الحلقة السابعة عشرة

شعرتُ بالحيرة الشديدة، وأنا أترقب تلك البشارة العجيبة التي تحملها الممرضة، ووجدتُ ذهني عاجزًا عن التفكير بأي احتمال ممكن أو حتى غير ممكن...
ثم نطقت الممرضة أخيرًا بتلك (الجوهرة) قائلة: "لا تخف
، ما يحصل معك طبيعي، صحيح أنه لا يحصل، لكن هذا لا يعني أنه لا يحصل، مع أنه لا يحصل عادة، لكنه ليس غير طبيعي، بل هو طبيعي"!

هل هذه بشارة تستحق الحماسة والابتسامة؟! أم أن هذه البشارة كانت درس فلسفة رائعًا حقيقة منها؟ لكني لم أكن قادرًا؛ للأسف؛ على الاستمتاع به، بل سألتُها أن تعطيني منوِّمًا حتى أستطيع النوم للخلاص من الإرهاق العنيف هذا، ولكم بدَتْ مذعورة أمام هذا الطلب!
لقد ردَّت برعب: "لا أستطيع إعطاءك منوِّمًا، لأنك إن أخذتَه قد لا تفيق بعدها"، ثم تداركتْ الممرضة الأمر وانتبهت إلى نفسها، فأسرعت تقول: "أنت لا تعلم لماذا لا أستطيع إعطاءك المنوِّم"! وأسرعت تغادر الغرفة، ولو أننا في رواية تقليدية لرأينا الممرضة تجلس على مقعدها وتبكي، فتسألها رفيقتها عن السبب، فتقول لها: "إنه يريد منوِّمًا، لكنه لا يعلم لم لا أستطيع إعطاءه إياه، إنه لا يعلم أنه إن أخذ المنوِّم فسينام إلى الأبد"...
وبما أننا لسنا في رواية تقليدية، بل رواية هزلية اكتسب صبغة الواقع بغرابة شديدة، فإنني حاولت أن أحلَّ غموض اللغز (العويص) الذي تركتْه لي هذه الممرضة العبقرية، كيف إن أخذتُ المنوِّم قد لا أفيق، وكيف لا أعلم لماذا لا تستطيع إعطائي المنوِّم؟! يبدو أنه يجب أن ننشر هذا اللغز في مجلة طالبين آراء القراء، لعل فيها ما يشفي نار فضولنا إلى معرفة الحقائق!
فيما بعد علمت أنهم كانوا يجهزون سيارة الإسعاف لنقلي إلى مستشفى آخر، لأنهم لا يملكون أية تجهيزات للتعامل مع حالات الغيبوبة، وكانوا ينتظرون الدفق الدموي القادم لأقع أنا في غيبوبة دائمة، أو أذهب إلى ثلاجة المستشفى، هكذا ببساطة!
لكن الدفق الدموي توقف، والإغماءة لم أعد أمرُّ بها، بل وطلبتُ الدخول إلى الحمام (كونهم هددوني بوضع قسطرة بولية وقالوا إنها كفيلة بإخراج الروح معها)، وإذ هممتُ بالنهوض، طلب إليَّ الشاب الذي نذر نفسه لخدمتي ألا أقوم مرَّة واحدة لأني خارج من عملية وتخدير، بل يجب أن أجلس أولًا بعض الوقت، للتأكُّد أنني لن أشعر بأي دوار، ثم حينما أقف أفعل ذلك تدريجيًا متمسكًا بحامل المصل مثلًا، قبل أن أمشي، للتأكد كذلك من أنني لن أشعر بأي دوار، وإلا فأنا معرض إلى السقوط أرضًا (وأين كنتَ يا عزيزي قبل أن أقع مرتين بسبب أن أحدًا لم يخبرني بذلك؟ وأين كنتَ قبل أن تتمزق يدي من الإبر فيها قبل أن تكتشف غباءهم في إغلاق المصل)؟ وإذ حان الليل، أشرتُ إلى أختيَّ بالانصراف (أدركتُ الوقت من كلام هذا الشاب)، فسألَتْه إحداهما: "هل تطمئننا إلى وضع أخي قبل أن ننصرف"؟ فكان ردُّه: "الأفضل بقاؤكما، أو بقاء إحداكما، لنتعاون إن حصل شيء"!! الأمر الذي أغاظني فعلًا، لأني أرى من حق أختي أن تنام في بيتها وتهتم بزوجها وأولادها، ثم إنني تعودت أن أكون وحيدًا، أعتني بنفسي، في عمليتين سابقتين لي، والأدهى من ذلك، كيف ستعاون أختي طاقم التمريض المتهالك هذا؟ إن كانوا هم أنفسهم لا يعرفون ماذا يفعلون فهل ستعرف هي؟
(فيما بعد علمتُ أن طلبه هذا بسبب تدني نسبة الهيموغلوبين في دمي حتى أدنى من معدلاتها الطبيعية، وخوفهم من الدفق الدموي القادم الذي سيوقعني في الغيبوبة، وهم حتى ليسوا مجهزين في مستشفاهم للتعامل مع حالات الاحتياج إلى نقل الدم، توقعوا أنني سأدخل الغيبوبة التامة وأحتاج دمًا، وربما بلاكات دم، ولا بد من وجود أحد من عائلتي ليحاول تولي هذا الأمر، فعلًا مستشفى رائعة بتجهيزاتها المدهشة وخبرات ممرضيها الرائعة، واهتمامهم بما ينفع المريض، حتى أنهم يساعدون في ضرره بأية وسيلة كانت).
