المفاجأة الرقابية!
ما بين إلقائه إياي أمام السيارات، ثم موقف الرعب الذي جعلني أقفه في دكانه، إذ يَمُدُّ يده نحو حزامه، متحدثًا عن إطلاق النار، إلى قبضته التي غاصت في معدتي، وأسنان زميلي التي غاصت في كتفي، وسحق المدير أصابع قدمي بسببه، بدا لي فعلًا أن هذا الأستاذ كابوس حقيقي، ابتلاني الله تعالى به ثلاث سنوات متتالية.
وإن كانت السنة الثالثة هينة (نسبيًا)، فالأستاذ بات يدرِّسنا التاريخ فحسب، ويدمج به الفيزياء والكيمياء، وعلم طبقات الأرض، ما لم يسمع به أحد من قبل قط، حتى الأستاذ نفسه، ولكن موضع السهولة هنا أننا لم نَعُدْ نهتم، لا له ولا لمادته، فنحن طلاب صف شهادة رسمية، ولا يعني هذا إهمالنا أية مادة، ولكن علاماته (الدولية) لا تقدم شيئًا؛ هذه السنة؛ ولا تؤخر، وبالتالي رفضنا جميعًا؛ شبابًا وبناتٍ؛ تسميع أي درس خلال السنة كلها، ولا نعلم من أين كانت تأتينا العلامات من قبل هذا الأستاذ، ووفق أي أساس كان (يخترعها) لنا!
ومرة أتانا هذا الأستاذ، صارخًا بصوته (الناعم) الكفيل بإقلاق راحة الثانوية كلها، ومحيطها داخليًا وخارجيًا (فقط):
_ ضعوا أمامكم أوراقًا بيضاء، وأقلامًا زرقاء، و...
قاطعه سامح متهكمًا:
_ ولا تنسوا المراويل الحمراء، واجعلوا أعينكم سوداء، و...
(ذلك أن المريول المدرسي المفروض على البنات لونه أحمر)
صرخ به الأستاذ، داعيًا إياه إلى الصمت، ليخبرنا بأنه سيجري لنا مسابقة، وفق أسس الشهادة الرسمية، وأخذ يقرأ الأسئلة التي يريد لنا أن نجيب عنها، ولكن... سكت الأستاذ دهشًا، وأخذ ينظر إلينا بحيرة، قبل أن يتساءل:
_ هل أصيبوا بالصمم جميعًا؟!
المفترض أنه يتحدث (معنا)، لكنه استخدم ضمير الغائب!
أجابته إحدى الزميلات:
_ لا، والحمد لله، لكننا لا نريد أن نجري أية مسابقة، هكذا! من دون سبب!
صرخ الأستاذ مهددًا:
_ ستنالون صفرًا جميعًا، ولن أرحمكم أبدًا!
هتفنا به معًا:
_ لا ترحمنا! بالعكس، نحن نحب الصفر!
رد الأستاذ بازدراء:
_ كلكم تقولون هذا، وعند أول اختبار حقيقي لشجاعتكم لا نرى منكم أحدًا! سَتَرَون! كل من لا يريد إجراء المسابقة فليخرج من الصف فورًا، حاملًا كتبه معه!
واتسعت عينا المسكين، يا لعرضه الرائع! لم يتخيل أننا سنحمل كتبنا، ونقف، فهتف بنا بغباء حقيقي:
_ إلى أين؟
أجبناه بأننا ننفذ أوامره فحسب، فطلب إلينا أن نجلس، ونتوقف عن اللعب معه، ومن هذا الذي أخبره؛ كاذبًا؛ بأننا نلعب معه أساسًا؟! ولم يَعِي الأستاذ الدرس، بل عاد يكرر (تهديده) لنا بالطرد مع كتبنا، وما كاد ينتهي من كلامه، حتى حملنا كتبنا ووقفنا، فهتف بنا متسائلًا (إلى أين) بمشهد بدا أشبه بإعادة حرفية لما حصل قبل لحظات، والمصيبة أنه ما زال بعيدًا عن الوعي، فلقد عاد يكرر الطلب أربع مرات إضافية أو خمسًا، ليقابل بِرَدَّة الفعل هذه ذاتها، حتى (فهم) أخيرًا، أو ربما تعب وأصابه اليأس، والحمد لله تعالى أيًا كان السبب!
وذات يوم، دخل حضرته صفنا، صارخًا بصوته الهدار:
_ أيها التلاميذ، اسمعوا.
وتحول صوته إلى الخشونة التامة، ربما لإضفاء التأثير المطلوب، لكلماته (المهمة):
_ اسمعوا وعوووووووا
صرخ بعض الطلاب:
_ عوووووووووووووووا!!
وانفجر الأستاذ في وجوهنا:
_ (عوا) تعني (عوا) ولا تعني (عوا)!!
