فريق كنوز المعرفة

رحلة "استكشاف 59"


في يوم من أيام الربيع في أواسط شهر نيسان ومن شواطئ الأرجنتين وقفت على متن باخرة "تيرا نوفا" في رحلة استكشافية أُطلق عليها اسم "استكشاف 59" محدقة بنظري جنوبًا حيث كانت رحلتنا إلى القارة المتجمدة الجنوبية.

كان الشغف يملأني لهذه الرحلة منذ مدة طويلة، حيث أنها فرصة لا تتاح إلا للقليل من الناس!

وبينما كنت أحدق في الأمواج سارحة بتفكيري فيما سأجد هناك، فاجأني أحد ملاحي الباخرة قائلًا: مالي أراكِ منشغلة في التفكير، كل ما سترينه هناك هو الثلج والحيتان والسماء!

فأجبته: لعل ذلك المنظر الساحر سيكفي ويشفي ناظري لكني موقنة بأني سأرى أكثر من ذلك، فكفاك هراء!

ومرت الأيام والباخرة تجوب عباب البحر، وتشق طريقها نحو القارة المتجمدة الجنوبية.


اليوم الرابع


في مطلع اليوم الرابع بدأنا نرى الكتل الجليدية الضخمة في الأفق البعيد بعضها كالجزر العائمة والبعض الآخر كالجبال الراسية !

أنهمكتُ في تسجيل ملاحظاتي لبداية مغامرتي الخاصة التي لا أرغب في تضييع أي تفاصيل قد أعود لها لاحقًا، ولم ألحظ وصولنا إلى ساحل القارة المتجمدة الجنوبية إلا من صفير الباخرة الذي أعلن بدأ الاستكشاف.

خرجت من الباخرة وكلي آمال بأن أملأ صفحات مذكرتي بتفاصيل رحلتي...ولا أخفي حماسي وحلمي الذي تمنيته ووضعته في الصفحة الأولى الذي كان نصه: "ربما سأخرج باكتشاف لجزيرة مجهولة لم يصل إليها المستكشفون بعد!".

وبدأت رحلة التأمل مع الطاقم والمستكشفين الذين بلغ عددهم مائة شخص. جذبت ناظري المخيمات المهجورة التي اُستخدمت من قِبل المستكشفين الذين سبقونا، والحيتان التي ظهرت من تحت سطح المحيط على حين غُرة وكأنها ملت المكوث في القاع وأرادت استطلاع ما حولها. كل شيء في الأنحاء بدا أجمل من الصورة التي رسمتها في مخيلتي منذ أمد بعيد، وبدَا مبشرًا بمغامرة شيقة لأبعد الحدود.

انتهى اليوم الرابع وعدنا إلى الباخرة.

في الغد سنقوم بنصب المخيم الخاص بنا...في الغد سنقطع مسافة أكبر...يا ترى ما الذي سنراه في الغد؟ كل ذلك جال في مخيلتي قبل خلودي للنوم.


اليوم الخامس


بدأ اليوم الخامس وشغفي ما زال في أوجه، صحوتُ مبكرًا على غيرِ العادة والمدهش أن الجميع كانوا على أُهبة الاستعداد وفي غاية الشغف!

حزمنا الأمتعة و انطلقنا...قطعنا مسافة ليست باليسرة حوالي الثلاثِ ساعات بعدها قمنا بالتوقف ونصب الخيام.

أستلم القبطان مكبر الصوت وبدأ حديثه قائلا: أعزائي المستكشفين ابتداءً من الغد سيتم تقسيمكم إلى فرق وستنطلقون في اتجاهات مختلفة بقيادة أحد الملاحين، وذلك من أجل أن تحظوا بتجربة فريدة من نوعها.

أخذتُ وقتًا في تسجيل ملاحظاتي والإحداثيات التي وصلنا إليها وحالة الطقس. في المساء قام القبطان بجمعنا لتناول الطعام واشعل الطاقم الحطب وبدأنا نتبادل الأحاديث. أخذ الطاقم يجيب على تساؤلاتنا وما تفسيرها العلمي و أسهب القبطان في شرح تاريخ القارة الأكثر غموضًا وعن سبب كونها قارة مجهولة وعن صعوبة العيش فيها بالإضافة إلى أنواع النباتات و الطحالب التي تضمها القارة إلى جانب كونها زاخرة بالخيرات والعديد من فصائل الحيوانات والمزيد من المعلومات القيمة التي لا يمل المرء من سماعها.


اليوم السادس


توجه الجميع نحو مجموعته لبدء الرحلة، كنت بصحبة تسع أشخاص بالإضافة إلى القائد. انطلقنا باتجاه الشرق من المخيم...

بعد مرور ساعة ساءت أحوال الطقس فلم يعد بإمكاني رؤية ما أمامي، انزلقت قدمي فجأة وسقطت على الجليد وارتطم رأسي في الأرض وفقدت الوعي للحظات. صحوتُ على الجليد الذي أخذ ينصهر متحولًا إلى ماء!

