(ماما زمانها جاية، جاية معاها شنطة، شنطة فيها قطة)...
لماذا فيها قطة؟ هل نأكل القطط؟!
حسنًا، مامتنا أحضرت لنا قطة، فماذا أحضرت لهم (مامتهم)؟!
دعونا نَرَ ذلك معًا!!
تلاميذ أيتام، لهم بابا وماما، ولكنهم أيتام! كيف ذلك؟ لقد وضعهم أهلهم في ملجأ الأيتام، ليخففوا المصروف عن أنفسهم، ألقوا بأطفالهم في مؤسسة الأيتام المجانية! وهناك يتعلم الطفل أنه لا داعي لخروجه إلى الشارع، ليأخذ من تربيته، فالشارع نفسه سيأتي إليه!
يتعلم الطفل الكذب والسرقة والسباب والكفر والأغاني الهابطة (فقط)!
وما علاقة هذا الكلام بموضوعنا؟
العلاقة وثيقة طبعًا!
انظروا معي، أوتخيلوا، هذا المشهد...
صبي يجلس في صفه، يدعو الله بتأثر عجيب، وعيناه دامعتان حزنًا...
بم يدعو يا ترى؟
هناك جمعية قررت أن توزع هدايا قيمة وجميلة لكل يتيم (حقيقي)، وبمفهومهم هم أن اليتيم هو الذي ليس له أم، حتى لو كان أبوه حيًا، بعكس الحقيقة اللغوية والعملية.
هذا الطفل عنده (ماما)، ولكن يا لها من (ماما)!
لقد حرمته كل شيء، وألقَتْ به بمؤسسة الأيتام، يشتهي ولا يلاقي، حتى قلم الرصاص لا يعطونه إياه في المؤسسة إن أضاع قلمه، فيأتي المدرسة من دون قلم، فتضربه المعلمة الأولى، والثانية، والثالثة، و... السادسة، فتعلم أن يسرق القلم، وذلك ليحمي نفسه من الضرب...
ولكن، ماذا عن وضع الماما؟
إنها؛ حسب ما علمنا من حضرتها؛ أنها (مش فاضية) للقلم الرصاص وما إلى ذلك الهراء، إذ يجب أن تصرف 300 دولار على الأقل، للكوافيرة وحدها، عدا عن اللباس الغالي الفخم، الذي لا تشتريه إلا من أفخم المحلات، ولا ترتديه سوى أسبوع واحد فحسب!
وكل أسبوع، يجب أن تدخل الماما بيتها، ومعاها بالشنطة الخاصة بها، كل ما تحب وتشتهي...
أما ابنها فلا اعتبار له، ولا لما يرغبه وما يحبه!
وأبو الطفل غير موجود، لقد طلق امرأته من زمن، وتزوج بعد ذلك، وترك الطفل للأم لا يسأل عنه، والأخيرة قبضت مهرًا باهظًا، واشترت عقارات، وقامت بتأجيرها، وأخذت تتنعم بالأموال، وابنها في مؤسسة الأيتام، وفي الصف، يدعو: (يا رب! اقصف رقبة الماما الآن الآن، لأحصل على هدية)!!
(ماما زمانها جاية، جاية معاها شنطة، شنطة فيها قطة)...
قطة؟ لماذا؟ لحمها لا يؤكل!
أين أنت يا بدر؟
تعال احكِ لنا ماذا أحضرت لك الماما بالشنطة؟
ألا تريد أن تتكلم؟
حسنًا، سأتكلم أنا إذًا!
والد بدر يشرب، طبعًا لا نتكلم عن شرب المياه والعصير، أو الزفت حتى، بل يشرب الخمور حتى يسكر تمامًا، وقد أهمل بيته نهائيًا، حتى نخر الجوع عظام بدر المسكين.
ومرة، رجع بدر من مشواره مع رفاقه، وقعد يفكر ماذا سيتعشى اليوم؟
حبات من الزيتون، وكسرة خبز يابسة؟ أم (قليل من الصعتر) مع كم (نقطة زيت)؟
وفجأة، دخل والده البيت، كان يمشي مسرعًا، ولكنه توقف، لقد رأى ابنه يجلس في بؤس واضح، وأول مرة ربما، يشعر بأنه أب، ويرق قلبه، فلعن المشروب وأبا المشروب، فأدخل يده في جيبه،وأخرج منها ما لم يتوقع بدر أن يراه في حياته! لقد أخرج مالًا!
وكاد بدر يقع بالسكتة القلبية، حينما أعطاه والده هذا المال، قائلًا: (اذهب يا بدر يا بابا، اشترِ لك لبنة وبندورة وخيارًا، وتعال تعشَّ، وخذ كذلك، ثمن زجاجة بيبسي من الحجم المتوسط)!
لم يصدق بدر عينيه!
لبنة وبندورة وخيار!
عشاء الملوك أنفسهم!
ولكن عدم التصديق لم يمنع الطفل من الذهاب لشراء هذه الأصناف الشهية، وإن كان يتمنى أن يذهب والده معه، يمسك بيده...
