بسم الله الرحمن الرحيم

الحلقة الخامسة


ضربتان ناريتان في خاصرتي!
وأنا أحدق؛ الآن؛ بعيني رجل الأمن، سائلًا نفسي بتوتر:
ما الذي يحدث؟ أأنا رهن الاعتقال، أم ماذا؟
ما هذا الذي فعلته يا ترى؟؟
ثم ألا توجد وسيلة للاعتقال أكثر (نعومة) من هذه الطريقة؟؟
شعرت بأن الزمان قد تجمد بنا هنا، ورفع رجل الأمن يده، ليشير نحو منطقة بعيدة عن التي نقف بها الآن، هاتفًا:
_ الصلاة يا رجل، الصلاة!

قالها، مشيرًا نحو جموع المصلين الذين كانوا في حالة السجود، لأدرك ما حولي، وسبب إيقاظي من قبل الأخ، وإن لم أغفر له الطريقة التي اتبعها، وارتفع صوت الإمام بالتكبير للقيام للركعة الثانية، ليتضاعف غضبي، مرة لإيقاظي بالركل، وأخرى لأنه لم يوقظني قبل ذلك، ما أضاع عليَّ اللحاق بالصلاة الأولى لنا جماعة في الحرم المدني، فوجدتُ نفسي أصرخ بوجه رجل الأمن:
_ لماذا لم توقظني قبل أن يبدأوا الصلاة؟! هل يؤلمك بطنك لو فعلت؟!

جمد الرجل مع هذه الصرخة، قبل أن يحتقن وجهه غضبًا، فأسرعتُ أهتف به مشتتًا انتباهه، كي لا أجد نفسي رهن الاعتقال فعلًا :
_ الصلاة يا رجل، الصلاة!

وأسرعتُ أنزل السلم الكهربائي المتحرك نحو دورات المياه والمغاسل لأتوضأ، ثم ارتددتُ إلى ساحة الحرم، داعيًا الله ألا أجد رجل الأمن هذا في انتظاري!
انضممت إلى جموع المصلين، وما كدت أرفع يدي للتكبير والبدء بالصلاة، حتى ابتعدت بسرعة، شاعرًا بالدهشة والاستنكار لما يحصل.
رجل انضم إلى صفوف المصلين، ليقف بجانبي، وهو يمسك بيد امرأة، أوقفها بجانبه معنا في صف الرجال، ورفع الرجل يده ليكبِّر، لكن أحد رجال الأمن صرخ به:
_ حجي، الحريم هناك!

رد الرجل بحزم:
_ زوجتي! لا أسمح لها أن تفارقني!

وهنا صاح به رجل الأمن صيحة هادرة، لم أميِّز حروفها، لكنها جمدت الأخ مكانه، ولم أر شخصًا خائفًا مثل ما رأيت في ملامحه، وأسرع الأخ يطلب من زوجته الذهاب إلى مصلى النساء، لأنضم؛ مجددًا؛ إلى الصف ملتحقًا بالمصلين، شاعرًا بالامتنان لرجل الأمن هذا، وحزمه المطلوب بمثل هذا الموقف، الذي كان كفيلًا بإبطال صلاتنا لو لم يتدخل رجل الأمن الرائع.

رجعت بعد الصلاة إلى الفندق، مؤجلًا البحث عن الروضة الشريفة داخل الحرم، وقبر المصطفى صلى الله عليه وسلم والصديق والفاروق خارج الحرم (كما كنت أظن وقتها)، إذ إنني لم أنَل كفايتي من النوم، ثم إنني كنت أشعر بألم شديد من مواطن الركل في خاصرتي، وشعرتُ بأنني بحاجة إلى نوم عميق، يزيل كل المتاعب والآلام، ولكن حتى النوم لم يكن مريحًا كما توقعت...
فمرة أخرى أستيقظ بطريقة سخيفة فعلًا!

حينما نمتُ كنتُ وحدي في الغرفة، وحضر أحد رفاقي خلال نومي، فجلس هادئًا يقرأ القرآن بينه وبين نفسه كي لا يوقظني، ثم انضم الزميلان الآخران إلى الغرفة، وأحدهما يصرخ كأنما اكتشف اكتشافًا نوويًا:
_ تخيل يا... تخيل! إنهم في السعودية يبيعون... يبيعون... يبيعون...
هتف الرفيق الذي كان في الغرفة، وقد نفد صبره:
_ يبيعون ماذا؟

اختنق صوت الأخ من الانفعال، ليتابع زميله بدلًا منه:
_ يبيعون الفساتين، تخيل!

