حكاية اللوح والطبشور والتابوت! بقلمي: عمر قزيحة

[ منتدى قلم الأعضاء ]


النتائج 1 إلى 20 من 42

مشاهدة المواضيع

  1. #26


    تاريخ التسجيل
    Jul 2017
    المـشـــاركــات
    1,357
    الــــدولــــــــة
    لبنان
    الــجـــــنــــــس
    ذكر
    الـتـــقـــــيـيــم:
    كاتب الموضوع

    افتراضي رد: حكاية اللوح والطبشور والتابوت! بقلمي: عمر قزيحة

    احملها واحضنها... بل واركلها!

    أخذتُ أحدِّق في زميلتي من دون وعي، مستنكرًا كيف أضع فيها (البراد) أو (فرن الغاز)، وكيف يطلب مني الأستاذ أن أحملها وأحضنها، وهل جُنَّ جُنونه أم ماذا؟
    هتفتُ بالأستاذ متسائلًا بدهشة عارمة: (ما... ما هذه)؟ ليجيبني، وقد نفد صبره: (الحقيبة... حقيبة ابن الجيران... حقيبتك)!
    وصاح الأستاذ بعدها بهتافه الشهير: (ما لي أراك بليد الفهم اليوم)؟ لا بأس، فليعتبرني بليد الفهم إن أراد ذلك، ولكنْ، هل حقيبتي _ التي لم أحملها من عامين _ هي التي في بالي وبال الأستاذ، وتسبَّبَت بالمشكلة بيننا؟!

    أردتُ أن أفهمه بأنني آتي بكتبي معي من دون حقيبة، ولكن سامحًا أصرَّ على التدخل؛ كعادته؛ ليتساءل متهكمًا: (ولكن يا أستاذ، طالما حقيبة ابن الجيران هي حقيبة عمر، فهل يعني هذا أن ابن الجيران هو عمر؟ أم أن عمر هو ابن الجيران؟ أم أن ابن الجيران هو ابن الجيران، وعمر هو عمر، ولكنهما شخص واحد؟ أم أنهما شخصان مختلفان، ولكل واحد حقيبة مختلفة، ولكن الحقيبتين حقيبة واحدة؟ أم أنهما...)؟
    صرخ الأستاذ بي هنا، من دون أدنى اهتمام بسامح وأسئلته (المهمة) هذه: (هيا يا عمر، ماذا تنتظر؟ أنا أنتظرها)!

    أجبتُه، من دون مبالاة: (أي حقيبة تقصد)؟ احتقن وجهه حتى خِلْنَا أنه سينفجر، فأضفتُ موضحًا له: (كتبي أحملها بِيَدِي، ليس معي حقيبة).
    كرَّر الأستاذ ببلادة: (أحضر حقيبتك)، فحملتُ كتبي، واتجهتُ بها نحوه، وإذ هممتُ بوضعها على طاولته، خطفها من يدي خطفًا، وأخذ ينقِّب فيها بهمجية كأنه يبحث عن البترول، مردِّدًا بين لحظة وأخرى: (أين هو؟ أين هو؟ لا بد أن يكون هنا! مؤكد أنه هنا)!

    تابعتُ ما يفعل، مفكرًا في المعجزة التي تحمي أوراق كتبي من التمزق بين أصابع الأستاذ، مفِّكرًا بمن يكون (هو) هذا، ولا أستغرب أن يكون يقصد ابن الجيران نفسه! ولكني لم أستطع التفكير باحتمالات أخرى، فقد تجمد عقلي تمامًا مع طلباته السابقة (احملها، احضنها)، والإحراج الذي أوقعني وأوقع زميلتي به، ويبدو أنني قد شردتُ بذهني فترة ما، فلم أنتبه إلا وصديقي محمد يتناول كتبه من الأستاذ، لأفاجأ بأن كتبي قد صارت على الأرض! ببساطة أنهى الأستاذ التفتيش، وقال: (ليأخذها صاحبها)، وحينما لم يستجب له أحد، دفعها بيديه ليلقي بها من طاولته أرضًا!
    لم أعترض على هذا التصرف الهمجي، وقد كان للكتب متسع على طاولة الأستاذ، فقد كان (اللغز) يشغل بالي بِشِدَّة، من يقصد الأستاذ بكلامه؟ فها هو يفتش كتب زميلنا الثالث، متسائلًا: (أين هو؟ أين؟ لا بد أن يكون هنا! مؤكد أنه هنا)!

