الحلقة الرابعة

تدفق الدم مثل الحمم مع هذه الحركة الغبية من الطبيب، (وللأسف معظمه نزل داخل فمي)، حاولت أن أنهض، أن أفرَّ بروحي، لكني عجزت عن الحركة نهائيًا، ومدَّ الطبيب أداته تلك مرة أخرى، في الفتحة الثانية، وكانت الحركة ذاتها، وهنا انقلبت من طاولة الفحص التي كنت ممددًا عليها، لأقع أرضًا، عاجزًا نهائيًا عن الحراك، والدموع تختلط بالدم في وجهي وفمي، وبصعوبة سمعت الطبيب ينطق بكلمة ما، لكني لم أفهمها، وإن شعرت بِيَدٍ تنهضني من الأرض، ثم شعرت بأحد ما يلقيني على الكنبة من دون ترفق، بحيث يتدلى رأسي إلى الأسفل، وأخذت أسمع صوت قطرات الدم وهي تنزل من أنفي إلى الأرض، مثل دقات الساعة (لا أدري إن كان صوت مثل هذا قد صدر حقيقة، أم أنه من الارتجاج الذي كنت أحسُّ به في رأسي)!
وبعد بعض الوقت سمعت الطبيب يصرخ: "ليس هكذا"! ثم يقوم بتعديل وضعيتي على الكنبة ليصبح رأسي في وضع مائل، ويرتد الدم في حلقي بدل خروجه إلى الأرض، الأمر الذي جعلني أتساءل بدهشة، هل تلك السكرتيرة (الناعمة) هي التي أنهضتني عن الأرض، وربما حملتني كذلك، قبل أن تلقي بي هكذا!!
وبصرامة قال لي الطبيب: "أنا آخذ مالًا على نزع الفتيل، وهذا حقي، وكل الأطباء يأخذون، لكني لن آخذ منك، بسبب حالتك هذه".
كان هذا الكلام مناقضًا تمامًا لما قاله في المستشفى، ثم فوجئت به يسألني سؤالًا، جعلني أثق بأنه مجنون حتمًا، إذ سألني: "لماذا نزل منك الدم، حين نزعت لك الفتيل"؟!
ومع هذا السؤال، تمنيت لو أن بجواري شيئًا ما، لأحمله وأهوي به على رأس هذا الأحمق، بل وفكرت في النهوض، لألكمه في أنفه، وأجعله يتذوق بعض ما تذوقته، ولو جزءًا بسيطًا مما تسبب لي به، لكني كنت، للأسف، عاجزًا عن النهوض، بل حتى عن مجرد الحراك، غير أن لساني المتهكم كان حاضرًا، وفوجئت بالطبيب ينظر إليَّ مصدومًا، حين أجبته بسخرية شديدة: "معك حق، لماذا نزل الدم (فقط) من أنفي؟ لمساتك (الناعمة) هذه كفيلة بأن يتفتَّت أنفي بأكمله ويتهاوى مثل الهياكل العظمية في أفلام الكرتون"!
طلب مني الطبيب هنا أن أخرج وأرتاح في الصالة، قبل رجوعي إلى بيتي، لأني أعيق عمله، ولديه مرضى آخرون (انظروا كيف جعلته دعابتي يتحمس إلى العمل)! لكني رفضت ذلك، قلت له إني عاجز عن الحراك أولًا، ثم إني لن أخرج هكذا، وأظل أنزف حتى أصل بيتي، لأني سأصل جثة هامدة ليس فيها قطرة دم واحدة، وكان ردّ الطبيب عمليًا، طلب من السكرتيرة إدخال المريض التالي! (يبدو بأن أثر دعابتي الإيجابي أقوى مما كنت أظن، ويبدو بأنه يجب أن أداعبه دائمًا كي يبقى نشيطًا هكذا)!
خرجت السكرتيرة ثم دخلت هي والمريض، وأخذت تشير إليَّ قائلة: "أمه، قلقة، لأن"... وهنا تذكرنا أن والدتي تنتظر خارجًا، وقد شعرَتْ بقلق شديد لتأخري هكذا، والطبيب كان قد قال إن المسألة لن تستغرق بضع ثوان. وهكذا ترك الطبيب المريض الذي دخل، وأتى نحوي ليعاونني على الاعتدال على الكنبة، وبمجرد حصول ذلك شعرت بكل شيء يدور من حولي، ثم وضع الطبيب قطنًا في أنفي، تخرج منه رائحة كفيلة بإفقاد الوعي لكراهيتها، وقال إنها ستمتص الدم، وإن عليَّ نزعها فور وصولي إلى بيتي، وهذه روشتة طبية يجب أن أتبعها بحذافيرها، وبعد أسبوع يجب أن أكون عنده ليطمئن على الوضع، وليفكَّ القطب (الغرز الجراحية)!! شعرت بجسمي يرتجف من الرعب هنا: (فكُّ القطب)!!