ليسأله سامح بتهكم لاذع:
_ وما الفارق بين (عوا) الأولى و(عوا) الثانية يا ترى؟؟
أخبرنا الأستاذ أن (عوا) من الوعي لا من العواء، أقول لكم هذا ببساطة، لكن الأستاذ لم يَقُلْه ببساطة، بل أمطرنا بوابل من الشتائم واللعنات، أعتقد أن ذكرها ينافي الذوق العام، وأبسطها، وأخف شيء فيها، نعوت الحيوانات التي أنزلها على رؤوس من أصدروا أصوات العواء في الصف!
انتهت تلك السنة بصعوبتها ومرارة أحداثها، وحانت أيام الشهادة الرسمية، وكان كل شيء يسير على ما يرام، حتى اليوم الأخير، إذ بات أحد أساتذتنا القدامى المسؤول عن بعض الغرف، من بينها غرفتنا، هل علمتم أي أستاذ هذا؟ إنه صاحب الــ(هيهاهاهاهاهوها)! الذي لا ينام بسبب مخطوبته...
ويا للحظ التعيس! ظن الأخ أنه ضابط في معتقل، وهكذا وجدناه يقتحم الصف بغتة، صارخًا مثل الوحوش الضارية، يطلب مني أن أنظر أمامي، مخاطبًا إياي باسم أخي، وهو لم يعلم أخي يومًا واحدًا، وضقتُ ذرعًا به، كنت أمام مادة الفيزياء أولًا (في أيامنا لم يكونوا يسمحون بالآلة الحاسبة، وبالتالي أي تشتت ذهني يذهب بعملية عقلية استغرقت دقائق)، وأمام مادة علم النفس ثانيًا (في أيامنا كانت المادة باللغة الفرنسية، والموضوع الذي حفظته بصعوبة شديدة، أتى في المسابقة)، وفقدت تركيزي كله، وطارت المعلومات كلها مع صراخه، خاصة في اللغة الفرنسية التي أحفظها بمنتهى الصعوبة، فما كان مني إلا أن صرخت بوجهه داعيًا إياه إلى السكوت، وأن يريحنا من سماجة دمه، ولكن عبثًا... رغم أنه انصرف عني، لكنه حول سماجته إلى محمد، وتطور الأمر حتى كادا يتضاربان في الصف، وألقى محمد بمسابقته أرضًا، واضطررت إلى التدخل، بل وطردت المراقب العام الأخرق من الصف، رغم أنه يستطيع فعل ذلك بي لو أراد، لكني عكستُ الأدوار كلها!
ولم نصل؛ بعد؛ إلى الخواتيم السعيدة، فالأستاذ المراقب العام عاد يدخل الصف، بهدوء، لكنه لا يستطيع إلا أن يكون مزعجًا، فحضرته يحمل تنكة بيبسي (العلبة المعدنية) ويحاول فتحها جاهدًا، ولا يستطيع ذلك، فتطوعت إحدى البنات في قاعة الاختبارات لمساعدته، وقامت تفتحها له، ولكن يبدو أنه خضها قبل ذلك، فارتفع الأسيد من العلبة، ليقفز الأستاذ صارخًا برعب شديد:
_ يا أمي!
أغرقنا بالضحك الشديد جميعًا، واحتقن وجه الأستاذ غضبًا، وبلؤم غير منطقي، نظر إلى البنت التي فتحت له علبة البيبسي، قائلًا لها:
_ (انقبري) إلى مكانكِ!
صرخت البنت (ووجهها يكاد يتفطر احتقانًا):
_ (انقبر) أنت وقل (يسلمو)!
أخذ حضرته يهددها؛ وهو يشرب البيبسي؛ بأنه سيحرمها متابعة الاختبار، وسيكتب بحقها تقريرًا يحرمها أربع دورات شهادة متتالية، فأخبرته؛ بكل بساطة؛ أنها مستعدة لكسر يديه إن فعل ذلك، وارتفعت أصواتهما يهددان ويتوعدان، وحاول بعض الطلاب إسكاتهما، لكن عبثًا، لا؛ بل زاد الصراخ، من الأستاذ والفتاة هذه، ومن سائر تلاميذ القاعة!
نجحتُ؛ بفضل الله؛ ورسب محمد، والسبب برسوبه هو هذا الأستاذ المراقب، وحتى أنا لم أسامحه وقتها، وللدقة لم أسامحه من وقتها إلى الآن، رغم أننا تخطينا هذه الحادثة من اثنين وعشرين عامًا، لكني كنت أستطيع الحصول على تقدير جيد جدًا، لولا حماقاته، لأنجح على تسع عشرة علامة فحسب، والحمد لله دومًا.
