البطل
تنهد الرائد حسن بضيق بالغ...
كان يشعر بألم نفسي مرير...
بلاده تغرق في موجة من المخدرات...
وخيرة الشباب يفقدون مستقبلهم بسببها...
بل وإنسانيتهم كذلك...
إنهم يتحولون إلى مدمنين رغمًا عنهم...
والشرطة تقف عاجزة...
لم تتمكن من أن توقع سوى بصغار المهربين...
وفي حالات نادرة...
وبالأمس؛ بالأمس فقط...
كان بإمكانهم إلقاء القبض على أحد الزعماء الكبار...
لكن؛ وللأسف الشديد...
وقف الروتين في طريقهم...
لا بد من دليل مادي...
وأفلت القذر، ليواصل بَثَّ سمومه أمام أعينهم...
ولما حاولوا إمساكه بالجرم المشهود، فوجئوا به يتقدم بشكوى ضدهم!
المراقبة لم تكن قانونية، إذ إنها تمت من دون إذن النيابة العامة...
لذا؛ ربح الوغد الشكوى!
و(طار) رئيس حسن، ليتولى هو؛ رسميًا؛ مهمة الإيقاع بالمجرمين...
لكنه لم يهتدِ، حتى الآن، إلى وسيلة صحيحة للإيقاع بكبار التجَّار بهذه السموم...
ثم إن هناك تلك السفينة المشبوهة، والتي تقف خارج حدود مياههم الإقليمية منذ أيام، جامدة في مكانها...
ورئيسه المباشر السابق كان يشتبه أنها ترسل زوارقها في ظلام الليالي لتوزع المخدرات...
لكنْ لا، لن يسمح لأحد أن يوقفه، سيبذل قصارى جهده...
وسيقدِّم روحه عن طيب خاطر لأجل الوطن، وأبناء الوطن.
***السماء...
السواد يغطي كل شيء...
السفينة...
الماء...
ظلام الليل...
والأعماق...
حيث يسبح حسن...
الماء بارد كالثلج...
ويبعث في أطرافه آلامًا فظيعة...
ولكنه يواصل السباحة من دون كلل...
وبعد مدة زمنية طويلة...
قضاها حسن في رحلة مريرة...
ذاق فيها ساعات العذاب الأليمة...
وصل إلى السفينة...
وبهمَّة ونشاط تسلقها...
ورغم وجود عدد من الحراس، تمكن من التسلل إلى الطابق السفلي...
وهناك كانت الأضواء تشع من غرفة صغيرة...
وصوت الأحاديث يصل بطريقة غير واضحة...
واقترب حسن أكثر...
وكيانه يشتعل لهفة للاستماع إلى ما يدور من الكلام...
لعله يجد فيه ما يصبو إليه من إثبات تورط هذه السفينة الملعونة...
لكن المناقشات انتهت قبل أن تصل إليه كلمة واحدة...
وغادر الرجال الغرفة فجأة...
ليباغت حسن بهم أمامه...
وجهًا لوجه...
وأدرك حسن أن القتال قد بدأ...
بكل العنف.
***
غادر الرجال الغرفة، ومروا بجوار حسن، من دون أن يلقي أحدهم بالًا إليه...
ربما بسبب ملابس الغوص السوداء التي تغطيه، من قمة رأسه حتى أخمص قدميه...
أو لعلهم ظنوه أحد البحارة...
وأخذ حسن يفكر بالخطوة التالية...
وفجأة، خطرت بباله فكرة...
فكرة رائعة...
بكل المقاييس.
***
ما أجمل الشعور بحب الوطن!!
ما أروع الإحساس بالانتماء إليه!!
إنه يبعث في النفس قوة هائلة...
وعزيمة بلا حدود...
وإصرارًا يكفي لزحزحة الجبال...
هذا ما شعر به حسن...
لم يكن يحس بالعرق الذي يغمره بعد كل ذلك المجهود العنيف...
قضى ثلاث ساعات في المياه الباردة...
وتسلق السفينة...
ورغم ذلك، كان ينظر إلى غرفة التوجيه بعزيمة...
ونشاط...
وبخفة، وعلى أطراف أصابعه، تقدم إلى الغرفة كي لا يشعر به بحارتها...
ولكم كانت المفاجأة على هؤلاء المساكين عنيفة، حينما وثب حسن بينهم هاتفًا:
_ إلى الجحيم!!
