(6)
"عفـــــــــــــــاف"
أعرف أن الدنيا صغيرة، ولكن.. لا أدري أي مشاعرٍ اعترتني؛ عندما لمحتُ اسمها على الحقيبة! لا شك في ذلك.. إنها ابنته!!
كنتُ أجلس في قسم النساء، أمام الكعبة المشرفة، بعد صلاة الظهر، بانتظار "نبيل"؛ لنذهب معاً للغداء، في مطعم الفندق.. لكن صوت بكائها المرير، لفتني بشدة؛ فقد كانت تجلس وحيدة، وهي لا تزال شابة، قدّرتُ أنها في عُمُر "مريم" أو "آسيا"!
شعرتُ أنها إحدى بناتي، فاقتربتُ منها، لعل باستطاعتي التخفيف عنها! ولكن.. عندما وَقَعَتْ عيناي على بطاقة الحملة، الملصقة على حقيبتها، وقد انطبع عليها اسمها بوضوح، "سميرة باهر سمير"؛ عادت بي ذاكرتي، خمسين عاماً إلى الوراء!! فشعرتُ بنداء الواجب، كما لم أشعر به من قبل! فهي ابنة أستاذي، الذي أفادني بعلمه؛ قبل أي شيء!!
وكأن الفتاة اطمأنت لي أخيراً، أو أنها كانت بحاجة لإزاحة الهم الجاثم على صدرها، فانطلقت تحدثني بحرقة:
- لقد ضاع عمري من أجله..
أدركتُ أنها تمر بمعاناة عاطفية مريرة؛ فرَقّ قلبي لها بشدة، وضممتها إلى صدري، بكل ما أملكه من حنان ورحمة:
- لا تقولي هذا يا ابنتي، فقد قطعتِ مسافاتٍ شاسعة لتصلي إلى هنا، وها أنت في بيت الله، فاطلبي منه ما شئتِ، وثقي بأن الكريم لا يرد سائلاً أبداً..
فقالت، وهي تلتقط أنفاسها المتقطعة:
- لشد ما يؤلمني أنني أغضبتُ والداي من أجله! كانا يريدان مني الارتباط بشابٍ تقدم لخطبتي، ولم يكن يعيبه شيء برأيهما، وقد كان مناسباً فعلاً، لكن لم يكونا ليرغماني على شيء لا أريده، إذ كان قلبي معلقاً بذلك الشاب، الذي أحببته منذ سبع سنين، وقد وعدني بالتقدم لخطبتي فور حصوله على عمل مناسب، ليتمكن من مفاتحة والديه بأمر الزواج، وتحمل المسؤولية! وبعد كل تلك السنوات، أرسل لي باعتذارٍ مهين، متذرّعاً بأن والدته مصرّة على خطبة ابنة أختها له!! وقد عرفتُ أنه تزوجها فعلاً، فيما ذَبُل ربيع عمري في انتظاره!! لقد وثقتُ به.. لكنه خذلني!!!
وأجهشَتْ باكية، فربتُّ على كتفها، والدموع تغرق وجهي ألماً لحالها، لكنني قلتُ لها مهدّئة:
- لقد أخطأ في وعده لك منذ البداية، إذ كان وعداً لم يستشِر فيه والديه، ولا يملك الوفاء به! وقد أخطأتِ بتعلقك بوعدٍ كهذا، دون استشارة والديك، وأخذ رأيهما به، وهما الأكثر خبرة ودراية! ولكن لا تقلقي؛ فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له، فثقي بالله وحده، وسيعوضك خيراً منه بالتأكيد..
لكنها قالت- بنبرة كسيرة:
- لا أعرف ماذا أقول لك يا خالة، فرغم كل ما فعله، إلا أنني لستُ قادرة على الحب من بعده، فقد كان حبي الوحيد، ولا أتخيل كيف بإمكاني متابعة حياتي بعد ذلك.. لشد ما ينتابني القلق من رؤيته مع زوجته، في أي مكان؛ فأفقد أعصابي وأنهار!! لقد بات هذا هاجسٌ يؤرقني بشدة!
عندها قلتُ لها، وآلاف الذكريات تموج في مخيلتي:
- اسمعيني جيداً يا ابنتي، فإنني أعرف شعورك جيداً، أكثر مما تتصوري، فالحياة مدرسة وتجارب، نتعلم منها الكثير..
والتقطتُ نفساً، قبل أن أقول بتأثر واضح:
- أعرف فتاة كانت تحب شاباً، ملك عليها قلبها وأشغل فِكرها، حتى ظنت أنها لن تحب أحداً كحبها له، ولكنه لم يكن من نصيبها، وقد تألمت لذلك بالطبع في البداية، ولكنها وضعت كامل ثقتها بالله، ورضيت بقضائه واختياره، فأبدلها خيراً منه، بل إنها قضت معه أجمل سنين حياتها، ورغم تقدمهما في السن؛ إلا أن قلبها لا يزال شاباً بحبه؛ فقد كان فارس أحلامها الحقيقي..