أما أيام الجامعة فَمَرَّت، من دون مشاكل تُذكَر، خفيفة هادئة، في معظمها، رغم أنني أخفقت السنة الأولى، والسبب أن (الداهية) المسؤول في قسم اللغة العربية أعطاني موعدًا خاطئًا، اخترعه هو بنفسه، لإجراء امتحانات الدخول، وحينما توجهت الوقت المحدد إلى الجامعة لإجراء الامتحان، فوجئت بأنني وحدي في الجامعة كلها، وهنا اعترف بأن ما أخبرني به كان (تقديراته الشخصية)، أما (فعليًا) فالامتحان تم إجراؤه بالأمس، وهذا ما دفع بي إلى كلية الحقوق التي لا أهواها ولا أريدها نهائيًا، والسنة التالية رجعتُ إلى عالم الأدب العربي بفضل الله تعالى.
انتهت السنة الجامعية الثانية، وبدأت الثالثة، وبدأنا معها رحلة أخرى، رحلة مزدوجة فعلًا، دار المعلمين والمعلمات للإعداد لنكون أساتذة في ملاك الدولة، إذ نجحنا بالاختبار الذي أجرته الدولة لنا، وكان علينا أن نوازن بين دار المعلمين والجامعة، وإذا ما وفِّقنا، فسنحصل على شهادة الكفاءة في دار المعلمين، والإجازة الجامعية (الليسانس) في سنة واحدة.
بذلنا قصارى جهدنا، وكان لنا في الدار مواقف طريفة، ذكرتُها في حكايا أخرى مما كتبتُه هنا قبل الآن، ولكن لعل أطرف موقف رأيناه فعليًا، إذ حان الفصل الثاني، وقت التطبيق العملي، كان علينا أن نشاهد بعض الدروس في التكميلية بجوار دار المعلمين، وصلنا يوم المشاهدة الأول قرب انتهاء الحصة الثالثة، وبقينا في الملعب، إذ إن علينا حضور الحصتين الرابعة والخامسة، ثم النقاش حول طريقة الأساتذة بالإعطاء، وتفاعل التلاميذ، وما إلى ذلك...
سمعنا رنين الجرس معلنًا بداية الفسحة، وبعده بثوان قليلة، ارتفعت الأصوات السعيدة، وتعالى وقع الأقدام الهادر، لنفاجأ بمشهد لم نتخيل أننا سنراه في حياتنا إطلاقًا! الشباب والبنات يركضون بجوار بعضهم يتدافعون من سينزل الدرج إلى الملعب قبل سواه، وكلهم؛ الشباب والبنات؛ يرتدون المريول المدرسي الموحد، علمًا بأن المدرسة ليست ابتدائية فحسب، بل هي تكميلية، تحتوي الصفوف من الابتدائي الأول وحتى الأساسي التاسع، وبعض الطلاب؛ أعني الشباب؛ أكبر من أعمارهم بشكل واضح، وبعضهم له شاربان ولحية، ولم نَعُدْ نستطيع استيعاب كيف يرتضون على أنفسهم هذا اللباس!
لا علينا من هذا! مرَّت تلك الأيام القاسية، وأنهيناها بنجاح بفضل الله تعالى، كما أنهينا الجامعة معها، لنحمل الشهادتين سويًا، ولكن، تم تأخير تعييننا سنة كاملة، كان علينا فيها أن نتعاقد على حساب صندوق المدرسة، والتعاقد ضروري، وذلك لسبب جوهري، فإن لم نجد مدرسة قريبة الآن _ كل المدارس بعيدة في محافظة أخرى _ فسنجد أنفسنا بعد ذلك في أبعد المدارس، ما يلزمه أضعافًا مضاعفة من الوقت للوصول إليها، عدا عن بردها الشديد الذي لا يُحتَمل.
وجدت مدرسة بصعوبة، لكن من دون برنامج، أي كان عليَّ أن أعطي التلاميذ بدل الأساتذة المتغيبين، وذلك إلى حين إعداد برنامج لي، جلستُ عدة أيام من دون أن أدخل الصف مرة واحدة، ثم حان اليوم الموعود أخيرًا... أتى الناظر آخر الحصة الثانية ليطلب إليَّ تأمين حصة في صف الأساسي السادس، الشعبة أ، الحصة الثالثة، وقبل أن يرتفع رنين الجرس بدقيقتين أو أكثر، تركت مقعدي، ليسألني الناظر بدهشة إلى أين أذهب؟ أجبتُه بحزم إن الأستاذ الناجح لا ينتظر رنين الجرس ليذهب إلى صفه، فهذه الثواني من حق التلاميذ، وتجاهلتُ هتافه المذهول (ماذا) الذي كاد يخترق أذني، وأنا أتجه إلى الصف، وحصل ما جعلني أتأخر رغمًا عني، ولكن، المهم هنا، أنني ما كدتُ أدخل الصف، حتى وقفتُ مكاني بدهشة وحيرة، فلقد واجهتني مفاجأة لم أكن أتوقعها... على الإطلاق!!
نهاية الجزء الأول
4/7/2018
الساعة: 6:50 صباحًا

رد مع اقتباس

المفضلات