تمالكت نفسي وتعاملت مع الوضع باتخاذ قرارات سريعة، فدرجة حرارة الماء منخفضة جدًا و الحقيبة التي أحملها لا تحتوي سوى على الطعام والعديد من الملابس للتدفئة و السبب الأهم لا أرى مجموعتي التي كنت بصحبتها! نهضتُ و ابتعدت عن تلك المنطقة بأسرع ما يمكن لأنها أخذت تتحول إلى ماء شيئًا فشيئًا.

بعد مرور ساعة من هروبي أدركت أنني قد أضعتُ طريق العودة...راصد إحداثيات الموقع يحمله القائد فقط ولا أعلم الآن في أي اتجاه قد هرعتُ إليه في طريق هروبي. جال بصري يمنة ويسرة باحثة عن أي شكل من أشكال الحياة لكن لم أُصادف أيًا منها!

حاولت العودة من الاتجاه المعاكس لكن لم تنجح محاولاتي، لحسن الحظ فأنا أحمل أمتعتي.

لكن ما الذي سيحدث في الغد...هل سيتمكن الطاقم من إيجادي؟ أم أن مغامرتي ستنتهي عند هذا الحد؟


اليوم السابع


حظيت بقسطٍ من الراحة و استيقظت في تلك البقعة التي لا يوجد حولها سوى الجليد. كانت آمالي كبيرة بأن الطاقم سيتمكنون من إيجادي، لذلك لبثتُ في مكاني خشية ابتعادي أكثر...لكن يبدو أنني في مكان يصعب الوصول إليه!


اليوم الثامن


في بداية اليوم الثامن أيقنت أن لا فائدة من الانتظار دون بذل أي جهد لذلك انطلقت وشققت الطريق حتى المساء، استوقفني صوت للماء الذي بدا كأنه ينحدر من مكان مرتفع...لذلك اندفعت بحماس...فقط من أجل اكتشاف ما إن كان ذلك الصوت يمثل شكلًا من أشكال الحياة.

جريتُ سريعًا لدرجة عدم إدراكي بسقوطي من جرف ماءٍ عالٍ إلا في الصباح بعد استيقاظي.


اليوم التاسع


أثر السقوط تعرضت قدمي لكسر بليغ منعني من الحركة...بدأت بالزحف واتكأت على صخرة ظننتها من الجليد في بادئ الأمر.

وعندما نظرت حولي أخذتني الدهشة فعن يميني أشجار زاهية الألوان لا تحمل ملامح اللون الأخضر بشكل كلي، وعن شمالي الماء وجدارٌ عالٍ من الجليد ممتد على مد نظري وقد بزغت من فوقه الشمس.

فما لبثت حتى لاحظت دفأها على جبيني يشق النسيم البارد القادم من الجليد، كل شيءٍ بدَا وكأنه حلم !

لم أدرك أنني الآن في عالم جديد معزول تمامًا! أعدت النظر مجددًا فوجدت الرمال تحت قدمي ناصعة البياض ولكنها ليست من الثلج، وتلك الأشجار والطيور التي تحمل العديد من الألوان والأشكال التي لا أعتقد بأنها قد حظت على اسم ولم تدرج تحت فصيلة معينة بعد.

كل هذه الأشياء أنستني ألم قدمي!!

في تلك اللحظة قررت استكشاف تلك المنطقة المعزولة. فوضعت على قدمي أحدى الأغصان الملقاة على الأرض وشددت عليها بأحد الملابس التي أحملها...واتكأت على جذعٍ طويل لمساندتي في الحركة وسرتُ بصعوبة بالغة. أكتشفتُ بأن المنطقة ليست كبيرة وذلك لوصولي إلى الجانب الآخر بعد مرور ساعتين فقط.
بعد اتجاهي في جميع الاتجاهات أدركت بأن جميعها انتهت بمياه المحيط يتلوه جدار من الجليد...أيقنت أن هذه المنطقة المعزولة هي في الحقيقة جزيرة!

وأيقنت في تلك اللحظة أيضًا أنني قد اكتشفت جزيرة جديدة لم يصلها العلماء بعد وذلك لعدم وجود أوصاف مشابهة للجزر أو الكائنات التي تم اكتشافها يطابق ما رأته عيني في هذه الجزيرة!

ابتسمت لتحقق تلك الصفحة الأولى التي ابتدأت بها صفحات مذكرتي...

لكنني أدركت في تلك اللحظات بأن نسبة نجاتي ضئيلة جدًا.


اليوم العاشر


بينما كنت أتجول في الجزيرة باحثة عن طعام أسدُّ به جوعي، وجدت بالمصادفة قنينة زجاجية قد جلبها المحيط على الساحل... فقررت أن أضع ما كتبت من مذكراتي بداخلها، وها أنا أقوم بإلقائها في المحيط لعلها تصل إلى أحد في يوم ما.



تلك القنينة التي حملت مذكراتها لم تكن من أجل إنقاذها لأنها تعلم بأن ذلك صعب المنال...وإنما لتحكي تجربتها وتخبرنا بأن لا حدود للاكتشاف ولا حدود للمعرفة، ولتخبرنا أيضًا بأن العالم يحتوي على العديد من الأسرار التي لم تكتشف بعد.