وداعًا

جمد الطبيب مكانه، مع ابتعادي المباغت عنه، كان يستعد ليولج أداته الحديدية في أنفي وينزع الفتيل، ولكني أبعدتُ رأسي لأمنحه حرية العمل، ولا أزعجه بخوفي وتوتري، فكان أن حرك أداته
في الهواء، وكاد يفقد توازنه (فقط)!
ونظر إليَّ الطبيب لائمًا، فقررتُ أن أكون شجاعًا، واستدرتُ نحوه، أنظر إلى آلته هذه، مغالبًا التوتر في أعماقي، وذكرى خمس عشرة سنة مضت تتداعى في ذهني، الطبيب ينزع الفتيل بقوة عنيفة، والدماء تنزل في فمي، وأنا أسقط أرضًا، و...
ونزع الطبيب الفتيل هنا، لينتزعني من ذكرياتي الأليمة، بألم واقعي مباشر! كتمتُ صرخة الألم، وإن أحسستُ بأن أنفي يلتهب لفرط الألم، لكني تمالكتُ نفسي أضغط على شفتيَّ لما أعانيه، ولكني أشهد للطبيب بالبراعة، طريقة وضع الفتيل كان يكفيها حركة واحدة لانتزاعه من فتحتي الأنف معًا، ولكم دُهِشْتُ حينما رأيتُ الطبق الحديدي أمامي مليئًا بالدم! لم أشعر بسيلان الدم الغزير من أنفي، مع الآلام الملتهبة فيه.
نهضتُ هنا، سائلًا الطبيب كم يأمر؟ فاستنكر فعلًا أن يأخذ أجرة على نزع الفتيل، وقد كَبُرَ فعلًا في عيني، الطبيب الذي قبله أخذ خمسين دولارًا دفعة واحدة أجرة يده! والطبيب العبقري في العاصمة بيروت، أصابته (الشهامة)، وهو يراني أكاد أموت من الألم والنزيف، ليخبرني بأنه لن يأخذ مني، مع أنه يأخذ في المعتاد، لكنه لن يأخذ الآن، وإن كان أخبرني في المستشفى قبلها أنه لن يأخذ شيئًا، و... لا علينا!
ومرة أخرى أحمل كابوس يوم الخميس في أعماقي! أخبرني الطبيب بوجوب الحضور يوم الخميس لإجراء عملية التنظيف! غادرتُ ناسيًا، من الخوف، أن أطلب من السكرتيرة تسجيل موعد لي، وأخذتُ أمشي، والدم يسيل من أنفي، حتى وجدتُ باصًا صعدتُ فيه متوجهًا إلى بيتي، لأتناول الدواء المسكِّن وأنام قليلًا، لكن النوم لم يأتِ بسرعة، ولكن الألم؛ على قسوته؛ كان محتملًا، لم أشعر بفقدان التركيز، ولله الحمد، ثم غفوتُ ربما من دون أشعر بذلك، لأستيقظ بعد ساعات قليلة، شاعرًا بالحيوية والنشاط، إذ إن الألم زال نهائيًا.
اليوم الخميس، ويوم الغد هو الخميس! كيف ذلك؟ لا تسألوني! وجدتُ أننا أصبحنا في الخميس فجأة، فاتجهتُ؛ هذه المرة؛ بسيارتي إلى العيادة، وكان علينا الانتظار بعض الوقت لتأخر الطبيب في المستشفى والعمليات الجراحية، ثم حضر الطبيب، وبدأ المرضى يدخلون، ونادت السكرتيرة باسمي المسكين! دخلتُ مترددًا خائفًا، تلك الآلات التي يدخلونها الأنف ويلتقطون بها قطع الدم المتجمدة ويسحبونها، مواقف تبعث الاشمئزاز في النفس، إضافة إلى الآلام الرهيبة طبعًا.
ولكن الطبيب لم يكن أهوج، كمن سبقه وسبق من سبقه، لقد أدخل آلته برفق، ومن خلالها مد ما يشبه الأنبوب، ليضغط زرًا به، وكأن دفقة ماء تدخل الأنف، كان هناك بعض الضيق ولكن لم أشعر بأي ألم، الحمد لله لفضله هذا، وكرر الطبيب الأمر مرة ثانية، ثم طلب إليَّ النهوض، قمتُ مستبشرًا، أريد أن أغادر، فطلب أن أجلس قليلًا.