ويبدو أنني انسجمتُ في الجو تماماً، إذ لم أكد أُكمل عبارتي، حتى رأيتُ "نبيل" مُقبلاً من بعيد، فخفق قلبي بشدة، وكأنني لا أزال شابة في العشرين! وعندما رأيته يتلفّت بحثاً عني، في المكان المتفق عليه، أشرتُ له هاتفة:
- "نبيل"، أنا هنا.. لحظة من فضلك، سآتي حالاً..
وقبل أن أقول للفتاة شيئا؛ وجدتُها تبتسم في وجهي، قائلة:
- هل كانت تلك هي قصتك يا خالة؟
فغمزتها باسمة، وقد أسعدني إشراقها:
- وربما تكون قصتك أنتِ أيضا يا "سميرة"، فثقي بالله، ولن يضيعك الله، وسأذكرك في دعائي، إن شاء الله.. (ولسوف يعطيك ربك فترضى)..
*************
(7)
"نبيــــــــــــــــــــل"
كلما نظرتُ إلى القمر؛ أرى حكمتك، ولطف تدبيرك، في كل ما قدرته لنا يارب! وأدرك كم كنتَ ولم تزل بي رحيماً حفيا.. سبحانك ما أعظمك، خالق القلوب ومقلّبها!! عندما أحببتُ أول مرة؛ ظننتُ أن ذلك هو منتهى الحب، الذي لا حب بعده، ثم ربطتَ على قلبي، حتى أدركتُ حكمتك التي خفِيت عني، ورأيتُ بعين قلبي؛ جمال ما خبّأته لي، دون أن أدري!! كان اختباراً؛ فأكرمتني باجتيازه، وشملتني بلطفك ورحمتك، فلا أدري كيف تحول حبي الكبير لـ "نائلة"؛ إلى شفقة عليها!! فدعوتُ لها كما يدعو الأخ المشفق لأخته، وكلمات أمي، لا زال صداها يتردد في أذني: "لو كان فيها خيرٌ لك، لما أبعدها الله عنك!"، وكم تأثرتُ عندما علمتُ أنها حققت حلمها، وسمعتُ عن حسن خاتمتها، وأن الذي كان سبباً في انقاذ ابني هو ابنها!! فارحمها وبارك في ذريتها، وجازِها خيراً يا شكور، وهب لي من زوجتي وذريتي قرة أعين، واجعلنا للمتقين إماما..
كنتُ أجلس مع محدثي الشاب، فوق سطح الفندق، في إحدى ضواحي جنوب بريطانيا الهادئة، بعد أن طلب مني محادثة على انفراد! فاستأذنتُ زوجتي، التي ذهبت للنوم، وأظنها مشغولة الآن بالتواصل مع الأولاد، والحديث معهم، فهذا هو دأبها!! ويبدو أنني سرحتُ بفكري، وأنا أتأمل القمر، إذ كنا نجلس تحت ضوئه، في تلك الليلة الهادئة؛ فأعاد الشاب سؤاله:
- كيفَ كنتَ ستتصرف لو كنت مكاني يا عم؟
كان شاباً عربياً، مبتعثاً للدراسة في هذه البلاد، وقد وقع في حب فتاة أجنبية، لكن عندما أخبر أهله عنها، وصارحهم برغبته بالزواج منها، ثارت ثائرتهم، حتى أن أمه أصرّت عليه؛ ليعود في أسرع وقت إليهم، لعله ينساها، وإن كان ذلك على حساب دراسته!! ولم يكن بالذي يضرب برضا والديه عرض الحائط بسهولة، فجاء يطلب الاستشارة! بعد أن كاد يستسلم لقلبه الولهان بالعشق، وقد توسّم بي الخير على ما يبدو!
فقلتُ له:
- أي بني.. من ترك شيئاً لله، عوضه الله خيراً منه، وارضاؤك لأمك هو امتثالٌ لأمر ربك، وكن على ثقة بأن الذي أمرك ببرها؛ هو الذي جعلها تطلب منك ذلك الطلب، أفليس في ذلك إشارة واضحة لك؟؟ وإياك أن تعِدَ الفتاة بشيء فتظلمها، راجع حساباتك، واستغفر لذنبك، ولا بأس بمعاودة الحديث مع أمك بهدوء وأدب، دون أن تضغط عليها، أو تحمّلها ما لا تطيق، فلو كان في تلك الفتاة خير لك، سيشرح الله صدرها لها..