    والغريب أن الأستاذ لم يكتفِ بتفتيش الحقائب المدرسية للبنات، بل طلب تفتيش حقائبهن اليدوية الصغيرة كذلك، لأنه يريد أن يجد (هو)، ولكنهن رفضن ذلك رفضًا باتًا، غير مباليات بالتهديد بالصفر، ولا بالطرد.
    واستدار الأستاذ؛ بغتة؛ نحو سامح، صارخًا بلهجة مخيفة: (أين هو؟ اعترف)! أجابه سامح، متظاهرًا بالبكاء: (كان في جيبي يا أستاذ، لكنه وقع منها، ولا أعرف أين)!
    سأله الأستاذ، مصعوقًا: (من هذا)؟ لِيَرُدَّ سامح بملل: (ومن هذا الذي تبحث عنه أنت أولًا يا أستاذ)؟ أبشروا يا شباب، أبشروا، لقد حلَّ الأستاذ (اللغز) أخيرًا، بصياحه الغاضب: ("من" هذا؟ هل تظنني أبحث عن ابن آدم حتى تسألني "من" هذا؟! قل "ما" هذا، لأنني أبحث عن "الأرض")!!
    سبحانك يا رب! الخطأ اللغوي يرتكبه الأستاذ، ويعترض على الخطأ نفسه إذا ما وقع به غيره! ثم ما (هذا)، وهو يبحث عن (الأرض)؟ هل تحولت (الأرض) إلى (مذكر)، ونحن لا نعلم بهذا؟ ولكن...!

    ليس هذا هو التساؤل الحقيقي، ولا المسألة المهمة، لتكن الأرض مؤنثًا أو مذكرًا، لا بأس، لكننا أمام لغز جديد، انقطع نظيره فعلًا، كيف يبحث الأستاذ عن (الأرض) بين كتبنا ودفاترنا؟ بل كيف ظن أن (الأرض) موجودة في حقائب البنات اليدوية؟!
    سنفترض، مجرد افتراض من باب حسن النوايا، وإن كانت النوايا الحسنة لا تنفع مع هذا الأستاذ الدولي، أنه كان يقصد (مجسمًا) للكرة الأرضية، فكيف يمكن وضع المجسم هذا، مهما بلغ صغر حجمه بين أوراق الكتب والدفاتر؟!

    ولكم شعرنا بالامتنان لسامح، إذ يصرخ في وجه الأستاذ مستنكرًا: (كيف)؟! لـــ(يتكرم) الأستاذ علينا؛ أخيرًا والحمد لله؛ بِحَلِّ اللغز العويص: (أنا أعلم أنني أعطيتُكم درس "الأرض"، لا بد أنكم مزقتم الورقة، وخبأتموها بين الكتب، لكني لم أجدها، لكن استعدوا للتفتيش في المرة المقبلة، لا بد أنني سأجدها)!
    ولكن لم يحصل ذلك الحصة اللاحقة، بل دخل الأستاذ يريد أن يُجري لنا مسابقة في أول (خمسة دروس) فحسب، ونحن لم نأخذ سوى درس (واحد)! وبعد أن فهم أنه لم يخبرنا بهذا، بل أخبر صفًا آخر، انطلق يعطينا درسًا جديدًا لا علاقة له بالأرض نهائيًا، وحصل لي معه موقف طريف يومها، لقد سألني عن اسمي واسم أبي وأين أخي الآن، وكأنه يراني أول مرة! والأكثر طرافة من ذلك أنني ادعيتُ الغباء، إذ أسأله عن معنى كلمة (الأسهم)، وقد ذكرتُ ذلك في حكاية أخرى (قلم حبر أحمر وفرنك واحد، في الحلقة الرابعة: وعنوانها قصتان).

    ولكن، لنرجع إلى (إبداعات) الأستاذ (العالمية)، فلقد أتانا في الحصة التي بعدها مباشرة، يريد أن يسمِّع لنا درس (الأرض)! والدليل (الدامغ) أنه أعطانا إياه، أنه أخذ يبحث في كتبنا ودفاترنا عنه (أمس)! وأننا كنا (خائفين مرعوبين نتصبب عرقًا من التفتيش)!
    صحيح أن (أمس) هذه حصلت (الأسبوع الماضي)، ولكن لا بأس، سنعتبره أمس، وتكرم عيون الأستاذ! ولقد تكرر البحث (الراقي) في كتبنا ودفاترنا مرة أخرى، ثم توقف الأستاذ عن ذلك، لينظر في زميلة لنا نظرات مباشرة، وعيناه متسعتان عن آخرهما، كأنها أول مرة يرى فيها فتاة في حياته! ثم هتف الأستاذ، بعد أن استعاد القدرة على الكلام: (من... من أنتِ)؟!