دخل زميل خامس هنا، ليس معنا في الغرفة (يبدو أن غرفتنا تحولت موقف الباص، وأنا لا أعلم)، والمنفعل يتجاوز انفعاله ليهتف:
_ كنا نظن النساء في السعودية يلبسن الجلباب فقط، ولكن... (اكتشفنا) أنهم يبيعون الفساتين في السعودية!

هتف الزميل الذي انضم إلى الغرفة، محتارًا:
_ وماذا إن كانوا يبيعون الفساتين؟
وهتف الزميل الذي كان أولًا، مستنكرًا:
_ وأنتما، ما الذي ذهب بكما إلى محلات النسوان؟ آه؟

كنت قد استيقظت في بداية الصراخ هذا، مزعوجًا فعلًا، لمقاطعة نومي مرة ثانية، وأنا لم أكتفِ بعد، وبلغ انزعاجي مبلغه مع هذا الحوار (العميق) (المدهش) الـ... ولم أجد فعلًا ما هو أسخف من هذا (الاكتشاف) وما تلاه من (الانفعال)، فالأنثى هي الأنثى، ومن الطبيعي أن تحب ارتداء الفستان، ماذا في ذلك؟ هل يلزم الأمر هذا الصراخ؟

والأسخف من ذلك، أن أحد صاحبي هذا (الاكتشاف) نظر نحوي، متسائلًا:
_ ما رأيك؟
لو لم نكن قادمين لأداء العمرة، لأخبرته رأيي فعلًا، ليس بما يبيعونه في السعودية، بل بذكائه وألمعيته النادرين، لكني تمالكت أعصابي، لأجيبه بشكل فعلي، بأن أدير له ظهري، وأتابع نومي، أو أحاول ذلك!

حينما أفقتُ؛ هذه المرة؛ كنت أشعر بكثير من الارتياح والنشاط، توضأت وذهبت إلى الحرم بكل النشاط، وتمكنتُ؛ بفضل الله تعالى؛ من الصلاة في الروضة الشريفة، وبقيتُ فيها حتى أذان الظهر، وبعدها أردتُ (الذهاب) لإلقاء السلام على النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، لولا أني لم أكن أعرف مكانه فعليًا، لكن قلتُ لنفسي سأسأل، ومن لا يسأل لا يصل، لكن ظهر أمامي فجأة أحد زملائنا ممن أدوا العمرة سابقًا، وما إن علم بما أريد، حتى أخبرني بأن أمشي بخط مستقيم حتى نهاية الحرم، وهناك قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم، وبجانبه قبر الصديق، وقبر الفاروق، ونصحني الأخ نصيحة مستنكرة فعلًا!

طلب إليَّ؛ بكل بساطة؛ أن أذهب إلى باب الدخول لآتي بحذائي أولًا، وأحمله بيدي، ثم أتجه للسلام على المصطفى صلى الله عليه وسلم، لكني استهجنتُ هذه النصيحة المستنكرة، وتلك الفكرة العجيبة، إذ كيف لي أن أمُرَّ بقبر خير المرسلين صلى الله عليه وسلم، لأقرأه السلام، وأنا أحمل بيدي حذائي؟؟

تجاهلت نصيحته (السخيفة)، وسرت مع السائرين، حتى وصلتُ إلى مبتغاي، فألقيت السلام على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم على الصديق، فالفاروق، واستدرت أريد الرجوع، لكن ذلك كان أمرًا مستحيلًا بكل معنى الكلمة!

أعتقد أنني كنت أواجه حوالي ألف رجل في تلك اللحظات، ويجب أن أتخطاهم جميعًا لأستطيع الرجوع من حيث أتيت! وانتبهت إلى هتاف أحد رجال الأمن يطلب مني الخروج مباشرة من الباب الذي أمامي، كون الرجوع ممنوعًا، وكأني أستطيع الرجوع لو كان ذلك مسموحًا!

