العباقرة _ الجزء الثاني
وما زال العباقرة يتسللون إلى حياتنا ليزيدوها روعة وجمالًا، وكل العبقريات قد نستطيع أن نغفرها ونتناساها إلا عبقرية الأطباء التي يتحفنا بها بعض هؤلاء، ومن ذلك طبيب قرر؛ بغتة؛ أن يعطي كل مرضاه أدوية أعصاب، بغض النظر عن مضمون مرضهم، وذلك لأصحاب المرض الحقيقي منهم، أما من يَشُكُّ هو أنه ليس مريضًا فإنه يعطيه بعض الفيتامينات ويخبر أهله بأن ابنهم يتوهم نفسه مريضًا، وهذه براعة طبية لا شكَّ فيها، لولا أن إحدى تلك الحالات، وهي لصديق عزيز، تم نقلها إلى المستشفى ليتبين أنه يعاني التهابات حادة في الأمعاء، ما يدلنا على عبقرية هذا الطبيب النادرة، إلا إن كان التهاب الأمعاء من أعراض (توهم المرض)!
ولا أدري أيها الأخف وطأة وأيها الأشد في عبقرياته، إذ أتاه شخص يعاني حساسية حادة، فوصف له دواء للأعصاب، وكان ذلك في رمضان، واضطر الأخ إلى تناول حبة من الدواء قبيل العشاء، وإذ شعر بأنه يكاد يغفو قرر أن يأخذ حمامًا لعل جسمه ينشط، فكانت النتيجة أنه انهار أرضًا لا يعي على شيء في الدنيا كلها، وكان ذلك ليلة الخميس، وإذ أفاق بعد ذلك فوجئ بصوت الخطيب ينبعث من المسجد، بخطبة الجمعة! ولا أعرف لماذا لم يقدر هذا الشاب عبقرية الطبيب، بل انطلق إلى عيادته يسب ويلعن ويولول فوق رأس الأخير!
ولكن، لعل هذا الموقف كان خيرًا، لأنه حمل إلينا من عبقريات الطبيب بريقًا جديدًا، فالطبيب أخبر المريض ببرودة أعصاب نادرة، إن الدواء يجعله ينام قليلًا، أو كثيرًا، بحسب إرهاق جسمه وما بذله من جهد سابقًا، وهل انكسر عليه نوم أم لا! والحمد لله أن المريض لم يأخذ بخناق الطبيب، ولكنه _ أصلحه الله _ أخذ يلقي بأسئلة سخيفة، على غرار: "ماذا لو أخذت حبة الدواء وأنا أهمُّ بالاستحمام؟ هل كنت سأفقد وعيي حتى أغرق في بانيو الحمام؟ بل ماذا لو أخذتها مع الماء قبل أن نصلي المغرب في المسجد؟ هل كنت سأنهار أرضًا حتى يظن المصلون أنني قد قضيت نحبي؟ بل ماذا لو كنت أفطر خارج بيتي وأخذتها مع الإفطار، هل كنت سأنهار في المطعم أرضًا حتى يظن الناس أن طعام المطعم مسموم"؟
بالفعل هذه اعتراضات لا محل لها من الإعراب، وقد كان عليه أن يقدر العبقريات الفذة النادرة عند هذا الطبيب، تلك العبقريات الطبية التي لا تتوقف عند حد، ومنها؛ مثالًا لا حصرًا؛ عبقرية حدثوني عنها مرة، عن رجل ابتُلِي بانفلات الريح، فزار طبيب صحة عامة يشرح له وضعه، فأخبره الأخير بأن عليه أن يتوضأ في وقت كل صلاة ويصلي ما شاء، حتى يؤذن المؤذن لوقت الصلاة الثاني، فيتوضأ ويصلي ما يشاء، حتى يؤذن... وقاطع المريض طبيبه العبقري، لأن إمام المسجد أخبره بهذه المعلومات، فسأله الطبيب مستنكرًا عن سبب قدومه إليه إذًا! يا للعبقرية! وبكل الأحوال تجلت العبقرية أروع وأجمل بأن الطبيب لم يصف أي علاج للمريض، وطلب إليه أن يدفع ثمن المعاينة الطبية عند سكرتيرته!
ولا تتوقف العبقرية؛ كما نرى؛ عند مجال واحد، فذات يوم دخلت دكان رفيق لي، وإذ بأحد الشباب المتزوجين حديثًا يحكي لصغار السن من الشباب، كيف أنه سعيد بزواجه، وإذ يطلب من امرأته كباية شاي فإنها تحضرها له، وقبل أن ينهيها يطلب إليها فنجان قهوة، فتسرع لإعداده، وقبل أن يستمتع بكل الرشفات، يطلب إليها أن تأتيه بكوب كبير من النسكافيه، فتسرع لإحضاره، ما دفعنا إلى سؤاله هل يظن نفسه مصرف المياه في المجلى مثلًا؟! ليتحمس الأخ أكثر وأكثر ويخبرنا بأنه يطلب من امرأته أن يراها بلباس أحمر فتفعل، ويطلب إليها أن يراها، بعد ذلك بثلاث دقائق؛ بلباس أزرق فتفعل، ويطلب إليها أن يراها؛ بعد ذلك بدقيقة ونصف؛ بلباس بنفسجي فتفعل!