لا بأس، نجلس قليلًا ونجلس كثيرًا، المهم أننا انتهينا، أخبرني الطبيب بوجوب استخدام ظروف الريسبيمار مرتين يوميًا من دون انقطاع، قلتُ له إنني سأفعل ذلك، وقمتُ لأغادر مرة أخرى، فلم يطلب أن أجلس، ولكنه قال لي ببساطة: (ولا تنس أن تأتي الخميس)! ارتعد جسمي من دون أن أتمالك نفسي، ووجدتُ أنني أرد مستنكرًا، مؤكِّدًا: (اليوم هو الخميس)! فأخبرني الطبيب أنه يعرف هذا، ولكنه يقصد الخميس المقبل، وذلك لإجراء ناضور في الأنف! (يا لك من مسكين يا أنفي، لا تجد من يرحمك حتى الآن)!
ومرة أخرى، ينتهي يوم الخميس ليبتدئ يوم الخميس! وفي العيادة استقبلتني السكرتيرة قائلة: (هذه المرة ليست مثل المرة السابقة)، شعرتُ بالدهشة لكلامها، فهل (هذه المرة) سأشعر بالألم، وبذلك تختلف عن (المرة السابقة)؟! وأكملت السكرتيرة قائلة بابتسامة: (لن تتأخر عن موعدك، فالطبيب لم يتأخر عن موعده)! أكملتُ بسخرية: (وحضرتكِ لم تتأخري عن موعدكِ)! سألتني من دون أن يبدو عليها أنها قد استوعبت ما أقول: (نعم)؟ فأجبتُها ببساطة: (لا)!
كان الناضور الطبي مؤلِمًا نسبيًا، ولكني احتملتُ الألم، وأخبرني الطبيب بأن العملية ناجحة بإذن الله، ولكن يبقى ما تسبب به الطبيب السابق، ما لا علاج له، ويمكن أن لا أشعر بالراحة إلا بنسبة طفيفة، ثم أخرج الطبيب الناضور، ليأتي بأدواته ويستخرج بعض الدم المتجمد، عبر دفعتين أو ثلاث، وعاد يضع الناضور بعدها، حتى أحسستُ بأنني على وشك التقيؤ!
مرة أخرى، يطلب إليَّ الطبيب الجلوس، ليخبرني بضرورة متابعة الريسبيمار شهرًا على الأقل، وعدتُه بذلك، وما إن أردتُ النهوض، حتى قال لي: (ولا تنسَ أن تأتي...) قاطعتُه باستنكار: (الخميس)؟ أكمل، كأنه لم يسمع: (الشهر المقبل، لإجراء ناضور آخر، وإن أحببتَ أن يكون هذا يوم خميس، فلا بأس)!
نهضتُ، لأغادر، فاستوقفني قائلًا: (سيتكفل استخدامك الريسبيمار بإخراج ما تبقى من الدم الأسود المحتقن في أنفك)، لم أجد هذه المعلمة مهمة، فلينزل الدم شهرًا أو سنة، المهم أن أرتاح من كابوس حياتي هذا، غادرتُ عيادته، عائدًا إلى بيتي، وما زلتُ أستخدم وصفته الطبية، لكني لا أجد النتيجة الإيجابية التي أتمناها، التحسن طفيف جدًا، ولكن ما زلتُ أحيا على أمل انتهاء خروج الدم الأسود المحتقن في حلقي، لعل وعسى تتحسن طبقة الصوت المختنقة، إضافة إلى مواظبتي على دواء أسيد المعدة طبعًا...
وما زال الإرهاق يملأ جسمي بأكمله، مع التعليم والتحضير والتصحيح، وفوقها خروج الدم الصعب نسبيًا، والذي يستغرق وقتًا طويلًا، كل هذا يجعلني أشعر بالدوار معظم الأوقات... ولكن، الأمل بالله تعالى كبير، وما زلتُ أرى أنني في بداية العلاج، ومن يدري، بعد ثلاثة أسابيع أو أكثر كيف تكون النتيجة؟!

أودعكم مرة أخرى في ختام حكايتي مع الطبيب، وأدعو الله تعالى لكم أن يحفظكم بحفظه ورعايته، دمتم في أمان الله تعالى.