الحلقة الخامسة عشرة
أحسستُ أنني في مرحلة خروج الروح، وناديتُ ربي قائلًا: "اللهم إني فوضت أمري إليك وأسلمت ظهري إليك، يا رب يا غفور يا رحيم، اكتب أمي في الجنة واجمعني بها".
وهنا دوى صوت غريب عميق ينادي باسم أمي الثلاثي، ورهبة كبرى تنطلق في أعماقي، وقبل أن ينتهي الصوت وجدت نفسي في عالم آخر، كنتُ واقفًا أمام بوابة، ومع انتهاء الصوت فُتِحَتْ هذه البوابة لأدخلها، وأرى أناسًا جالسين، وجوههم غير واضحة، فقط أمي كان وجهها واضحًا كل الوضوح، وتبدو كأنها في الثلاثين، والتقَتْ عينانا، وابتسمَتْ أمي وقامَتْ تركض نحوي، وفتحْتُ ذراعيَّ عن آخرهما لأحتضنها، وأنا أشعر بتأثر شديد في أعماقي، ومرَّة أخرى تنقسم المشاهد في ذهني، فأرى نفسي ممددًا في غرفة العمليات أتنفس بصعوبة شديدة والضغط هائل في صدري، ورأسي يكاد ينفجر من المجهود العقلي الذي يحصل لي، وأرى نفسي أحتضن أمي في ذلك العالم الآخر، وأنا لا أشعر بأي ألم، ثم أستعيد إحساسي وأنا ممدد في غرفة العمليات بأن الموت يدنو مني، وأنني سأخرج من هنا إلى القبر مباشرة، وما زلتُ أرى نفسي أحتضن أمي بكل الحنان والحنين إليها، والتأثر بلقائها، مع خاطر غريب يقول لي إنني ألتقي بها في الجنة في هذه اللحظات.
فجأة، دوى صوت كريه يقول لي: "سيكون عليك أن تتحمل مرَّة أخرى"، تلاشى مشهد أمي مع صوته التعيس هذا، وأدركتُ بأن هذا هو طبيب البنج، ووجدتُ نفسي أهتف بغضب شديد لفراقي أمِّي: "هل ستُحرق يدي"؟
وشعرتُ بالدهشة لأني أدركتُ هذا الأمر وذاك، مع أن شرايين رأسي تكاد تنفجر، وشعرتُ فعليًا أني أدخل غيبوبة نهائية، لكني سمعتُ الرد: "ليس أمامنا بديل"، ثم سمعْتُ صوتًا يهتف بدهشة" "إنه لا يتنفس"! وشعرتُ بشيء ما يوضع على أنفي وفمي، مع صوت يقول بلهفة: "تنفس، تنفس"، ولم أعد أفهم كيف أنني لا أتنفس، وقد سمعتُ الطبيب وأجبته وأجابني؟! أم أنه كان يتابع كلامه، ولم يسمع سؤالي أصلًا؟!
وبِغَضِّ النظر عن هذا الأمر، كنتُ أشعر فعليًا بأني لا أتنفس وبأن الضغط على صدري بات هائلًا، ثم شعرتُ بأنه لم يبق في صدري إلا ثلاثة أنفاس فقط، ومرَّة أخرى أجد نفسي أردد، وذكرى أمي ولقائها في بالي: "اللهم إني فوضتُ أمري إليك، وأسلمتُ ظهري إليك"، وإذ بهذه الكلمات ترتسم أمامي، وفي ختامها: "لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك"، وصوت يتردد في ذهني: "قل لا ملجأ ولا منجى إلا إليك"، كنتُ قد شعرتُ هنا بخروج النفَس الأول، فقلتُ من دون تردد: "لا ملجأ ولا منجى إلا إليك"، وقبل أن أتمها شعرتُ بخروج النفَس الثاني، وسرى في جسمي شعور بالطمأنينة، لم أخشَ الموت هنا، شعرتُ بأن الله قد استجاب لي، وسيجعلني في الجنة مع أمي، شعرتُ بالراحة والاطمئنان والأمان، وشعرتُ؛ كذلك؛ ببدء خروج النفَس الأخير، وفي تلك اللحظات سرى تيار النار في يدي مرَّة أخرى، وكان العذاب هذه المرَّة شديدًا لم أحتمله بحالة الضعف هذه، كما فعلتُ أول مرَّة، فصرختُ من الألم رغمًا عني، ثم لم أشعر بشيء بعدها.