وانطلقت قبضة حسن، مستغلًا عامل المفاجأة من جهة، وفارق القوة البدنية الهائلة بينه وبينهم، لتنهي المعركة في ثوان قليلة...
ومع تلك اللكمة الهائلة التي أهوى بها حسن على رأس القبطان، انتهت المعركة...
بل الجولة الأولى منها...
ورغم ذلك، وقف حسن، يفكر حائرًا كيف يمكن له أن يدفع السفينة نحو شاطئهم ليتيح لرفاقه المبرر القانوني للصعود إلى سطحها، وإلقاء القبض على كل من فيها...
ثم خطرت بباله الفكرة فجأة...
فرفع جهاز الاتصال الداخلي الخاص بالقبطان، ليصيح من خلاله، متعمدًا بث الخشونة في صوته:
_ اتجهوا نحو الشاطئ أيها الأوباش!
وأغلق الجهاز مباشرة، وهو يقاوم ضحكته، وشعور بالظفر يملأ كيانه...
ثم سيطر حسن على انفعالاته، ليقول بصوت خافت محدثًا نفسه:
_ ليس الآن وقت الانتصار يا حسن، ما زال أمامك أن تعثر على دليل الإدانة، وإلا لن يتمكن زملاؤك من تفتيش السفينة، حتى لو فعلوا سيفلت الأوباش بحجة أن التفتيش غير قانوني.
وبحسم وصرامة، غادر حسن الغرفة، ليجد نفسه بمواجهة عدة رجال...
وكلهم مثله يرتدون ملابس الغوص...
وأدرك أنهم في طريقهم لتهريب المخدرات...
وبغضب هادر انقض عليهم...
ومرة أخرى، باستغلال فارق القوة، كونه رجل أمن تلقى تدريبات مكثفة يواجه مدنيين لم يقاتلوا أحدًا في حياتهم، حسم حسن المعركة بسرعة كبيرة...
والآن، لم يعد أمامه سوى أن يفتش السفينة حتى يعثر على المخدرات...
ولقد فعل...
فعل ذلك متجاهلًا آلامه...
وإرهاقه...
ولكنه لم يعثر على شيء...
وبقيت غرفة واحدة...
غرفة تختلف عن باقي الغرف...
تختلف بأنه، أمام بابها، يقف حارس ضخم...
أشبه ما يكون بالغوريللا.
***
لم يسمح الرائد حسن للخوف أن يتسلل إلى قلبه...
ثقته بما تلقاه من تدريبات قتالية عالية المستوى من جهة، وإحساسه بأهمية وخطورة ما يقوم به لأجل وطنه كله، منحاه عزيمة كبرى لا تُقهر...
لذا، أخذ حسن نفسًا عميقًا، ثم انقض على الحارس بغتة...
وكال له لكمة هائلة أودعها كل ما في جسمه من القوة...
وكل ما في أعماقه من الغضب...
وقبل أن يستوعب الرجل المفاجأة، كانت ساق حسن تغوص في معدته...
في نفس اللحظة التي تلقى فيها الضربة الثانية بقبضة اليد على أنفه...
وارتد الحارس إلى الخلف بعنف...
وارتطم رأسه بمقبض الباب...
وسقط فاقد الوعي...
وبسرعة اقتحم حسن الغرفة...
ثم توقف، والغضب يكاد يلتهمه التهامًا...
لقد كان في مخزن كبير، لا مجرد غرفة، يمتلئ بعشرات الرفوف، التي تصطف فوقها مئات الأجولة الكبيرة...
أجولة المخدرات...
وكاد حسن يشتعل فعلًا من الغضب، لمرأى ذلك المسحوق الأبيض الذي يملأها...
وفكر في الخطوة التالية...
وقبل أن يصل إلى قرار...
اقتحم ثلاثة رجال الغرفة...
صحيح أن الرائد كان قد هزم أكثر من هذا العدد بمفرده...
لكن هذه المرة تختلف...
فهؤلاء الرجال كانوا مسلحين.
***
لم يبالِ حسن بالمسدسات المصوبة إليه...
بل هجم على الرجال بجرأة نادرة...
وانطلقت الرصاصات...
وسالت الدماء من مواضع شتى من جسم حسن...
لكنه، ولدهشة الرجال، واصل الانقضاض عليهم!!
ذلك لأن الحب الجارف يسيطر على كيانه ومشاعره...
حب الوطن...
وتساقط الرجال كالذباب...
في اللحظة نفسها، تعالى صوت أقدام يسرع أصحابها إلى المخزن...
