لاهتمامه بمجال إدارة الأعمال والمحاسبة، فكان يحضر دروساً ودورات مكثفة فيهما، ولم يكن ليكتفي بالعمل الوظيفي بعد ذلك، إذ اقترح تأسيس مركزٍ خاص؛ يجمع بين أعمال الترجمة والبرمجة، على مواصفات قياسية عالمية، فلاقى اقتراحه ترحيباً من أمي، التي وجدتها فرصة لاستثمار جهودها، ودعماً من أبي، الذي فضّل متابعة عمله في وظيفته، مع مساهمته في رأس المال والتأسيس، على أن يستلم "أكرم" الإدارة، وكانت تلك هي بداية انطلاق مركز "مودة للترجمة والبرمجة"، والذي توسعت أعماله، فجلب له أخي باستشارة والدي؛ أشد الموظفين كفاءة واتقاناً، وقد تم تصنيفه عالمياً؛ ضمن أفضل عشرة مراكز تخصصية، على مستوى العالم، بعد أقل من عشرة أعوامٍ على تأسيسه! وقد كان "أكرم" حريصاً جداً؛ فيما يتعلق بالأمور المالية، حتى لا تختلط الأمور، وتضيع الحقوق، أو يتسبب ذلك في أية خلافات..
ثم جاء دور "سليم"، والذي أكمل قبل عدة أيام؛ خمسة وأربعين عاماً من عمره، وهو عبقري العائلة إن صح التعبير، فبعد أن حصل على شهادةٍ عليا في هندسة الاتصالات؛ شرع في دراسة هندسة الالكترونيات، وقد حصل على براءة اختراع، لاختراعه جهازاً ذكياً صغير الحجم، يشبه مكبر الصوت تقريباً، يتم توصيله بجهاز الحاسب، وعند التحدث من خلاله، يقوم بتحويل الموجات الصوتية، إلى كلمات مكتوبة، على الشاشة، وِفق برمجية خاصة، ساهمت "آسيا" في إعدادها، وقد كان هدف هذا الجهاز الذي أسماه "جهاز البِر"، هو تقديمه هدية لأمي، التي تعشق البرمجة، غير أن ضعف نظرها، مع تقدم سنها، حال بينها وبين ذلك، مما جعل أخي سليم يفكر بهذه الهدية! وكم كانت سعادتها بها كبيرة، فما عليها سوى التحدث بالأوامر، باللغة التي تريدها، والتي تحفظها عن ظهر قلب، وهي مغمضة العينين، وستتم كتابة البرنامج تلقائياً على الحاسب!!
وقد استخدمته أمي فعلاً في إعداد عدد من البرامج، كان منها برنامجاً لمحو الأمية، يتم تحميله على أجهزة خاصة، متصلة بجهاز "البِر" الذي ابتكره أخي، حيث يقوم الشخص بنطق أي كلمة، فيقوم البرنامج بتوضيح طريقة كتابتها حرفاً حرفاً، ثم يقوم بتفريق الحروف وإعادة تركيبها، مرة تلوَ الأخرى، حتى ترسخ في الذهن، كما يمكن للمستخدم أن يقوم بتصوير أي جملة يراها، باستخدام الجهاز نفسه، فيقوم البرنامج، بقراءة هذه الجملة- بعد معالجة الصورة- بصوتٍ واضح، ثم يعيد تهجئة أحرفها حرفاً حرفاً، ثم يعيد كتابتها مرة أخرى، بتفريق وجمع الأحرف..
كان هدف أمي من هذا البرنامج، هو توفير الفرصة، للكبار الذين يعانون من الأمية، ولا يستطيعون الذهاب لمراكز محوها! وقد نَوَت بعملها ذاك أن يكون صدقة جارية، عن روح والديها، الذين طالما قالت أنهما كانا يتألمان لحال الأمة، وما ينتشر فيها من جهل، فرفضت بيع حقوق البرنامج، خشية أن لا يتمكن المحتاجون من استخدامه، وعرضته للاستخدام المجاني لكل من يحتاجه..
وقد قام "سليم" بتطوير جهازه بعد ذلك، فجعله لا سلكياً، وقد قامت كبرى الجامعات العالمية بشرائه، لا سيما وأنه يتيح لأساتذة البرمجة، فرصة تقديم دروسهم، وهم يسيرون بين طلبتهم، فيما تُكتب الأوامر على شاشة العرض، بوضوحٍ أمام الجميع..
وقد أصرّ على توزيع الربح المالي؛ مناصفة بينه وبين "آسيا"، رغم أنها قالت بأنها لم تفعل شيئا يُذكر!!
