الحلقة الثانية
ألقى الطبيب بقول غبي للغاية، جعلني أعلن رغبتي في المغادرة وبأقصى سرعة، لولا أن غرس حكيم البنج في تلك اللحظات محقنًا ضخمًا في عروقي، جعلني أشعر بأن روحي تنسحب من مكانها، ورغم ذلك أطلقت هتافًا معترضًا في وجه الطبيب الذي سيجري لي العملية: "ماذا تقول"؟!
ردَّد الطبيب كلامه الأحمق نفسه: "هذه ليست صورة السكانر التي رأيتها في العيادة! صورة السكانر التي رأيتها في العيادة فيها كيس جيوب أنفية واحد، وهذه ملأى بالجيوب الأنفية، صورة السكانر التي رأيتها في العيادة فيها"...
قاطعته بحزم: "(لا فيها ولا ما فيها)، هي نفسها التي في يدك، أنا أصلًا لم أُجْرِ سوى صورة سكانر واحدة فقط في حياتي، فكيف ستغيِّر نفسها"؟!
لم أعرف إن كان سيردُّ أم لا، بل لم أعرف إن كان قد ردَّ فعلًا أم لا، فقد أخذ البنج مفعوله، وذهبت في عالم آخر، شعرت بنفسي أستعيده وأنا على محفة يجري بها بعضهم، ثم ندخل المصعد الذي يتحرك بنا، قبل أن أفقد الوعي مرة أخرى، وبصراحة لا أعلم هل حدثت هذه الاستيقاظة المفاجئة قبل العملية أم بعدها، لكن، وفي كل الأحوال استيقظت فيما بعد، وأنا لا أشعر بأي ألم (كما أخبرني صديق أجرى العملية نفسها، أني حين أفيق من البنج سيملأ صراخي الطابق)، والحمد لله على فضله هذا، وبقيت وحدي متمددًا لا أجد ما أفعله، ثم أحسست ببعض الدم ينزل من أنفي إلى فمي، فضغطت زر الجرس الذي بجوار يدي، وكانت المفاجأة أن أحدًا لم يستجب، ضغطته مرات عديدة حتى ظننت معطلًا، ثم يئست من الضغط وتركته، محاولًا جهدي ألا أبتلع الدماء التي تسيل، ثم فوجئت بعدها بصوت أنثوي ينبعث في الغرفة، قائلًا بسماجة شديدة: "نعم"؟
رددت ببعض الإعياء: "صباح الخير والله! الدم ينزل من أنفي غزيرًا"...
قاطعتني صاحبة الصوت بالسماجة ذاتها: "هذا أمر طبيعي يا أستاذ".
ولم أتمالك نفسي فصرخت فيها عبر جهاز التواصل هذا: "وهل تظنين حضرتكِ أنه من الطبيعي أن أشرب الدم"؟؟
وصمتت الحمقاء بضع لحظات، ثم أخبرتني خبرًا، جعلني أتأكد أنها مجنونة دون أدنى شك.
لقد أخبرتني هذه البلهاء بأنني سأخرج غدًا من المستشفى، فكان ردي أن هذا الأمر (ليس على كيفكِ، ولا على كيف سواكِ)، معي بصفتي موظفًا في الدولة، الموافقة على استشفاء يومين في المستشفى، وبالتالي الدولة دفعت أصلًا للمستشفى 90% من قيمة العلاج على يومين، وإذا ما خرجتُ غدًا فستتحول إدارة المستشفى إلى التحقيق، فقاطعتني الأخت متهكمة: "أنا هنا أمثل الإدارة، وأتخذ القرارات".
وهكذا، بدأت المعاناة الأولى، الدم يسيل وأنا أحاول منعه ومسحه بيدي قدر الإمكان، وإن كنت لا أنكر أني قد ابتلعت بعضه، لا سامح الله هذه الممرضة قليلة الأمانة، ثم أحسست بقطعة دم يابسة تنزل في أنفي مثل السكين تاركة بعض الجروح، ومرَّة أخرى أضغط الزر، ومرَّة أخرى ترد الأخت بعد فترة زمنية طويلة: (نعم؟ ألم أخبرك أنك ستخرج في الغد)؟ صرخت بها: (اليوم الخميس، وقبل السبت لن أخرج، وتفضلي بإرسال أحد إلى الغرفة ليرى ما يحصل معي)...
وبالفعل، لم يمضِ نصف ساعة على هذا الحديث، حتى دخل ممرضان، فكَّ أحدهما الضماد عن أنفي، وأمسك بقطعة دم متجمدة، ليسأل رفيقه هل هذه من الفتيل أو ليست منه؟ ردَّ رفيقه أنه لا يعلم، وما الذي سيجعله يعلم؟
وهكذا، وبمنتهى البساطة، وأمام عينيَّ الدهشتين، قذف الممرض الأحمق بتلك القطعة داخل أنفي بقوة شديدة، جعلتني أسأله متهكمًا، إن كان يظن نفسه لاعب كرة سلة أم ماذا؟ لكني لم أتلقَ ردًا من أيهما، كلاهما خرج ببساطة كما دخل، ومرَّت ساعات أخرى، وشعرت بأنني أتهالك من الجوع، ومرَّة أخرى أضغط الجرس لأكلم تلك الممرضة الملعونة، سائلًا عن الطعام، ليكون ردُّها أن لا طعام في المستشفى، وأن الغذاء يتمُّ إرساله إلى جسمي عبر المصل، وهنا فقدت كل قدرتي على تحمل هذا الشواذ منها، أنا موظف دولة، وأدفع 10% من قيمة تكلفة المستشفى، وكانت وقتها 200 ألف ليرة على يومين، أي قريبًا من نصف راتبي، والباقي تدفعه الدولة، حق المستشفى يصلها بالكامل، وبالتالي لا فضل لهذه الممرضة عليَّ في شيء، حتى تتحكم بي، لست هنا على حسابها الخاص، وهكذا أسندت نفسي قدر الإمكان، لأنهض من سريري، ممسكًا بحامل المصل، ناويًا أن أغادر الغرفة لأسأل عن الإدارة وأقدِّم شكوى رسمية بحق هذه الجزارة الملعونة التي تترك المريض ينزف ولا تبالي، حاولت أن أمشي، وكان هذا خطأ كبيرًا، كوني خارجًا من العملية والبنج، تقدمت بضع خطوات ثم أحسست ببعض الدوار، وحاولت أن أستند إلى أي شيء كان، لكن لم يكن قربي شيء، وبدأت ساقاي ترتجفان، وأدركت أنني سأسقط أرضًا... ودعوتُ الله تعالى ألا يكون الوقوع مؤذيًا أو يتسبب في كسر ما...
تابعوا معنا
المفضلات