ولكن الأب ذهب مسرعًا في طريقه، ربما ليشرب مع رفاقه، وربما لسبب آخر، ولكن الولد لم يسأله، بل لم يجرؤ على سؤاله، فاشترى ما يحب ويشتهي، وعاد إلى البيت، ليجد الماما وقد وصلت منذ بعض الوقت فيما يبدو!
كانت عينا الماما تقدحان نارًا وشررًا، وفي يدها شنطة لا بأس بحجمها، وما كاد بدر يدخل، حتى صرخت في وجهه: (أين كنتَ يا بدر حتى هذا الوقت)؟
ردَّ المسكين متحمسًا،سعيدًا: (كنت أشتري عشاء يا ماما، لقد رجعت إلى البيت مبكرًا، وأتى البابا، وأعطاني مالًا، و)...
قاطعته الماما، صارخةكعادتها: (كذاب! من أين أتيتَ بثمن هذه الأغراض التي في يدك)؟
ويقول بدر، وعيناه تدمعان: (والله من البابا! تعالي تعشي معي يا ماما)!
وتَرُدُّ الماما غاضبة: (أبوك ليس هنا يا كذاب! ثم إنك تعلم جيدًا أنني أتعشى يوميًا عند قريباتي! وأنت تدعوني إلى الطعام يا لص المال)!
ولم تترك الماما لبدر مهلة للدفاع عن نفسه، بل تابعت بغضبها: (وأنا اشتغلت واشتريت لنفسي شيئًا، أضعه في شنطتي هذه، وسأهديك إياه)!
لم يفهم بدر ماذا تقصد الماما بهذا التناقض!
ولكن الكلام عن (الهدية) في (الشنطة) أعاد إليه بعض الأمل في كسب رضاها، فقال لها: (اسألي البابا يا ماما حينما يرجع، وسيقول لكِ...)
قاطعته الماما متحمسة: (أكيد)!
ومن شنطتها أخرجت حذاء مستعملًا، مقاس رجلها!
وحين عاد البابا إلى البيت بعد مدة طويلة، وجد ابنه قاعدًا بغرفته، فسأله متحمسًا: (هل تعشيت اللبنة والبندورة يا بابا)؟
أجابه بدر من دون تردد: (بل ما هو أفخر من هذا، عشاء هدية من شنطة الماما)!
سأله أبوه بدهشة: (ماهذا العشاء الفاخر الذي كان في شنطة الماما)!
صاح بدر بمنتهى الغيظ الذي يلتهم أعماقه لهدية ماما: (حذاء مقاس 38! كل جسمي صار مقاسه 38، وشكله من شكلهذا الحذاء)!
وفهم الأب هنا!
وليته لم يفهم!
***
(ماما زمانها جاية...جاية معاها شنطة... شنطة فيها...)
ماذا فيها؟
فيها دعوة من ابني عليَّ؟!
لا لا، لا يناسبني هذا!
حسنًا:
(ماما زمانها جاية... جاية معاها شنطة... شنطة فيها...)...
فيها أحلى عشاء، متَبَّل بطعم الحذاء!
أعوذ بالله! لا يناسبني هذا كذلك!
حسنًا، حسنًا:
(ماما زمانها جاية... جاية معاها شنطة... شنطة فيها قطة)!
يا سلام!
فيها قطة!
ولم لا؟
القطة لا تؤكل؟
وهل ينقصنا الأكل؟
خير ربنا كثير!
وعلى الأقل، هذه القطة التي أحضرتها لنا الماما، نستطيع أن نلعب معها!
***
موضوع يلتهب نارًا في زواياه، ولكن؛ قبل ذلك: (مامتك أنت، ماذا أحضرت لك معها في شنطتها يا ترى)؟
والأكثر أهمية من ذلك:
_ كيف يمكن لبعض الآباء أن يقودوا أولادهم، ليلقوا بهم في دور الأيتام، مع الأيتام حقًا؟
_ وما الأسباب التي يمكن أن تكمن خلف مثل هذه التصرفات الرهيبة؟
_ ولئن كان بعضهم يفعل ذلك لضعف مادي، فهل تجد لهم المبرر في فعلتهم هذه؟
_ وهل تجد المبرر لمن يفعلون ذلك، حتى (يشوفوا حياتهم ويستمتعوا بها) كما يقولون؟
_ أو بات الاهتمام بالأطفال وتربيتهم عائقًا أمام استمتاعنا بالحياة؟
_ ترى، هل يُلام الطفل، لو كان عاقًا لأهله؛ فيما بعد؛ وهم من ألقوا به في دور الأيتام، ليتخلصوا من همه، ومن مصروفه؟!
أسئلة أطرحها منذ زمان بعيد، ولا أجد لها إجابة مقنعة، فهل أجدها لدى أحدكم!!
عمر قزيحة:2012م.
(مع التعديلات بتاريخ 9_2_2018)م.
المفضلات