ومرة ثانية انطلقت الرصاصات...
إنما هذه المرة من الجانبين...
فحسن كان قد التقط مسدس أحد الرجال الذين أفقدهم الوعي...
ومع إطلاق الرصاص المتبادل، تضاعفت إصابات حسن...
لكنه سمَّر قدميه في الأرض، وظل ثابتًا صامدًا يواصل الإطلاق من مسدسه حتى أسقط جميع خصومه...
وربح المعركة...
مبدئيًا...
فلقد تبقت الخطوة الأخيرة...
الخطوة الرسمية...
وباستخدام جهازه اللاسلكي، أخذ حسن يبث نداءه إلى رجاله، وهو يدعو أن تكون السفينة قد دخلت مجال الإرسال إلى وطنه...
ولكن فرح حين سمع أحد الزملاء ينبعث من جهاز اللاسلكي متسائلًا عن أوامر قائده...
فهتف حسن بلهفة:
_ اسمعوني جميعًا، لقد دفعت بالسفينة إلى مياهنا الإقليمية، وباتت تحت سيطرتنا، خذوا الإذن من النيابة العامة بسرعة، السفينة....
ولم يتم حسن عبارته...
لم يتمها وتلك الرصاصة تخترق ظهره وتدفع به، وجهاز اللاسلكي يسقط بعيدًا عن متناول يده...
وبمقت شديد، ألقى ذلك الرجل نظرة إلى جسم حسن الساكن وسط بحيرة الدماء، قبل أن يستدير إلى القبطان قائلًا:
_ يبدو أنه قد مات.
رد القبطان بمقت مماثل:
_ لقد كاد يكسر رأسي هذا اللعين، والآن سأعيد توجيه أجهزة السفينة، فلا أعرف لماذا غير هذا اللعين مسارها.
واستدار القبطان مع رجاله الذين تبقوا على قيد الحياة، وفي وعيهم، ليغادروا...
ثم تجمدوا أمكنتهم من الرعب والمفاجأة...
فلقد انبعثت من خلفهم صرخة قتالية رهيبة، فوجئوا بعدها بغريمهم ينقض عليهم رغم الدماء التي تغطي جسمه، ليوجه لكمة عنيفة هشمت أنف القبطان وألقت به بعيدًا...
ولم يتوقف حسن عند هذا...
بل واصل لكم الرجال وركلهم بقبضته...
حتى أسقطهم جميعًا...
كاد يستسلم قبلها للغيبوبة، لكن كلمات القبطان عن إعادة التوجيه فجرت في نفسه نشاطًا لم يعهده في حياته من قبل...
لكن، حسن في النهاية مجرد إنسان ضعيف رغم قواه...
إنسان مصاب بعدة رصاصات، وفي مواضع قاتلة...
ومع اطمئنانه إلى نجاحه في مهمته، سقط حسن أرضًا...
سقط ودماؤه ما زالت تنزف بغزارة...
ثم فقد حسن وعيه...
أو ربما حياته.
***
لم يمت البطل...
وما أدهش الأطباءَ استعادتُه وعيه كاملًا في اليوم التالي...
ثم تفجرت دهشتهم بحق، مع وقوفه على قدميه في اليوم الثالث...
المهم أن رئيس جهاز الشرطة استدعى إليه حسن ليقابله في مكتب منفرد في المستشفى، بعد حوالي أسبوع من استعادته وعيه...
وبخطوات ثابتة...
ومن دون أدنى قلق للمخالفة القانونية الصريحة التي ارتكبها بتسلله إلى السفينة...
ذهب حسن لمقابلة الرئيس...
ووقف أمامه مؤديًا التحية العسكرية...
واستقبله الأخير بابتسامة أدهشته، وأشار إليه بالجلوس...
وبحماسة، قال له:
_ مرحبًا بالبطل، كم يسرنا أن بطلًا مثلك ينتمي إلى جهازنا، كانت مبادرة شخصية منك فعلًا، ولكن العملية مبهرة بالفعل، سبحتَ مسافة طويلة للغاية، وتسلقت سفينة فوق هذا، ثم وجدت في نفسك القدرة على القتال بمنتهى الشراسة حتى تحقيق الانتصار رغم كل هذه الإصابات القاتلة، لا أعتقد أن أحدًا سواك في جهاز الشرطة يمكنه فعل ذلك.
رفع حسن يده بتحية عسكرية، وهو يقول:
_ حياتي فداء الوطن.