حين استعدتُ الوعي كان هناك خاطر يتردد في ذهني: "لولا صرخة طبيب البنج لذهب عقلي في غيبوبته الأخيرة"، دهشتُ لهذا الخاطر الغريب، ثم سمعتُ صوتًا أنثويًا يهتف بي:"هيا هيا"، تحركتُ تلقائيًا، من دون أن أدري إلى أين، وعاد الصوت يتردد: "اذهب إلى اليسار، إلى فراشك، هكذا ستقع"، حركتُ جسمي يسارًا قدر الإمكان، حتى سمعتُها تقول: "كفى"، فتوقفتُ عن الحركة، وقد فهمتُ بأنهم قد أعادوني إلى غرفتي، والممرضة تطلب مني أن أتحرك من السرير النقال إلى سريري في المستشفى.
(يا للعبقرية! حضرتها تطلب مني وأنا بالكاد أستعيد وعيي أن أتحرك! يبدو أنها توقعت أني واعٍ تمامًا وسأفهم ماذا تقصد، وإن كنت أتساءل ماذا لو كانت حركتي التلقائية إلى يميني أقوى من ذلك؟ هل كنت سأرجع إلى غرفة العمليات مرة ثالثة مع كسرٍ في أنفي هذه المرة)؟!
تمددتُ على السرير، وأنا لا أزال في مرحلة انعدام الرؤية التام، مع أني كنتُ فاتحًا عيني، لكن ذلك لم يقلقني وقتها، فقد كنتُ أشعر بألم هائل في نفسي، وكنتُ أشعر برغبة عارمة في البكاء، لأني فقدت أمي بعد أن وصلتُ إليها، وقلتُ في نفسي: "لولا هذا الطبيب السمج لم يتكلم لدخلتُ الغيبوبة الأخيرة وخرجتُ من هنا إلى الموت، لكني كنتُ سأبقى مع أمي"!
كانت العملية الثانية هذه (كيُّ شرايين)، لكن لم أعرف شرايين ماذا؟ الأنف؟ القلب؟ لكني أعرف أن الدفق الدموي استمر أكثر من مرَّة، كما تكررت الإغماءة أكثر من مرَّة، وأخذتُ أفكر بسعادة كبرى: "سأرجع إلى غرفة العمليات مرَّة ثالثة، وسأرى أمي، لكني سأنبههم قبل ذلك كي يمنعوا الطبيب الأحمق من الكلام، كي لا ينتهي اللقاء مع أمي"!!
وفي إحدى المرات شعرتُ بدفقٍ دموي يندفع من فمي، وذهبتُ في إغماءة استيقظتُ على صوت الممرضة من خلفي يقول: "من الأفضل أن أمزقه"، سألتها بدهشة: "ما هو هذا"؟ أجابتني: "أنت"! انتبهتُ إليها هنا كأنها تحمل في يدها شيئًا حادًا، لكني كنتُ عاجزًا عن الاستدارة لأعلم ما هو، وحتى الممرضة نفسها كنتُ أراها بألوان تميل إلى السواد، وشعرتُ بالرثاء لنفسي، لأني دخلتُ مرحلة الهذيان، فلا يُعقَل أن الممرضة تريد تمزيقي فعليًا، لكني سألتُها مرَّة أخرى: "أنا"؟ ردَّتْ بنفاد صبر: "أعني ظهرك"، وحين لم تَجِدْ أي رد مني، تابعَتْ قائلة، محاولة إقناعي: "انظر أمامك لتراه"!