ثم انتقل الفلم إلى صورة "أمامة"، وهي تصغر "سليم" بعامين، وهي الآن؛ أستاذة جامعية، ورئيسة قسم التاريخ في واحدة من أكبر جامعات البلاد، وقد تم اعتماد أطروحتها لنيل شهادة الدكتوراة- "التاريخ من أجل المستقبل"- من قِبَل وزارة التعليم العالي، لتُصبح مَسَاقاً يُدرّس لطلبة قسم التاريخ، في جامعات بلادنا، وقد حذت حذوهم عدة جامعات في دولٍ أخرى، كما حصدت عدداً من الجوائز على أوراقها البحثية في هذا المجال، لا سيما وأنها استخدمت في أطروحاتها بعض الأمثلة العلمية، مثل تطور البرمجيات عبر السنين، وقد أرفقت لذلك صورة للبطاقة المثقّبة، التي كانت تُستخدم في البرمجة، كتبت تحتها، عبارة سمعتها من أمي:
"من يعرف البدايات؛ يسيطر على النهايات"
بعدها جاء دور "كريم"، الذي أكمل الأربعين عاماً من عمره، بموهبته الفذة في الهندسة المعمارية والتصميم، حيث عرض الفلم صوراً للمنشآت المعمارية التي أنجزها، فقد حصل على معظم المراكز الأولى، التي كانت تُطرح في الساحة المعمارية، ومعظم الأبنية الوزارية، والمنشآت الهامة في البلاد، من تصميمه!! وقد قام بتصميم أكبر جامعٍ في البلاد، وُصف أنه الأجمل، والأكثر راحة بين المساجد، من حيث الاضاءة والتهوية الطبيعية، وقد رفض أخي أن يتقاضى أجراً على ذلك، بل ولم يكن يتوانى عن تقديم أي تصميم مجاني، يلائم الموقع المختار، فيما يختص ببناء المساجد، كلما سنحت له الفرصة بذلك..
ثم عرض الفلم صُوَر توأمه "كريمة"، والتي فضّلت البقاء في المنزل، رغم أن بإمكانها فتح عيادة خاصة تدرّ عليها ثروة كبيرة، بصفتها أخصائية تغذية، لكنها كما تقول، بالكاد يمكنها الاهتمام ببيتها، وشؤون أسرتها وأولادها، و"رحم الله امرءاعرف قدر نفسه"، ومع ذلك، فقد اشتهرت بوصفاتها اللذيذة والمفيدة، إذ كانت طاهية ماهرة، تعرف كيف تجعل من الأغذية المفيدة؛ أطباقاً شهية يسيل لها اللعاب، وقد شجعها والدي على جمع وَصفاتِها في كتاب، يفيد الجميع، فإذا به يحقق أرباحاً خيالية؛ لم تكن تتصورها!!
ثم انتقلت الصورة إلى "رؤوف"، الذي يصغر التوأم بثلاث سنوات، وهو مهندس طيران بارع، وقد تمّت ترقيته مؤخراً ليستلم مهام مسؤول كبير، في أفضل شركات الطيران المحلية، وبسبب طبيعة عمله، كنا نحصل على أسعار مخفضة للتذاكر، فإتقان أخي لعمله، وبراعته في إتمام مهامه، منحته الكثير من الامتيازات..
وبدأ العرض يصل إلى نهايته، فسلط الضوء على "آسيا"، التي تصغر رؤوف بسنتين، وهي التي ساعدت "سليم" في "جهاز البر"، من خلال إعدادها لبرنامج خاص، إذ سلكتْ طريق أمي في البرمجة، وكثيراً ما كانتا تقضيان الوقت معاً، وهما يتحدثان في مجالهما المشترك، فقد كانت "آسيا" ساعد أمي الأيمن في مشاريعها، وهي الآن المسؤولة عن توزيع المهام، في قسم البرمجة، في "مركز مَوَدّة للترجمة والبرمجة"، الذي ساهم أبي في تأسيسه، بناء على اقتراح "أكرم"..
ثم ظهرت "مريم"، أختي الأقرب إليّ- والتي تكبرني بسبع سنوات فقط- فهي أكثر من شاركني حياتي الخاصة، وأظنها أكثر من شجعني على التفوق في الدراسة، إذ كانت مجدة لأقصى حد، وقد حصَلَتْ على المركز الأول، على مستوى البلاد، في امتحانات الثانوية العامة، وكانت الفرحة التي غمرتنا جميعاً وقتها، دافعاً لي لمجاراتها، وقد سارت على الدرب نفسه في الاجتهاد، بعد اختيارها لتخصص طب الأسنان، فمن النادر أن يضيع وقتها دون فائدة، حتى عندما تزاول هوايتها في الرسم، تحرص على أن يرافق ذلك فكرة نافعة! وقبل سنتين شاركت في معرضٍ عالمي للرسم، بناء على اقتراح أمي، وحصلت فيه على جائزة مالية معتبرة، هذا عِوضاً عن كونها أصغر طبيبة أسنان، تمتلك عيادة خاصة بها، مكتظة بالناس!!
ورغم أن الحادثة الأخيرة، جعلت والداي يقلقان بشأن عودتها للعيادة؛ مما جعلها تأخذ إجازة قصيرة حتى تهدأ الأمور، فلم تقبل بحالات جديدة في تلك الفترة؛ إلا أنها حرصت على اتمام ما بدأته للمرضى، وقد شجعها والداي على ذلك..
وبالتفكير في هذا الأمر، لا زلتُ أتساءل.. ما الذي حدث معها بالضبط؟؟ لقد أعدنا مُشاهدة الصُوَر المعروضة في آلات المراقبة، أكثر من مرة، لعلنا نفهم ما الذي جعل أولئك الرجال يفرون هاربين، دون أن يمس أحدهم أختي بسوء!! لا أدري صدقاً.. ولكنني أعتقد بأن انعكاس القمر في تلك الليلة، كوّن ظلالاً مخيفة؛ أفزعتهم!! قد يبدو تفسيراً سخيفاً، لكن هذا ما خطر ببالي!!!

(يتبع)