فريق باكومان

سجين الأوراق



عزيزي القارئ،

عادةً ما تُرسل الرسائل للسؤال عن الأحوال، أو لدعوة لمناسبة ما سعيدة كانت أو حزينة، أو ربما لشكوى أو لمدحٍ وثناء.

لكن رسالتي هذه مجهولة السبب، مجهولة المرسِل ، كما أنني لا أعلم لمن ستصل!

ولكن أيًا كان من تصل إليه أُريدك أن تتأكد من شيء واحد، أنه حتى وإن أرعبك مضمون هذه الرسالة فهناك شيء أكثر رعباً يقبع داخلك، شيء لن تُدرك مدى رعبه سوى الآن!..

****

لا أعلم حقاً من أين أبدأ ولكنني أفضل أن أختصر عليك فترة طفولتي المملة والخالية من الإثارة، وحبي للرسم دون أي مبرر يُذكر وربما لا داعي لذكر بداية معرفتي بعالم المانجا كذلك.

دعني أبدأ فقط من تلك اللحظة التي وقفت فيها أمام محل الخرداوات مأخوذة اللب جاحظة العينين، أراهم يتحركون أمامي ولا أعلم كيف! أُقلب بصري فيمن حولي متسائلة إن كانوا يرونهم مثلي، هل يرون تلك الفتاة ذات الشعر الأحمر الناري وهي تقلب أغراض المحل وتضع ما تحبه في ثوبها ذي الألف عام؟ أو لربما يرون الأخرى ذات الشعر الكستنائي وهي تمسك شيطاناً من شياطينها الخفية لترجعه من حيث أتى؟

أو يرون هذا وذاك؟

قد تراه شيئاُ عادياً، فما الغريب في فتاتين لهما ألوان شعر غريبة وبضعة أشخاصٍ آخرين يلعبون ببعض الأشياء؟

سأجاوبك ببساطة.. إن كل ما في الأمر أنهم ليسوا بشراً.. بل إنهم رسوماتي!

*****

مر يومان على هذه الحالة، يتبعونني إلى كل مكان، و لا يراهم غيري، يمثلون الفصول التي كتبتها ببراعة، وكأن الأحداث التي ألفتها تُعرض أمامي، شردت أتابع أفلامي في الحديقة خلف منزلي إلى أن قاطعني بصوت ضحكته الهيستيرية..

نظرتُ إليه وهو يتابع مسرحياتي البائسة، فلطالما أحببت النهايات المأساوية، ومع ذلك فقد كان يضحك بجنون.

قاطعت ضحكاته نظراتي المتعجبة، فأوضح قائلاً "أعتذر، ولكن من الممتع رؤية وجه رين المصدوم عندما اكتشف أن كيوكو مصاصة دماء" ثم تابع ضحكه الهستيري.

أجبته ببساطة :"هذا السبب أكثر إقناعًا في وجهة نظري لكي لا يمكنهم أن يكونوا سوية إلى الآن ".

لربما هدوء الليل وظلام الحديقة هو ما جعلني أندمج في الحديث معه دون سؤاله أي من أسئلتي الحائرة: هل تراهم مثلي؟ أو لم نحن فقط من يراهم؟ لم أنت هنا في المقام الاول في هذا الوقت المتأخر؟

أو ربما حاجتي الماسة لشخص يشاركني رؤيتهم، ويؤكد لي أني لم أُجن بعد ويُبعد عني شكوكي أني أمتلك بعضاً من القدرات الخارقة كرؤية الأشباح، وتحريك الرسوم الجامدة، ربما ذلك هو ما منعني من سؤاله.

وجدت نفسي أحادثه بسلاسه وأنفض عن عقلي كل الشكوك حوله فهو مجرد فتى في الثامنة عشرة من عمره، ذو بشرة بيضاء و شعر حالك السواد يكاد يختلط سواد شعره بظلمة الليل في الحديقة التي استحالت ليلتها قاعة سينما لا تحوى أحدًا سوانا، نشاهد فيها أحداثًا كتبتها، يزيده كل مشهد منها إعجاباً بمخيلتي ومجرى الأحداث، حتى أحببت أشباحي كأنها كل ما أملك وأكثر، من إعجابه بها و ثناؤه عليها.

انتهى لقاءنا بوعد بلقاء آخر، لنفترق مع طلوع أول شعاع شمس ليمحو ظلام ليلتنا الداكن.

تتابعت لقاءاتنا بسلاسة عرف خلالها كل شيء عني، أو بمعنى أدق، كل مالم يعرفه أحد عني، أخبرته أني أحببت الرسم كما لم يحبه احد، أحببت أقلام الرصاص والألوان واعتبرتهم كنزي الثمين، فقد اصبح الرسم لي مُتنفساً، أصف من خلاله ما أحادث به عقلي، ويحسه قلبي، فآثرت رسوماتي على من حولي، لقد كانوا لي أصدقاء مثاليين، أُحادثهم فلا يسئمون، أُناقشهم فلا يحتجون، يحبونني كما أنا دون تزييف، فهم أبنائي وأنا لهم أم.

