التوكل على الله هو صدق اعتماد القلب على الله تعالى في استجلاب المصالح ودفع المضار، من أمور الدنيا والآخرة، مع بذل الأسباب المشروعة.
قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم ص 628:" وحقيقة التوكل هو صدقُ اعتمادِ القلب على الله عز وجل
في استجلابِ المصالحِ ودفعِ المضارِ من أمور الدنيا والآخرة كلها"اهـ.
فالمتوكل على الله: يبرأ إلى الله من حولهِ وقُوَّتِه، ويعلمُ علماً يقينياً أنه لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله.
ولذلك كانت هذه الكلمة كنزٌ من كنوز الجنة لعظم شأنها وأثرها،
فقد ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: "..قل: لا حول ولا قوة إلا بالله، فإنها كنزٌ من كنوز الجنة".
أنه لا تحول لنا من حالٍ إلى حال، ولا قوة لنا على فعل شيء إلا بالله وحده.
فلا نستطيع التحول من حال الضعف إلى حال القوة، ومن المرض إلى الصحة،
ومن الفقر إلى الغني، ومن الخوف إلى الأمن، ومن المعصية إلى التوبة، ومن الضلال إلى الهداية
.. إلا بالله تعالى وحده لا شريك له.
ولا قوة لنا على إقامة شرعه، وتبليغ دينه، وتحقيق عبوديته إلا بالله،
ولا قوة لنا على القيام في الصلاة والركوع والسجود إلا بالله، ولا نستطيعُ الحصولَ على المال،
ولا النجاح الدراسي، ولا التوفيق في تربية الأولاد، ولا الصبر والثبات على أمر الله إلا بالله،
ولا نستطيع أن نسمع أو نبصر أو نتكلم أو نقف أو نمشي أو نرفع أو نخفض.. إلا بالله.
ولذلك كان من أهم معاني التوكل على الله ولوازمه: الاستعانة بالله؛
فالمؤمنُ بالله المتوكل عليه يستعينُ بالله دائما في أموره كلها
ويُلِحُّ في الدعاء. "إياك نعبد وإياك نستعين" فنحنُ لا نعبدُ إلا إياك ولا نستطيعُ عبودتك إلا بمعونة منك، فأعنّا.
فالمؤمنُ يدعو اللهَ تعالى أن يعينَه على طاعتهِ وعلى أمورِ معاشه،
والنصوصُ في طلب إعانة الله على فعل الطاعة
جعل الله تعالى التوكل عليه شرطاً في الإيمان،
قال الله تعالى:"وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين" (المائدة 23).
وقال تعالى: "وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ، فَقَالُواْ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا" (يونس 84-85).
قال الله تعالى:" فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ " (هود 123)،
قال ابن القيم في مدارج السالكين ص 456:"التوكل نصف الدين".
وقالت رسل الله تعالى لأقوامهم الذين لم يؤمنوا بهم:" وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ" ).
قال ابن القيم رحمه الله معلقاً على هذه الآية:" فالعبد آفته إما من عدم الهداية ،
وإما من عدم التوكل، فإذا جمع التوكل إلى الهداية فقد جمع الإيمان كلَّه" (مدارج السالكين ص 467).
فالتوكل على الله هو شأن الأنبياء والمرسلين،
فقد أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال:" (حسبنا الله ونعم الوكيل)
قالها إبراهيم صلوات الله عليه حين أُلقي في النار،
وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قال الله تعالى :"إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ".
قال ابن تيمية (7/16):" التوكل على الله واجب من أعظم الواجبات،
كما أن الإخلاص واجب، وحب الله ورسوله واجب،
وقد أمر الله بالتوكل في غير آية أعظم مما أمر بالوضوء والغسل.." اهـ.
تَوَهَّم بعضُ الناس أن مقتضى التوكلِ تركُ فعلِ الأسباب،
وبعضُهم يرى أن من تمام التوكل على الله بذل الحد الأدنى من الأسباب فقط والتقليل منها.
والصوابُ أنَّ بَذْلَ السبب المشروع هو من مقتضى التوكل على الله،
وترك بذل الأسباب ينافي التوكل.
فالتوكل على الله يعني أن يكون قلبُه متعلقاً ومعتمداً على الله وحده لا على شيء من الأسباب،
مع فعل الأسباب على وجهها الصحيح دون تقصير.