بعد مرور فترة طويلة على الدفق الدموي الأخير، استعدتُ إحساسي بما حولي، وعدتُ أرى الألوان بوضوح، وأذكر بأن الطبيب مرَّ هنا ليقول لي إنه كان مقررًا نزع الفتيل يوم السبت (كنا يوم الخميس)، لكنه سيؤجل ذلك إلى الثلاثاء، وخرج من دون أن يفحص فمي كعادته، وكانت معاناة شديدة مع الأرق والعرق، وإحساسي بأن عظَمَة أنفي تغلي مع احتقان الغرفة كلها من الحرِّ لتعطل المكيف مرَّة أخرى، وعدم استجابته حتى لمحاولة التلاعب به، لم أستطع النوم بسهولة، وحتى وقت متأخر من الليل، حين غادرت إحدى الأختين بعد وصول زوجها لترجع معه، وظللتُ أتقلب فترة طويلة، حتى استسلم جسمي المتهالك أخيرًا، ونمتُ نومًا عميقًا، ربَّما لم يطل سوى ساعات قليلة، لكني استيقظتُ منه شاعرًا ببعض الحيوية والنشاط أخيرًا، وأتتْ إحدى الممرضات لتقول لي، بابتسامة عريضة: "يمكنك أن تبقى معنا اليوم بأكمله، وتخرج غدًا، ابقَ معنا لنعتني بك"!
(أعوذ بالله من الشيطان الرجيم! بقائي معكم قد يعني هلاكي يا عزيزتي، بعد ما رأيته من إبداعاتكم الطبية المدهشة، أفضل أن أرجع بيتي ولا تعتنوا بي، على الأقل سأموت هناك ميتة طبيعية، أما بقائي هنا فأخشى إن متُّ أن أدخل في سجل المنتحرين)!
ومع رفضي هذا البقاء، والذي فيه المصلحة المادية للمستشفى قبل أن يكون إنسانيًا بهدف الاعتناء بي، خرجت الممرضة من الغرفة، لتكلم الإدارة كي تفتح لي ملف الخروج، ونرى كم تكلفة الحساب علينا، ودخلت زميلتها قائلة إن الطبيب قد وقَّع فعلًا، من يوم أمس، على خروجي اليوم، وأستطيع الخروج متى أشاء، قبل الثانية عشرة ظهرًا (وبالتالي بقائي يومًا إضافيًا قد يكلفني مليون ليرة إضافية فوق أجرة العملية، فيا للاعتناء النادر الذي يعرضونه عليَّ)، أخبرتُها بأني لا أستطيع الخروج قبل إنهاء الملف، وذلك كي أدفع ما يتوجب عليَّ، فقالت إن الملف كله لن يستغرق ربع ساعة، وهنا دخلَتِ الممرضة الأولى حاملة صينية الأكل، بل صينية الشرب، كوبًا من الحليب البارد (وهذا لن أقربه، سواء أكان باردًا أم ساخنًا)، وفنجانًا صغيرًا من عصير الجزر، تمكنتُ من شرب قليل منه، رغم حاجتي إلى الشرب، لكني أحسستُ بالعصير يتجمد في حلقي مع الدم المتجمد هناك.
وعاد مسلسل الإهمال مجددًا، إذ خرجَتْ أختي لإحضار الوصفة الطبية التي تركها لي الطبيب، كما أخبرَتها الممرضة، وقرأتْ فيها أن عليَّ استخدام دهن ما ثلاث مرات يوميًا، وقالت الممرضة التي كانت في الغرفة إن هذا الدهن يتمُّ داخل الأنف، وبالتالي علينا نزع الضماد والدهن ثم إعادة الضماد، وإن الطبيب قال ذلك، الأمر الذي لم تقتنع به أختي، فسألتِ الممرضة الثانية لاحقًا عن ذلك، لتقول لها إن هذا الدهن لعَظَمة الأنف، ويتمُّ ثلاث مرَّات يوميًا، وقد أخبرها الطبيب بذلك، واحترْنا من نصدق، أنا وأختي وأبي الذي كان قد وصل منذ ساعة تقريبًا (وصل بعد إخبارهم لنا بأن إنهاء ملفي لن يستغرق ربع ساعة، بحوالي نصف ساعة)، وما زالت هذه الربع ساعة لم تنتهِ بعد، ثم كانت البشارة الرائعة من إحدى الممرضات بأن الملف قد انتهى، ونزل والدي ليدفع، وليفاجأ بأن الملف لم يصل بعد، وأنه ما زال قيد الغرف المختلفة، و"من قال إنه قد انتهى أصلًا"؟ والله المستعان على هذا الكذب الذي يسري في نفوس هذا الطاقم المتهالك، أو لعلها محاولة الظهور بمظهر من يعلم كل شيء، وبالتالي يؤلفون المعلومات ويخبرونك بها!
وإذ دخلتْ إحدى الممرضتين بعد ذلك، لانتزاع إبرة المصل، أدركتُ بأن الملف قد انتهى فعلًا، عاد والدي ينزل ليدفع، وليقترب بالسيارة التي أوقفها بعيدًا، إذ لم يجد مكانًا بقرب المستشفى (هذه المستشفى ليس لها موقف خاص بالزوار)، أسعدني أنني استطعتُ الوقوف بمفردي من دون أن يختلَّ توازني أو أفقد وعيي، وتحرَّكتُ لأغادر، لولا أن الطبيب اقتحم الغرفة بغتة، اقتحمها راكضًا وهو يلهث بعنف شديد، ويقول لي بصوت متقطع: "إياك أن تخرج، قبل أن... قبل أن... العملية"!
واقشعرَّ بدني بأكمله مع هذه الكلمات... أأنا محتاج إلى عملية أخرى؟!
يبدو بأن عليَّ تسجيل وصيتي الأخيرة، لأن القبر قد بات على قيد خطوة واحدة!

تابعوا معنا