ولحبي لهم أحببت المانجا فإن كانت رسوماتي مدادها أفكاري، فالمانجا سفيرة لآخرين مثلي شكل الرسم حياتهم، فأصبح كنزهم الثمين الذي لا يُقدر بثمن، فأحببت قصصهم ورسوماتهم، واختلقت لها نهاياتٍ مختلفة تناسب حبي لمأساة، واقتعنت أننا في فئة مختلفة من البشر، فيمكنك عزل من هم مثلي في فئة مختلفة بعقلية مميزة.

-إذاً، أهكذا ظلت أفكارك حبيسة الأوراق إلى الآن؟

-بالطبع، فلا أظن أن الآخرين سيفهمون ما أعني من ورائها.

-أتقصدين أنكِ خائفة من الرفض!

-تمتمتُ هُنيهة ثم رددت: بالطبع ستٌرفض، فلا أتوقع أن يقدر هذا الفن الكثيرون، لذا لستُ خائفة من الرفض.

لم يرد علي، فقط أحسست بنبرة حزن في كلامه وهو يحاورني عن نفسه كانت له قصة مختلفة تمامًا عني، قصة مليئة بكل أنواع الإثارة التي خلت منها حياتي، قصة وددت لو أرسمها في أوراقي لتظل حبيسة بها إلى الأبد مع رسوماتي.

*****

ركضتُ ليلتها كثيراً، ركضتُ وركضت حتى أنقطعت أنفاسي، وحتى خِلتُ أني ابتعدتُ عنهم، ولكن وجدتهم يقتربون أكثر وأكثر، ولم يكن لي مفر، فتجمدت مكاني حتى أقترب مني بجسده الأسود وعينيه ناصعتي البياض.

أغلقتُ عينَيّ وأطلقتُ صرخة مدويَّة استيقظتُ على إثرها من نومي ،كما استيقظت أمي.

أخذتُ نفساً عميقاً، كان حلماً متعِباً، مددتُ يدي أتحسس المنبّه في الظلام، ثم أطلقت صرخة أخرى أتت على إثرها أمي مهرولة، نظرتُ إليها بعينين مليئتين بالدموع، مددتُ إليها يدي المغطاة بالدم، ثم أشرت بأصابعي إلى ملابسي الملطخة، أنتظرها لعلها تعرف ماذا يحدث، ولكن يبدو أن دمي كان كأحد رسوماتي، لا يُدرِك حمرتهُ غيري.

امتلئ عالمي برسوماتي أو ربما أشباحي، لم أرَ سواهم، و لا أحد يراهم سواي، لزمت الأماكن المزدحمة واجتنبت الوحدة وحتى الحديقة خلف منزلي، ولكن هيهات! لا أحد سواي وأشباحي في كل مكان، امتلأت أيامي بالصراخ دون جدوى فأنا أصرخ ولا أصرخ، وكأن صوتي لا يسمعه أحد، لم يرَني الناس كما لم يروا أشباحي .كأنهم أرادوا تعذيبي أنا فقط، وعذبوني أكثر بأن أكون وحيدة في عذابي، لا يحس بي أحد ولا ينجدني منقذ.

و أصبحتُ رسمة من رسوماتي، أعيش كل نهاياتي المأساوية، فكنت بطلة كل القصص تهت في الصحراء حتى مُت وحيدة، قُتلت بمسدس أعز شخص على قلبي، نُسيت تحت حُطام سقف أحلامي ولم يدرِ بي أحد.

فقط رأتني أمي ..أَهرع إليها كلما أصابتني أشباحي، أبكي بجانبها وتبكي معي، "أمي لقد قطعوا يدي، أمي أنقذيني أمي..".

تتحسس يدي بعينين دامعتين ،تقول بصوت متقطع: "إنها هنا يا ابنتي.. لم يقطعوها ..إنها هنا يا حبيبتي".

لايزال صوتها الحزين الباكي يتردد في ذهني إلى الآن، فجأه تذكرت، تذكرت الوحيد الذي يراهم، لمع نور في ظلام عقلي، ووجدت حينها مخرجًا، وَجب علي رؤيته حينها، ففقط هو من سيعرف ماذا أفعل.