قالها بصوت عميق قوي...
رمقه رئيسه بنظرة عجيبة، كأنه يستنكر منه هذا القول، ما أثار استنكار حسن بدوره، وهمَّ بالسؤال عن سبب ذلك، لكن الرئيس بادره قائلًا بصرامة:
_ لكنْ هناك أمران ينبغي توضيحهما، أمر سأوضحه أنا لك، تلك السفينة التي هاجمتها كانت داخل مياهنا الإقليمية بالفعل، وبعلمنا.
وأطلق الرئيس ضحكة قصيرة، قبل أن يتابع بتوتر:
_ هل تصورت أنك تستطيع أن تسبح اثني عشر ميلًا دفعة واحدة حتى تصل إلى تلك السفينة التي تقف خارج مياهنا الإقليمية، والتي نشتبه بها؟!
خفق قلب حسن هنا...
لقد أخطأ التقدير فعلًا، وهاجم سفينة أخرى غير التي يشتبهون بها...
لكنها كانت رمية من غير رامٍ...
رمية قضى بها على عدد كبير من تجار المخدرات، وأوقع بعضهم في قبضة العدالة، وأفسد خططهم الدنيئة لإغراق بلاده في هذه السموم اللعينة...
أما تلك السفينة الأخرى، فستكون له معها جولة أخرى حتمًا...
مهما كانت مسافتها بعيدة، فسيصل إليها...
حتى لو اضطره الأمر أن يسبح أسبوعًا كاملًا في سبيل ذلك...
أفاق حسن من شروده، مع متابعة رئيسه الصارمة:
_ الأمر الثاني يجب أن توضحه أنت لنا، لماذا فعلتَ فعلتك هذه؟!
رغم فارق الرتب الكبير بينهما، هتف حسن بحدة:
_ ماذا تعني؟!
هبَّ الرئيس واقفًا، ليقول بغضب شديد:
_ أعني ما سمعتَه يا حسن، لماذا فعلت فعلتك هذه؟! ما الذي دفعك إلى المخاطرة بحياتك، بل ما الذي دفعك إلى مهاجمة البحارة وقتلك العديدين منهم، وهم ينتمون إلى دولة صديقة لنا؟! كيف سنبرر لهم هذا؟!
شعر حسن بالغضب بدوره...
أهكذا يكون تفكير رئيسه المتخلف؟؟
هل يقيم وزنًا لتبرير مقتل موزعي المخدرات، ولا ينبغي على الدولة "الصديقة" هذه أن تبرر لنا سبب إرسالها المخدرات والرجال معدومي الضمير، ليغرقوا بلادنا بالسموم؟؟
كاد حسن يهتف بكل هذا، لكنَّ رئيسه لم يمهله، وهو يتابع بصوت يمتلئ غضبًا وحيرة في آن واحد:
_ لماذا شكَّلت لك كل تلك الأجولة من السكر الناعم _ التي يتاجر بها بحارة السفينة _ هذه العقدة، حتى كدت تنتحر كي تصادرها؟!
انتفض حسن مذهولًا...
أكانت الأجولة مليئة بالسكر؟!
أو ضاعت معركته عبثًا؟!
وفجأة، شعر حسن بآلام رهيبة تشتعل في مختلف أنحاء جسمه...
وخُيِّل إليه أن جراحه تلتهب نيرانًا كاوية....
وفوجئ به رئيسه يقف ويبتعد خطوات عن مقعده، ويسقط أرضًا من دون مقدمات...
ثم أطلق حسن شهقته الأخيرة...
وبغضب صاح الرئيس:
_ لا، ليس الآن يا رجل! فسِّر لنا سبب حماقتك أولًا، لقد أوقعتنا في مشكلة دبلوماسية يا أبله، ثم تموت من دون أن تفسر شيئًا؟! عليك اللعنة!!
ورغم أن الرجل قد سقط ميتًا أمامه بالفعل...
إلا أن الرئيس لم يكن لديه وقت للحزن أو حتى لاستشعار مهابة الموت...
فالحيرة كانت تملأ وجدانه...
الحيرة ليعلم لماذا بذل حسن كل هذا في سبيل مصادرة تلك الكمية من السكر...
الناعم!!
عمر قزيحة _ تم إنتاج القصة بشكلها الأولي عام 2000م.
(وتم التعديل والإضافة لتصبح القصة بهذا الشكل، بتاريخ 9_1_2015، الساعة 10:26 ليلًا)
المفضلات