    هتف به سامح مقلدًا لهجته تمامًا: (أكيد هذه سندريللا، يبدو أنك وجدتَ حذاءها المفقود)! لتنظر الزميلة إلى سامح في امتعاض لهذا المزاح الجلف، ولكنها لم تعاتبه بشيء، ولا نعلم إن كانت تنوي معاتبته أم لا، فلقد تابع الأستاذ بخبث: (هل نستطيع أن نتعارف)؟!
    احمرَّ وجه زميلتنا إحراجًا، والأستاذ يُكمِل بلهجته نفسها: (أنا اسمي فلان الفلاني، وأنتِ)؟
    ومرة أخرى، لا نعلم هل كانت الزميلة تنوي الرد أم لا، فلقد تغير الموقف كليًا، هكذا فجأة، مع صراخ الأستاذ المباغت في وجهها: (تفو عليكِ... قولي آمين)!

    يبدو أن الأستاذ واثق بنفسه كثيرًا! هل يظن فعلًا أن الزميلة ستقول (آمين) لهذا الكلام المؤذي بحقها، والحمد لله أنها خرجت من حالة الصمت التي مرَّت بها، لتصرخ بدورها في وجه الأستاذ: (لا أسمح لك)، من دون أن يؤثر صراخها في المذكور، إذ تابع مستطردًا بغضب: (الآن، الآن تأتين إلى المدرسة؟ ألا تستحين على دمكِ)؟!
    أخذنا؛ هنا؛ ننظر جميعًا إلى الأستاذ بدهشة تامة، زميلتنا هذه التحقت بالثانوية من اليوم الأول، ولم تتغيَّب يومًا واحدًا، بل لم تتأخر ولا مرة، ولنفترض أنها تغيبت وتأخرت، اليوم نحن في الحصة الخامسة لا الأولى، فكيف يصح أن زميلتنا قد أتت (الآن) إلى المدرسة؟! هل خَرِفنا جميعًا لنظن أنها معنا في الصف من الصباح، بينما هي قد أتت الآن؟!

    حاولنا أن نُفْهِم الأستاذ هذه المعلومات، لكنه لم يفهم، بل سألها عن اسمها، وإذ أخبرته به، هتف بنا إنه لم يسمع باسمها في حياته من قبل، وهذا دليل أنها أتت الآن إلى المدرسة، أما كيف رأى اسمها مسجلًا في دفتره، وبجواره علامتها في التسميع، وهي قد أتت (الآن) فهذا الأمر لم يعرفه أحد فينا على الإطلاق!
    قرر الأستاذ أن يحوِّل الحصة إلى حصة (ذكاء)! وطبعًا هذا حقه بعد ما أبداه لنا من العبقرية الفذة، وبالتالي هو متواضع لأنه سيحول الحصة إلى حصة (ذكاء) لا إلى حصة (دهاء)!
    وألقى علينا بسؤال ما، لم أعد أذكره حقيقة، ولكن كل أسئلته؛ مما أدركناه هذه الحصة وحصص لاحقة؛ على غرار: (لماذا نرى بخار الماء حينما نغلي الماء في الإبريق، ولا نرى بخار الماء المتصاعد من البحر؟ لماذا تمطر السماء حينما تكون الغيوم سوداء، ولا تمطر حينما تكون بيضاء)؟ وطبعًا هو يتكلم ببعض الكلمات بالعامية وببعضها الآخر بالفصحى في سؤاله، ويرفض كل الإجابات التي يسمعها منا، ثم يطلب من أحدنا أن يعيد إجابته، ويهتف به مجددًا أنه (مخطئ)، ليكرر الأستاذ الإجابة من خلفه، دامجًا بين العامية والفصحى، وإذا اعترض التلميذ بأن إجابته صحيحة، والأستاذ يعيدها نفسها، يصرخ به الأستاذ بأنه أحمق، لأنه قال كذا وكذا (يعيدها كلها بالعامية)، بينما هي كذا وكذا (وينطقها باللغة الهجينة، كلمات بالعامية وأخرى بالفصحى)!

    لنرجع إلى موضوع هذه الحصة، كل ما يسمع الأستاذ إجابة يرفضها، حتى حان دوري، فأجبتُ إجابة أتوقع أنها صحيحة، ليهتف بي الأستاذ متحمسًا: (أحسنت! أنت لم تسجل الهدف)!
    نظرتُ يمينًا وشمالًا، باحثًا عن (المرمى) في الصف، وكيف يتم (تسجيل الأهداف) من خلال الإجابة عن السؤال، فلم أستطع معرفة ذلك، خانني ذكائي وواقعيتي وخيالي تمامًا!
    (طبعًا الأستاذ قالها "كول" كما ننطقها، لا بالفصحى، وإلا لظننتُه يتحدث عن "الهدف" من السؤال مثلًا).
    وإذ أجاب رفيقنا محمد عن السؤال، هتف به الأستاذ متحمسًا: (لقد اقتربت كثيرًا من المرمى، ولكن لولا تمريرة عمر إليك، لما تمكنتَ من ذلك)! فسألتُه هنا: (بما أنني الوحيد الذي اقترب من الهدف، ومرَّر الإجابة الصحيحة لرفيقه، ألا أستحق إضافة علامة لي)؟!