*****

هرعت إلى الحديقة، أتمنى من كل قلبي أن أجده هناك، وحينها لمحته من بعيد يضيء وجهه الأبيض الشاحب كنجوم الليل، اقتربت منه فنظر إلي بابتسامة رائعة، كأنه يعرف أنني أبحث عنه، لم أتمالك نفسي حين رأيته ، بكيت وبكيت حتى خارت قواي، افترشت الأرض وأشباحي في السماء يتراقصون حولي، يرمقونني بنظرات ساخرة وابتساماتٍ صفراء، لترحل عن ذكراي كل وجوههم البريئة التي رسمتهم بها، لم تعد رسوماتي بعد الآن، لم أرسم يومًا شيئًا بهذه البشاعة.

قصصت عليه كل ما حدث، أخبرته بمعاناتي، شكوت وشكوت كما لم أشكُ من قبل، قطع شكوتي المتواصلة سؤاله: "ألم تخبركِ شيئًا؟ ألم تقل ماذا تريد؟ أنا أسمع فقط ما يريدون مني سماعه، لكن ماذا يريدون منكِ؟"

أنصتُ لهم لعلي أصل لمرادهم لكن صوتًا واحدًا كان يتردد صداه في عقلي،:"هل ظلت أفكارك ورسوماتك حبيسة الأوراق إلى الآن ؟"

وكأنه كان يخبرني الإجابة من البداية، يخبرني لم ظهروا لي الآن، لم تحولت مسرحياتي البريئة إلى وحوش ضارية، هل نتج عن حبسهم سوى ظلام وعذاب.

نظرت إليه مؤكدة :"أتقصد إن تحريرهم سيذهبهم عني، أسيتركونني حينها أنعم بهدوء حياتي السابق، أواثق من ذلك؟"

رد بعفوية :"نعم، ألا تثقين بي ؟"

بلى، وكيف لا أثق بمن صدقني، بمن استمع لمعاناتي إلى النهاية، كيف تسأل هذا وقد أخبرتك ما لم أخبره احدًا من قبل؟ بدت الإجابة واضحة دون أن اجيب عليه . فذهبنا إلى المنزل مسرعين، وعندما رأيت أمي أردت أن أبشرها أنني وجدت الحل، أنني اخيرًا سأنتهي من عذابي، أخبرتها: "سينتهي كل هذا يا أمي فصديقي سيساعدني على ذلك". وأشرت إليه بيدي، توقعت ترحيبًا أو فرحًا ببشارتي ولكن أمي نظرت إلي بعينين دامعتين، عجزت حينها عن فهم سبب حزنها، ألم أجد الحل ؟

نظرتُ إليه لعله يخبرني بالسبب فلم يقابلني سوى بابتسامته المعتادة، انتبهت حينها أن التعبير الذي اعتلى وجه أمي هو نفسه عندما لا ترى ما أراه، تمتمت بصوت لا يكاد يخرج: "ألا..ا..ألا..ترينه؟"

بدت الإجابة على أمي أصعب مما تستطيع قوله، تابعت بكاءها حتى تيقنت، أدرت وجهي تجاهه، لم يقل أي شيء فقط ابتسم، نزعت قناع هدوئي وصرخت: "أتسخر مني؟ كيف لم تركَ أمي؟ هل كنتُ وحدي فعلًا من تراهم؟ وأنت...هل أنت منهم؟ إذًا هم ليسوا أشباحًا؟ وليسوا رسوماتي؟ أتقصد أنني كنت أقنع نفسي؟ عندما وثقت بك لم أثق بشيء؟ فقط وثقت بوهم من أوهامي؟ هل العذاب الذي كنت فيه سببه عقلي؟ كنت فقط أتوهم؟ أجبني ، لمَ تبتسم؟ هل يعجبك ما وصلت إليه؟ إذًا هل سأجن ؟هههههههه لا لن أجن ، أنا بالفعل مجنونة ههههههه " ثم تابعت ضحكي الهستيري ..

*****

عزيزي القارئ

كتبت هذا الجزء في البداية لأنني توقعت أنني لن أستطيع كتابة نهاية قصتي، وكيف أكملها وهو ينظر إلي إلى الآن بابتسامة يراقبني من السرير المقابل لي في هذا المشفى -أو ربما هي مصحة- وأنا أكتب إليك هذه الكلمات، سعيد وهو يراني أتخبط ولا اعلم ما النهاية، لن أستجيب له وأخبر أحدًا عمّا بداخلي، لن أريهم أشباحي بل سيظلون في الأوراق محبوسين ، بل سأحبسهم داخلي إلى أن يموتوا معي، أتظن أنني كرهتهم بعد كل ذلك؟

لا بالطبع، ألم أخبرك أنهم أبنائي؟

*
*
*
*

أحيانا نعتقد أن الغموض هو ما يجعل الشيء المخيف مخيفًا
ولكن ربما معرفة الحقيقة مرعب بل أشد رعبًا..
فأفكارك وحوش مرعبة ..
إن لم تحررها لتغزو العالم ستغزو عقلك، فأطلق الوحش بداخلك
قبل أن يتحول لأكثر الوحوش رعبًا على الإطلاق!