(يبدو أننا أمام قوس قزح جديد، مثل ما كان لدينا في الجزء الأول من مسلسل العباقرة، بل إن امرأة هذا الأخ تتحرك بسرعة ضوئية، تتجاوز فيها البعد الزماني المعهود)!
وليت عبقرية هذا الأخ الرائع توقفت هنا، بل إنه تابع إلى أمور أخرى، ولم يفهم أنه لا يجب أن يتكلم عن خصوصيات بيته وما يقوله لامرأته وما تقول له، إذ إن عبقريته الفذة جعلته لا يستمع إلى مثل اعتراضاتنا التافهة هذه... ولكنه نال جزاءه فيما بعد، فقد دارت الأيام والأشهر، وبدأت المدارس وأتت أيام الشتاء، ثم رأيناه مصادفة يمشي وكأنه يكاد يقع أرضًا، يفتح فمه بالتثاؤب عن آخره، وإذ سأله أحدنا ساخرًا عن سعادته بالزواج، لأن امرأته تحضر له الشاي والقهوة والنسكافـيه، انفجر صارخًا بتوكيد عجيب: (يلعن أبو النسوان)!!
وذلك لأن امرأته حبلت، وفاجأته بأنها تعاني الوحام، وليت الوحام كان على شيء واحد، أو في النهار على الأقل، بل إنه وحام لا يأتي إلا الثانية ليلًا، وكل ليلة على طلب مختلف! فلم يعد رفيقنا هذا يشعر بطعم النوم، ولا أعلم صراحة هل وحام امرأته عبقري إلى هذا الحد ليقتص من الأخ، أم أنها هي نفسها عبقرية حقيقية تمكنت من الثأر لنفسها بهذا الأسلوب؟
والعباقرة أصناف وأنواع، لا يختص بهم فرع معين من فروع البشر وتوجهاتهم، بل إن العبقرية قد تدفع بصاحبها إلى الشعور بالامتنان لشخص لم يره في حياته قط!
ولا تستغربوا ما أقول، فلقد عشتُ هذا فعليًا، عام 2006، آنذاك كنتُ في مراقبة الشهادات الرسمية في إحدى المناطق البعيدة، وإذ بشخص يجري نحوي متحمسًا، يشكر الله تعالى لأنه رآني مرة أخرى، لِيَرُدَّ لي فضلي السابق عليه!
أما كيف يكون لي فضل عليك يا هذا، وأنا لم ألتقِ بحضرتك إطلاقًا، فهذا الأمر لا يمكن أن يحصل إلا في ظل العبقريات التي لا أستطيع فهمها واستيعابها، وهكذا وجدت الأخ يعانقني ويبتدئ بالتقبيل، ويكاد يبكي! وعبثًا حاولت أن أقنع نفسي؛ إزاء هذه المشاعر؛ أنني أعرفه، ولكن الأخ ذكر لي اسمه ومنطقته، وكلاهما لم أسمع به في حياتي كذلك، ما زاد من شعوري؛ بل من تأكيدي؛ بأنني لا أعرفه، ولكنه كان مصرًا على أنه يعرفني!
لم يكن هذا من برامج الكاميرا الخفية قطعًا، فلقد جمعنا صف واحد في المراقبة، وأصرَّ هو على أن أجلس أنا وأمدَّ ساقيَّ ليقوم بكل العمل وحده، وذلك لِيَرُدَّ فضلي السابق عليه! ولم يسمح لي ضميري بأن أوافقه في هذا، وحتى انتهاء المراقبة كنتُ ما أزال أظن أنني أمام مزحة لا أدري سببها، ولكن المصيبة الحقيقية أن الأخ لم يتركني أغادر قبل أن أنطلق معه إلى أقرب مطعم، وما كدنا ندخل حتى هتف بالعامل في المطعم متسائلًا: هل عندكم شيش طاووق؟
أجاب العامل بالإيجاب، فتابع الرجل الذي يعرفني ولا أعرفه، طالبًا سندويشتين كبيرتين من الفلافل، فقلتُ له ساخرًا: وهل تحبها فلافل بقر أم فلافل غنم؟ لأفاجأ بسؤال حائر غبي... أقصد عبقري من حضرته، إن كان هناك حقًا فلافل من البقر وأخرى من الغنم! تجاهلتُ هذا السؤال لأن (ذكائي) لم يتطور بعد إلى مستوى (عبقريته)، وسألته عن سبب سؤاله عن الشيش طاووق، ثم طلبه الفلافل، فأجاب بأن الفلافل فاتح الشهية (فقط)، وهكذا فوجئت بسندويش فلافل، يكاد ينفجر لما فيه من المحتويات، في يدي، وزجاجة بيبسي بجواره، أنهيتهما بصعوبة، لأفاجأ بسندويش هائل الحجم من الشيش طاووق، وزجاجة بيبسي بجواره، أنهيتهما وأنا أشعر بأن وزني قد ازداد فعليًا، وإذ بالأخ يطلب سندويشتين أخريتين من الفلافل، وذلك كي (نغير طعمة فمنا)! ولكني رفضتُ ذلك الهراء بادئ الأمر، فما كان منه إلا أن انطلق يؤكد لي أنه يريد أن يحاول أن يرد فضلي السابق عليه، وهكذا تناولت السندويش الثالث وزجاجة البيبسي الثالثة على حساب الأخ، وأنا لا أعرف، ولم أعرف بعدها، ما هو فضلي عليه!