وخطر لي أن أكتب وصيتي الأخيرة في هذه الأيام، ويبدو أنني كنت أحدق في وجه الطبيب من دون أن أنتبه، فقد سألني بدهشة وضيق: "ماذا هناك"؟
وجدت نفسي أتمتم: "فكُّ القطب؟ فكُّ القطب؟ مثل الفتيل الناعم هذا؟!"
ردَّ الطبيب: "لا تحمل الهم". نعم، لن أحمل الهم، لكني أتمنى حملك أنت وإلقاءك من النافذة فقط لا أكثر!
مرَّت الأيام، والدم الأحمر القاني ينزل من أنفي بكميات هائلة، رغم أني أستعمل البخاخات التي طلبها الطبيب، وباتصالنا به قال إن هذا أمر طبيعي، لكنه سيزول فلا داعي للخوف، وحان اليوم الموعود، يوم فكِّ القطب، وفي العيادة حمل الطبيب أدواته، واتجه نحوي، فاستوقفته بحزم: "اسمعني، عليك أن تترفق في عملك، وإلا فلن أضع قدمي في عيادتك مرَّة أخرى، وسأتابع مع طبيب آخر". وبمجرَّد سماعه هذه الكلمات تحول الطبيب إلى (ملاك رائع)، بل وقام بوضع بنج موضعي باستخدام بعض البخاخات، وإن كان هذا لم يمنع الإحساس بألم شديد حين قام بانتزاع القطب (أو ما أسماه هو كذلك، فلا أعلم هل يتمُّ تقطيب داخل الأنف أم ماذا)، كما قام الطبيب بعملية تنظيف شاملة (كما أسماها كذلك) لكنها لم تكن كذلك فعليًا، وطلب مني استخدام بخاخة معينة، وقال (بعد أسبوع واحد سترى النتيجة 100%، والعملية نجحت 200%، ولولا صورة السكانر المختلفة التي أحضرتها لي في المستشفى)...
ومع هذا (التخريف) الذي يكرِّره الطبيب، وجدت نفسي أقول متهكمًا: "يبدو أن طبيب البنج وقتها قد (بنَّجك) أنت أيضًا، هي صورة سكانر واحدة أخذتها في حياتي، وأنت تؤكد أنهما صورتان مختلفتان"؟
لم يردَّ الطبيب، وخرجت أنا، لأرجع إلى بيتي، وفي أنفي بعض القطن كالعادة، قال الطبيب إنه لتصفية الدم الذي سينزل (خفيفًا أسود اللون) من الأنف بعد فكِّ القطب، غير أني لم أصل مخرج العيادة، إلا ودفقة دموية حمراء قانية تتفجر بعنف في أنفي مما قذف بالقطن منه قذفًا، وليس في هذا أي مجاز، حصل هذا حقيقة، فأصر والدي على الرجوع إلى عيادة الطبيب، ولم أجد في هذا أية فائدة تُذكر، فلم يفعل الطبيب سوى أن أخذ (يبخُّ) في أنفي من بخاخات متعددة للغاية، ثم أخبرنا بأن إحدى هذه البخاخات كلُّ نقطة منها ثمنها دولار كامل، وتصله بصفة شخصية من فرنسا، لكنه (بَخَّ) لي منها مجانًا، و(تكرم عيني)!! وكأني مجبر على دفع إضافي لحضرته، وقد أخذ ثمن فكِّ القطب والتنظيف، فإن لم يكن يتقن عمله فما ذنبنا نحن؟ ثم إنني حاولت حفظ اسم تلك البخاخة العجيبة لكني، وأنا بتلك الحالة، لم أستطع ذلك. وكان الوصول إلى منزلي قبيل المغرب، وقد خفتت الآلام في طريق الرجوع، وصلت بيتي مرهقًا جدًا، ارتحت قليلًا، وحاولت أن أنام، ولكن، بعد العشاء بقليل تفجرت الآلام في أنفي، ووجدت نفسي أنهض وأجلس وأتمدد على الأرض وأمشي يمينًا ويسارًا، ولا أعرف ماذا أفعل ليسكن البركان المشتعل في أنفي، وتناولت حبتين من الدواء المسكِّن، لكن الألم لم يخف، فتناولت حبتين أخريتين، وكدت أتناول العلبة كلها، لولا بقية من العقل في رأسي، وهكذا مرَّت ليلة سوداء، لم تهدأ فيها الآلام إلا في وقت متأخِّر، والغريب أن جرس الباب رن والساعة تقترب من العاشرة ليلًا (كنا في وقت يؤذن فيه العشاء الساعة السادسة والنصف تقريبًا)! ومع تكرار الرنين، قمتُ لأرى من الذي أتى، قبل أن يستيقظ أهلي، وأخذت أفكر بوجود سبب مهم يدفع أحدهم بطرق بابنا في هذا الوقت، ويا رب اجعله خيرًا؛ وكانت المفاجأة أن الحاضر، أو الحاضرات، مجموعة من النسوة، يقربْنَ لي قرابة بعيدة، وقد سمعن بأنني خضعت إلى عملية، وهنَّ قادمات للاطمئنان نيابة عن أزواجهن!! (الله يعيننا على النساء، يبدو أنني لا أستطيع فهمهن بسهولة)!!

تابعوا معنا