فنحن بين طرفين ووسط: أناسٌ تركوا فعل الأسباب وآخرون تعلقتْ قلوبُهم بالأسباب؛
وهذا كلّه انحراف، والصواب فعل الأسباب مع توكل القلب على الله وحده.
نبه ابن القيم رحمه الله تعالى إلى أنواع من التقصير في باب التوكل،
ومن ذلك: أنه يتوكل على الله في بعض أَمرهِ ويُهْملَ التوكلَّ في غيره وربما كان هو الأهم.
فتجده يتوكل على الله في رِبْحِ التجارة، والحصولِ على الوظيفة،
والشفاء من المرض، لكنَّه يُهمل التوكل على الله تعالى في نصرةِ الدين، وإقامة الشريعة،
والجهادِ في سبيله، والقيام بأركانِ الإيمان والإسلام، والدعوة إلى الله،
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. الخ،
والصواب أن يتوكل على الله تعالى في كل أمره، وما عظَّمَه اللهُ فهو الأولى والأهم.
من أدعية السنة:" اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك" أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
وفي حديث علي رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:" قل: اللهم اهدني وسددني" أخرجه مسلم،
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جداً.
وأفضل دعاء وأوجبه:" اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ" (الفاتحة 6-7).
قال ابن تيمية رحمه الله (8/330):" فهذا الدعاء أفضلُ الأدعية وأوجبُها على الخلق.."
متى غَفَلَ الإنسان وتَرَك الاستعانةَ بالله التي هي من أهم مقتضيات التوكل،
وَرَكَنَ إلى نفسه وقدراته فقد هلك. وهنا مزَّلةُ الأقدام،
وهنا تحصلُ الغفلةُ من بعض الناس حينما يَتَوهَّمُ أنه قادرٌ على القيام بما يريد بعلمه،
أو فهمه، أو ذكائه، أو مهاراته الفردية، أو قدراته الشخصية، أو قوته البدنية،
أو منصبه ونفوذه، أو كثرة ماله.. الخ.
فمن ظن هذا الظن فقد ضلَّ، وقد بين الله تعالى لنا سبب هلاك قارون حينما
قال:" قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ
مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ. (القصص:78(
فَنَسَبَ حصول هذا المال العظيم إلى علمه وقدرته.
ومثلها قول الله تعالى:" فَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ" (الزمر 49).
قال ابن تيمية (8/528):" فالالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد..
فعلى العبد أن يكون قلبهُ معتمداً على الله، لا على سبب من الأسباب"اهـ.
والمتوكل على الله: يثق بالله ويحسن الظن به، فهو يوقن أن الله تعالى يراه ويسمع صوته
ويعلم حاله وحاجته، وهو أرحم به من نفسه، فالله تعالى هو العليمُ الحكيمُ الخبيرُ اللطيفُ البصيرُ بالعباد.
فما قدَّرهُ اللهُ تعالى فهو الخير، فيكون المتوكل على الله صابراً ثابتاً مطمئناً راضياً بما قدره الله
تعالى، فقد يُقّدِّرُ اللهُ تعالى ما لا يُريده العبد فيكونُ ظاهرُه الشّر،
لكنْ في باطنه وعاقبته الخير العظيم "وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ" (البقرة: 216)
فلا يضطرب قلبه ولا ييأس من رحمة الله تعالى "إنَّهُ لَا يَيْأَس مِنْ رَوْح اللَّه إِلَّا الْقَوْم الْكَافِرُونَ" (يوسف 87).
قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم ص635: "واعلم أن ثمرة التوكل الرضا بالقضاء،
فمن وكَّل أموره إلى الله، ورضي بما يقضيه له ويختاره، فقد حقق التوكل"اهـ.
والمتوكِّلُ على الله: يُفَوِّضُ أمرَه إلى الله.
قال الله تعالى عن مؤمن آل فرعون: " وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ" (غافر44).
فكان جزاؤُه من الله على هذا التفويض "فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ" (غافر45).
وفي حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
إذا أوى إلى فراشه نام على شقه الأيمن ثم قال:" اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجّهت وجهي إليك،
وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك،
آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت" أخرجه البخاري ومسلم.