ونرجع إلى المنامات، لا لتفسيرها ومن يسأل عن ذلك، ولكنني كنت ذات مرة في مشوار مع أحد أقربائنا الأبعدين نسبيًا، ونزل قليلًا عند أقربائه هو، وهذا الأمر رأيته يدخل في باب العبقريات الحقيقية، أن يأتي بي إلى دار لا أعرف أحدًا بها، ولا أحد بها يعرفني، ما لم يبرز لي منها عبقري آخر يريد أن يرد فضلي عليه هو الآخر، وأظن أن هذا أمر مستحيل... جلستُ بمفردي لا أشارك في أي حديث مما يدور حولي، وكل الناس غرباء عني، ولا أعلم حتى ما محتوى أحاديثهم هذه، ومن هو (عبد الستار، الله يستره شو رح نعمل فيه) أو (الدب فلان الفلاني الذي سنجعله يشرب من زيت السيارة الذي وضعه لنا)، لكني شعرتُ بالتأثر، لأن هذا الرجل الذي كنتُ معه عبقري ندر مثيله، حتى ينزل بي عند هؤلاء القوم.
ثم أدركتُ أنني ظلمتُه فعلًا، فعبقريته كانت ضئيلة إزاء امرأة لم تستطع رؤية أحد يجلس وحيدًا، فأخذت تسألني كأنني جالس في مخفر الدرك، تريد معرفة كل بياناتي وتاريخ حياتي، وحياة أقربائي جميعًا، مع أنها لا تعرفهم، ولا أنا نفسي أعرف كثيرًا مما تسألني عنه، وأجبت باقتضاب جاف، لعلها تسكت، لكنها لم تيأس بل حولت الموضوع لتسألني عن تفسير المنامات إن كنت (أؤمن) به، ولا أعلم فعلًا هل هذا أمر (نؤمن به) أو لا (نؤمن به)؟ أخبرتها بأن المنامات حق، وتفسير المنامات له أهله، ولم أخبرها عن معرفتي البسيطة بهذا العلم، إذ ظننتها تريد من يفسر لها كل المنامات التي رأتها من طفولتها حتى الآن! ولكنني كنت مخطئًا في هذا التقدير، وألتمس لنفسي العذر في ذلك، فعقلي البسيط اللين الهين لا يصل إلى مستوى العبقريات المدهشة، فمع جوابي انتفضت الأخت لتصرخ معلنة أن تفسير المنامات كذب ودجل، لأنه يخبر عن أمور ستحصل في المستقبل، ولا أحد يعلم الغيب إلا الله تعالى!
طبعًا كان كلامها خلطًا بين ادعاء علم الغيب وبين معرفة التأويل، والنبي يوسف فسَّر لصاحبيه في السجن، وقبل ذلك والده النبي يعقوب فسَّر له منامه حين كان صغيرًا، وأحد الصحابة رأى منامًا ففسَّره له آخر، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم أصبتَ في بعض وأخطأتَ في بعض... ولكن كل ذلك لم يقنع المرأة، بل ظلت تردد أن هذا دجل وكذب، وكادت تدخل المفسرين إلى جهنم لشدة انفعالها، ولكن عبقريتها لم تنتهِ هنا، أعوذ بالله! فالأخت سألتني عن رأيي بـ(المكاشفون)، هكذا تنطقها بالواو دائمًا، أخبرتها بأنني لم أسمع بهم في حياتي كلها، فانبرت تشرح لي بحماسة شديدة أنهم هم الذين كشف الله لهم وجه الغيب! وأنت اسألهم فقط عما سيحصل لك في المستقبل وسيخبرونك، ما دفعني إلى أن أسألها متهكمًا عن المكاشفين هؤلاء، أو (المكاشفون) كما تنطقها هي، أليسوا بأدعياء علم الغيب، أم أن مفسري المنامات وحدهم كذلك؟!
وكان أن نظرت إليَّ هذه المرأة نظرات الإشفاق، وأخذت تتمتم بكلمات لم أفهمها قبل أن تنصرف مسرعة، وكأن صاعقة من السماء ستنزل عليَّ لتحرقني!
وما زلنا في حديثنا عن العباقرة
فتابعوا معنا الجزء الثالث بإذن الله تعالى.
الأستاذ عمر قزيحة
30/10/2017
الساعة: 7:22 ليلًا

رد مع اقتباس

المفضلات