عودة ما بعد الختام 2بَدَت لي الإبرة سيفًا رهيبًا يتجه نحو ذراعي ليخترقها بلا رحمة، فوثبتُ من على الكرسي صارخًا في وجه الممرضة مباشرة: (إياكِ)!
وأجفلتِ المسكينة مع هذه الحركة المباغتة، وتراجعت إلى الخلف فكادت تنقلب لضيق المساحة، ثم نظرت إليَّ بدهشة تختلط باللوم، ولكني لم أكن في وضعية تسمح لي بالمجاملات، فقلتُ لها بجفاف: (لا تغرسي الإبرة في يدي! حللي الدم ولكن من دون الإبرة)!
ابتسمت الممرضة، قائلة: (لم أجد من يخاف مثلك، حتى الأطفال)!
لم يزعجني هذا الكلام، فالإبرة فوبيا حياتي، بل ظللتُ أنظر إليها متوترًا، بانتظار الخطوة التالية، وهل أقدم على هذه (المغامرة) الرهيبة التي تحمل اسم (الإبرة)، أم أفِرَّ بروحي بعيدًا، وأبقى في معاناة التنفس والاحتقان الدائمين؟!
ولكن الممرضة؛ جزاها الله خيرًا؛ كان لديها الحل فيما يبدو، إذ همَّتْ بقول شيء ما، ولكني سبقتها هاتفًا بأمل وتفاؤل: (لحظة، لقد قرأتُ على باب المختبر بسرعة عن تقنية غاز معين، يتم استخدامه للذين يخافون الإبــــ...)
وهوى الأمل في أعماقي، وهي تقاطعني لتخبرني بأن هذه التقنية لا تُستَخدم إلا في وجود طبيب مختص، والطبيب هذا لن يأتي اليوم، ويجب إجراء التحاليل وانتظار طبيب القلب والضغط والبنج، وإلا فلن أستطيع إجراء العملية في الغد...
كدتُ أنصرف هنا، ولكنها؛ جزاها الله خيرًا؛ استوقفتني، لتخبرني بأن لديها الحل بالفعل، ولم تتردد في استخدام مخدر موضعي، وضعَتْ لي منه على ذراعي، وطلبَتْ مني أن أنتظر ربع ساعة حتى يعطي مفعوله، وقد كان ذلك بالفعل، ولا أعلم هل هو مخدر موضعي فعلًا، أم أنها استخدمت معي تقنية الدواء الوهمية: (بلاسبو: Placebo)، ولم تضع سوى بعض السبيرتو فحسب، ولكني أعرف أنني كنت خائفًا، إذ أسلمها يدي مرة أخرى، وطلبتُ إليها أن تترفق بي قدر المستطاع، وإذ حملت الإبرة ورفعتها، سألتُها بخوف شديد: (كم)؟
الممرضة: (كم)؟ (كم ماذا)؟
أنا (أرتعد رعبًا): (كم... من الوقت... حتـ...)؟
هي (مقاطعة، وبحماسة): (سنة ونصف)!
نظرتُ إليها غير مصدق هذا الهراء! هل يُعقل أن يستغرق سحب الدم سنة ونصف السنة؟!
ولم أحتفظ لنفسي بهذا الاعتراض، بل هتفتُ به بوجهها، فصاحت في استنكار شديد:
(سحب الدم؟ ظننتُك تسألني كم لي هنا في هذا المختبر، فأجبتك أن لي سنة ونصف السنة...آي)!!
هذه ال(آي) كانت مني، فالإبرة اخترقت يدي في هذه اللحظة، مثل الصاعقة الكهربائية، وظلت يدي ترتجف بعض الوقت، حتى بعد سحب الإبرة، وأشهد؛ رغم ذلك؛ أن العملية كانت هينة، والممرضة بارعة في عملها، لكني لم أجرؤ على سؤالها، هل وضعَتِ المخدر الموضعي فعلًا أم أنني لم أشعر بكثير من الألم لبراعتها؟
اتجهتُ إلى الطابق الثاني، لتتابع الممرضة المسؤولة هناك تسجيل البيانات اللازمة، ومن ضمنها الأسئلة المستفزة الآتية: (هل لديك مرض في الضغط؟ هل معك سكري؟ هل معك غُدَّة)؟
وهذه الأسئلة مستفزة لأنك تسمعها مرات عديدة، وكل شخص في المستشفى سيسألك عنها، واتجهتُ بعدها لأخذ صورة شعاعية للصدر، ولكن الاستفزاز كان في الانتظار ساعتين أو أكثر، حتى يحين دوري بعدها مع طبيبة القلب لإجراء الإيكو اللازم، ثم الانتظار ساعة أخرى، حتى يرانا طبيب القلب المختص (ولا أعلم لماذا يقوم بالإيكو شخص، ويخبرك بنتائجه شخص آخر، هل ليحققوا للمرضى مزيدًا من الانتظار)؟!
واستقبلني الأخير هاتفًا: (هل لديك مرض في الضغط؟ هل معك سكري؟ هل معك غُدَّة)؟
أجبتُه، كما أجبتُ الممرضة السابقة، وتواليًا على الترتيب: (لا، لا أظن، لا وفق علمي)!
فسألني مبتسمًا: (وماذا أفعل بكلمة "وفق علمي" هذه؟ أريد أدلـة وبراهين)!
أجبتُه ساخرًا، متظاهرًا بالجدية: (نعم، هذا حقك محقق كـ... أقصد هذا حقك يا دكتور، ولكن انظر في شاشة الكومبيوتر أمامك، تجد الإجابة)!
نظر إليَّ لا يدري هل أتكلم جادًا أم لا، فتابعتُ بتهكم واضح كل الوضوح: (أعرف أن كل البيانات يتم وضعها في ملفي على الكومبيوتر لديكم، وأنت الآن ترى ملفي حتمًا، وإلا ما استدعيتني، فماذا ترى لديك وفق نتائج التحليل المخبري)؟!
لم يُحِر الطبيب إجابة ما هنا، بل حمل جهاز قياس الضغط، وهو يخبرني بأن تخطيط القلب سليم تمامًا تقريبًا (لم أستطع الموازنة بين "تمامًا" و"تقريبًا"، ولكن لا بأس)وإذ انتهى الطبيب من قياس الضغط أخبرني بأن الضغط جيد ولا بأس به (مرة أخرى لم أستطع الموازنة بين "جيد" و"لا بأس"، ولكن لا بأس)!!
![]()
وقفتُ هنا لأنصرف، وأنا أسأله شاعرًا ببعض الراحة: (هل انتهينا)؟
أجابني مستنكرًا: (لا، بقي أن يراك طبيب البنج)!
شعرتُ فعلًا ببعض الغيظ، للانتظار كل هذه الساعات الطوال، وأنا لم أنتهِ بعد، وهممتُ بالاستدارة لأفتح الباب وأخرج...
ولكن... آآآآآآخخخخخ!! ضربة كالقذيفة في أسفل ظهري كادت تشقه نصفين، ووجدتُ نفسي أندفع إلى الأمام، وأكاد أسقط أرضًا، وبعنف...
ترى، ما الذي حصل؟ هزة أرضية، أم زلزال؟!!
تابعوا معنا

رد مع اقتباس

المفضلات