    انتفض الأستاذ صارخًا بغتة بكلمة لم نفهمها، ثم وقف، وجسمه يرتعد غضبًا، وأشار بِيَدِه مباشرة نحو إحدى الزميلات، وهي التي تجلس في المقعد الأخير هذه المرة، صارخًا: (أحضرها معك حالًا، احملها بين ذراعيك، واحضنها جيدًا كي لا تقع منك)!
    لو كنا هذا الأستاذ يدرِّسنا التاريخ، لقلنا إن التاريخ يعيد نفسه! لكنه يدرِّسنا الجغرافيا، وبالتالي يجب اختراع مقولة (الجغرافيا تعيد نفسها) وتسجيلها حصريًا لهذا الأستاذ، والآن، ماذا يقصد؟ حقيبتي؟ أم ماذا؟ حملتُ كتبي، قائلًا بجدية: (تكرم عينك)!

    صرخ الأستاذ مرة أخرى: (ما هذا؟ هل تمزح معي؟ ماذا سأفعل بكتبك؟ أنت تعلم جيدًا من أقصد! انظر إلى أين أشير بِيَدِي، انظر إليها جيدًا، رأسها يبدو مثل كرة القدم)!
    دوَّت ضحكات الشماتة بزميلتنا، ولقد هَبَّتِ الأخيرة صارخة بدورها: (لستُ أسمح لك)! ليصرخ الأستاذ متحمسًا: (ولا أنا أسمح لعمر بذلك)! كأنني أنا من طلب إليه أن يحملها، أو شبَّه رأسها بكرة القدم، لا هو! وقبل أن تهدأ خواطر الزميلة، أشار إليها الأستاذ مرة أخرى، قائلًا بمنتهى الصرامة: (هيا، احملها يا عمر، وتعال بها حالًا، وإلا ستنال صفرًا من الآن، وحتى آخر السنة)!

    نظرتُ إلى تلك الزميلة في رعب صحيح أنني لستُ بصدد أن ألمس يدها حتى، ولكن الطلب؛ بِحَدِّ ذاته؛ كان مستحيلًا فعلًا، فتلك الزميلة كانت ضخمة إلى درجة أنها لو ضَرَبتَ بيديها معًا لأطاحت بنا؛ نحن الشباب الأربعة؛ أرضًا لا نستطيع الحراك، ما لم تكسر ظهورنا فيما لو فعلت ذلك، وباختصار كانت تحتاج ونشًا حقيقيًا ليرفعها من مكانها!
    انتبهتُ إلى أن الأستاذ ينظر إليَّ نظرات مباشرة، فقلتُ له، محاولًا صبغ صوتي بنبرة اللامبالاة: (لا أستطيع أن أحملها يا أستاذ)! متوقعًا أنه سيجيبني (هل تضع فيها البراد أم فرن الغاز)؟ لنرجع إلى الحل السابق، ويطلب حقيبتي أو حقيبة ابن الجيران، لا بأس...

    ولكن الأستاذ تفوق على نفسه كوميديًا وتراجيديًا، فلقد ابتسم بظفر شديد، مجيبًا بمنتهى الهدوء: (أنا أعلم أنك لا تستطيع أن تحملها، بل لا يمكن لأحد منكم أن يحملها، ولكن لا بأس)، ظننتُ أن المشكلة انتهت، وأن الأستاذ تراجع عن طلبه المدهش هذا، ولكنه صرخ بغتة: (قم واركلها بقدمك حالًا، وبأقصى قوتك)!
    وجُنَّت زميلتنا تمامًا، ووقفت مكانها، تحاول السيطرة على يدها التي ترتجف، ثم نظرت إلى الأستاذ كأنها لبؤة تَهُمُّ بافتراس ضحيتها، و...
    وغادرت زميلتنا مقعدها، متجهة نحو الأستاذ، وقد ضَمَّت قبضتها!
    (الله يرحمك يا أستاذ)!

    تابعوا معنا





    التعديل الأخير تم بواسطة أ. عمر ; 13-1-2018 الساعة 07:49 PM

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
Loading...