وهنا أدركتُ أنني في مرحلة الهذيان فعليًا، أنظر أمامي لأرى ظهري!! وشعرتُ بمرارة شديدة، هل هذه نهايتي؟ أن أفقد عقلي؟ هل سأعيش حياتي كلها هكذا؟ تحركتِ الممرضة هنا ليبدو طرف من هذا الشيء الذي تحمله، فأخذتُ أسأل نفسي: هل معها سوط؟ ساطور؟ على أفضل الأحوال سكين؟ وهل هذه طريقة لجعل الدم يخرج من ظهري بدل فمي؟ هل إن حصل ذلك يكون أفضل طبيًا؟! ويبدو أن الممرضة هنا فهمَتْ أنني لا أستوعب شيئًا على الإطلاق، فأوضحتْ لي برفق: "أقصد قميصك، لأنه ممتلئ بالدماء، ولم يعد يصلح لشيء"، وبما أنني أدركتُ أن عقلي ما يزال شغالًا ولم يصبه الهذيان، فإنني شعرت بالراحة الشديدة، فقلتُ لها: "افعلي ما تريدين"، طبعًا كنتُ قد نظرتُ إلى قميصي هذا، لأرى أن لونه بات أسود قاتمًا (ولا أدري هل هكذا كان لونه فعلًا من الدماء أم أنها تلك الضبابية في رؤية الألوان عندي مع فقدان الدماء من جسمي)، لكني كررت القول لها "مزقيه"، وقد كان ذلك، وهمَّتِ الممرضة بالانصراف، فاستوقفتُها أسألها أن تُحضِر لي القميص الذي نزعتُه قبل العملية الأولى، فأخبرَتْني بأنهم قد ألقَوا به في النفايات، الأمر الذي أثار استنكاري، إذ كيف يتصرفون هكذا، وما الداعي أصلًا إلى إلقائه في النفايات؟؟
كانوا، بعد كل دفقة دم، يقيسون لي الضغط، حتى قبل العملية الثانية، وفي البداية كانت النتيجة تُعلن بأعلى صوت، الضغط: 11/7، الضغط 10/6، ثم بعد ذلك، نظرة إشفاق، وتردد قبل الكلام بحماسة مفتعلَة لا تخدع طفلًا: (الضغط جيد، جيد، جيد)، وكيف يكون الضغط (جيد، جيد، جيد)، وأنا أشعر برأسي في مرحلة الانفجار، وبأني لا أكاد أرى شيئًا أمامي؟ هذا ما لم أفهمه، ويا ابنتي، تكلمي، قولي، لن يخيفني الرقم، إن كان واحدًا أم مئة، فالأعراض أشعر بها، وأدرك جيدًا بأنكِ لن تستطيعي خداعي بهذا الوصف: (جيد، جيد، جيد)! وعلمتُ فيما بعد، بأن ضغطي وصل مرة إلى الرقم 6، لكن لم أعلم الرقم الثاني كم سجل لديهم، لم يخبروني بهذا، أو لم يجرؤوا على إخباري، مع أني علمتُ ذلك (فيما بعد) كما قلتُ، وليس في وقت قياس هذا الضغط وتسجيل هذا الرقم!
مضى بعض الوقت قبل أن أغفو (لم أشعر بدفق الدم ولا بشيء ينفجر في رأسي بعدها)، أدركتُ بعد استيقاظي أنها إغفاءة لا غيبوبة، وأسعدني أنني استعدتُ رؤية الألوان إلى حد ما، لكني كنتُ عاجزًا عن النظر إلى لمبة الغرفة مباشرة، ولم يكن استيقاظي لأن جسمي المنهك قد أخذ حاجته من النوم، بل لأن صوتًا تردد في ذهني، يهتف بدهشة: "لقد توقف، توقف"، سألتُ نفسي بدهشة مماثلة: "ما هذا الذي توقف، لا يمكن أن يكون قلبي! فأنا أسمع جيدًا، بل وأقدر على الرد"! أم أن الأمر كما كان في غرفة العمليات حين سمعتُ الطبيب ورددتُ عليه، أو ظننتُ أنني رددتُ عليه، وأنا لا أتنفس؟!
ويا للسعادة التي شعرتُ بها حينما خطر لي أن قلبي قد توقف، فهذا كان يعني لي احتمال حصول لقاء ثانٍ مع والدتي... في العالم الآخر! شعرتُ؛ آنذاك؛ بأنني قد امتلكتُ العالم كله!
تابعوا معنا

رد مع اقتباس

المفضلات