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله توضيحاً للتفويض بالمثال –ولله المثل الأعلى-
وهو أن المفوِّض مَثَلُه مَثَلُ الطفل الصغيرِ العاجزِ الذي فَوَّضَ أمرَه إلى والدِه الذي يقوم بشأنه،
فهو يحمله ويذهب به والطفلُ مطمئنٌ لذلك، ويعلم أن أباه أعلم منه بمصلحته،
وربما حَمَلَهُ والده، والطفلُ لا يعلم لماذا حمله، ولا أين هو ذاهب،
لكنه مطمئن أنه ما فعل ذلك إلا لمصلحته.
وهذا نص كلام ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين ص462:"
التفويض.. روح التوكل ولُبُّه وحقيقته، وهو إلقاء أموره كلها إلى الله، وإنزالها به طلباً واختياراً،
لا كرهاً واضطراباً، بل كتفويض الابن العاجز الضعيف المغلوب على أمرهِ كُلَّ أموره
إلى أبيه العالم بشفقته عليه ورحمتِه، وتمامِ كفايته، وحسنِ ولايتِه لَه، وتدبيرهِ له،
فهو يرى أنَّ تدبيرَه له خيرٌ من تدبيرِه لنفسه،
وقيامُه بمصالِحِة وتَولِّيه لها خيرٌ من قيامه هو بمصالح نفسه وتَوَلِّيهِ لها،
فلا يجد له أصلح ولا أرفق من تفويضه أموره كلها إلى أبيه، وراحته من حَمْلِ كُلِّها وثِقَلِ حملها،
مع عجزه عنها، وجهله بوجوده المصالح فيها، وعلمُه بكمال علم مَنْ فَوَّضَ إليه،
وقدرتَه وشفقتَه".
أهم فوائده هو تحقيق العبودية لله وحده في القيام بهذا الواجب العظيم الذي أمر الله تعالى به عباده،
وله فوائد عظيمة أخرى، ومنها:
النصر والتأييد: فإذا أردت أن ينصرك الله على نفسك وعلى أعدائك فكن على الله متوكلا، فهو سبحانه نعم المولى ونعم النصير. قال تعالى: ﴿ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [آل عمران: 160]. فأمر الله بالتوكل عليه بعد ذكره للنصر، ليُدَلّل على أنّ من أسبابه الاعتمادُ عليه والتوكل عليه.
كفايةُ الله له وتحقيقُ مرادِه وسعادتُه في الدارين.
قال الله تعالى:" وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ" (الطلاق 3).
وثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال:" لو أنكم توكلون على الله حَقَّ توكله لرزقكم كما يرزقُ الطير تغدوا خماصاً وتروح بطاناً"
أخرجه أحمد والترمذي وقال:"حسن صحيح لا نعرفه إلا من هذا الوجه"
والنسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم من طرق عن عبدالله بن هبيرة أنه سمع أبا تميم الجيشاني
أنه سمع عمر رضي الله عنه به وابن هبيرة وأبو تميم كلاهما من رجال مسلم.
قال ابن تيمية رحمه الله (8/531):"الدعاء والتوكل.. من أعظم الأسباب التي تُنَال بها سعادة الدنيا والآخرة".
قال ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين ص456:"ومن صَدَق توكُّلُه على الله في حصول شيء ناله"
وقال أيضاً ص461:"فالتوكل من أعظم الأسباب التي يحصل بها المطلوب، ويندفع بها المكروه".
وقد جعل الله تعالى التوكلَ عليه سببًا وشرطًا في دخول الجنة بلا حساب ولا عذاب
كما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه:"
ويدخلُ الجنة من هؤلاء (أي من أمة محمد( سبعون ألفًا بغير حساب (زاد المسلم: ولا عذاب)..
هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون".
فاتقوا الله تعالى الذي خلقكم ورزقكم ورباكم، والذي أطعمكم وكفاكم وآواكم، والذي أنقذكم من الردى وهداكم، وتوكلوا حق التوكل عليه في إصلاح دينكم ودنياكم.
اللهم اجعلنا ممن توكل عليك فكفيته، واستعان بك فأعنته، واستهداك فهديته، ودعاك فأجبته، وسألك فمنحته وأعطيته، يا رب العالمين.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المفضلات