قلتُ كلماتي وأنا أرجو أن تجد طريقها إلى ذهن الشاب؛ ليراجعها فكره، ويعرضها على قلبه، فهذه المعتقدات وأمثالها؛ تحتاج حواراً طويلاً مع النفس، حتى تستقر ضمن قناعاتها الداخلية! ولا شك أن الشاب كان بحاجة لتجربة حقيقية؛ تدعّم تلك الأقوال!! ولطالما تمنيتُ أن أخبر الجميع بقصتي، ولولا خشيتي من كشف سر "نائلة"، والإساءة لابنها، بزلة لسان مني؛ لما ترددتُ بنشرها! وبعد فترة صمتٍ خيّمت علينا، ما مللتُ خلالها من تأمل القمر، تكلمتُ أخيراً:
- كنتُ شاباً مثلك يا بني، وكنتُ أظن أن قلبي لن يحب سوى تلك الفتاة، التي لم يقدّرها الله لي، غير أنني اخترتُ طريقاً يُسعد أمي، فقد خشيتُ أن أُقدم على خطوة تُحزنها، وقبلتُ بالفتاة التي اختارتها لي، وقد كانت فعلاً مناسبة تماماً، فشاركتني هموم الحياة، ورزقني الله منها الأولاد، وكان لنا الكثير من الأهداف المشتركة، وإنني أحمد الله في اليوم ألف مرة، أن رزقني زوجة مثلها، فهي حبي الحقيقي، ولا أتخيل كيف كانت حياتي ستكون من دونها!!
لم أكد انتهي من كلماتي، حتى لاحظتُ التأثر الشديد على وجه الشاب، تحت ضوء القمر، وكأنه كان ينتظر هذه الفرصة؛ إذ قال بانفعال:
- اعذرني يا عم، ولكن عندما كنتُ أراك مع زوجتك، وأنتما تتناولان الطعام في المطعم، أو تتنزهان في الحديقة، وكأنكما لا تزالان في شهر العسل؛ شعرتُ بحاجةٍ للحديث معك، فرغم ما يظهر عليكما من تديّن والتزام، إلا أن الحب واضح بينكما، ما شاء الله، وقد كنتُ أظنكما قد تزوجتما؛ بعد قصة حبٍ عميقة، مما جعلني أرغب بالحديث معك، لعلك تساعدني في مشكلتي، واقناع أهلي.. لكنك فاجأتني حقيقةً؛ بقولك هذا!!!
شعرتُ بارتياحٍ عميقٍ لردة فعله، فابتسمتُ له قائلاً:
- ألم أقل لك يا بني.. من ترك شيئاً لله؛ عوضه الله خيراً منه!
هز الشاب رأسه متفهماً، وبدا متردداً قليلاً قبل أن يقول:
- لا تؤاخذي يا عم، ولكن لدي سؤال أخير يحيّرني فعلاً، فقد تفاجأتُ حقيقة عندما عرفتُ عمرك الحقيقي- وأرجو أن لا يكون في ذلك وقاحة، مني عندما سألتُ عن ذلك- فقد ظننتك أصغر بعشرين عاماً على الأقل!! فهل لذلك علاقة بما أخبرتِني به قبل قليل؟
فأومأتُ رأسي بابتسامة عريضة- إذ لم تكن هذه هي المرة الأولى، التي أسمع فيها هذا الكلام- وقد وجدتها فرصة مواتية:
- كما قلتُ لك.. عندما كنتُ شاباً وأحببت.. كبحتُ جماح نفسي وعفَفْت، فاحفظ الله يا بني يحفظك، واستعن بالله ولا تعجز..
وإذ ذاك نهض الشاب، وقد بدا متأثراً جداً بما سمعه، فقبّل رأسي- قبْلَ أن انتبه لما ينوي فعله- فنهضتُ من مكاني وعانقته، وربتّ على كتفه مشجعاً، وقد ذكّرني بـ "عفيف"، فيما انطلق لسانه يدندن بكلماتٍ، لم يزل وقعها يرن في أذني:
- تحتَ ضوءِ القمرْ..
والقمر شاهدُ..
أنني لن أَخُنْ..
لحظةً غائبُ..
**********
تمت بفضل الله
ملاحظة: قد لا تكون هذه القصة حقيقية؛ لكن أحداثها.. ليست خيالية!!
(وجعلنا بعضكم لبعضة فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا)
***
"اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دين، ويا مصرف القلوب، اصرف قلوبنا إلى طاعتك"
أسأل الله أن يحفظنا جميعا بحفظه، ويرزقنا الهدى والتقى والعفاف والغنى، ويوفقنا لما يحب ويرضى
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

رد مع اقتباس

المفضلات