خرجتُ باستسلام من الباب أمامي، وفي اللحظة التالية شعرتُ بأنني أشم رائحة لحم يتم شَيُّه أسفل قدميَّ، فالبلاط كان ملتهبًا فعلًا في ظهيرة شهر آب (الشهر الثامن)، في السعودية!

أخذتُ أركض، والحرارة اللاهبة تزداد في قدمي، وتكاد تفقدني وعيي لفرط ما أعانيه من آلامها، ولم أكد أصدق أنني وصلتُ إلى الأبواب الرئيسة، فأسرعتُ أدخل الحرم مجددًا لأطلب الراحة، لكن (الأبخرة) ظلت تتصاعد من قدميَّ (مجازًا طبعًا لا حقيقة، لكن لشدة ما أشعر به من الاحتراق)، فرجعتُ سريعًا إلى الفندق، لأفتح في الحمام حنفية الماء الباردة (لو صح أن نسميها باردة)، وأخذت أغسل قدميَّ (المسكينتين)، وفي ذهني تتردد نصيحة رفيقي التي تجاهلتها، وليتني لم أفعل، لكن (يا ليت) لن تقدم شيئًا ولن تزيل هذه الآلام الفظيعة، للأسف!

أمضينا يومين في قصر الأشراف، ثم وضبنا أغراضنا، لينطلق بنا الباص نحو مكة، وتوقف بنا الباص في الميقات طبعًا، لنغتسل ونحرم، وأي إحساس رائع أحسسنا به آنذاك! سنؤدي العمرة، أول مرة في حياتنا، يا للروعة! يا للسعادة!
صلينا في المسجد هناك، وأعلنَّا بعدها نية الإحرام، مضيفين آخرها، كما كنتُ أعلم مسبقًا، وكما أكد لنا الآن مسؤول الرحلة:
_ فإن حبسني حابس، فَمَحِلِّي حيث حبسني.
وذلك كي نتمكن من التحلل من الإحرام، فيما لو تعرضنا لما يمنعنا من المتابعة إلى الحرم المكي.

انطلق بنا الباص إلى مكة، ونحن صامتون لا يتكلم بيننا أحد، ثم أخذ مسؤول الرحلة بالتكبير، ولم نعرف سبب التكبير، فكان التفاعل معه قليلًا، ليتوقف عن التكبير قائلًا لنا إنه سنة للمعتمر، وهكذا ملأ التكبير أرجاء الباص فترة طويلة، وما كاد يتوقف لنلتقط بعض أنفاسنا، حتى هتف أحد رفاقنا، وقد تذكر أمرًا مهمًا:
_ لكن، ألم تقولوا لنا إنكم ستعرضون لنا فلمًا تسجيليًا يعلمنا كيف نؤدي العمرة، صوتًا وصورة؟
رَدَّ المسؤول بحزم:
_ بلى، كله سيأتي في وقته، لا تقلقوا.

لم أفهم متى سيأتي (وقته) إن لم يكن الآن!
هل سنشاهد الفلم التعليمي، بعد أن نؤدي العمرة مثلًا؟

وصلنا إلى مكة مستبشرين، إذ إن الأمنية تقترب أكثر وأكثر، وما كادت مآذن الحرم المكي تلوح لنا، حتى تمتم أحد الزملاء بخيبة أمل:
_ مآذن الحرم في المدينة أحلى!

سأله أحد الزملاء متهكمًا:
_ وحضرتك، قادم لتؤدي العمرة، أم لتتصور مع المآذن؟!

كنت أتفق معه بهذا الرد، لكني لم أتدخل، رغم ميلي إلى السخرية بمثل هذه المواقف، ولكني أردت الابتعاد عن حوار قد يدخلنا في جدال لا معنى له، يضيع علينا الإحرام، والعمرة بالتالي.

وصلنا إلى الفندق (لا أذكر اسمه)، ووضعنا أغراضنا في الغرف، مرة أخرى تتجلى لنا كفاءة مسؤول الرحلة بتوزيع أسمائنا من دون إضاعة الوقت، وانطلقنا إلى الحرم مسرعين، سنؤدي العمرة الآن، سنرى الكعبة مباشرة من دون شاشات التلفاز، سنحقق الأمنية، بل الدعاء إلى الله تعالى أن يكتبها لنا...

ولكنْ... لقد نسينا أمرًا مهمًا فعلًا...
لنجد أننا أمام مفاجأة (سخيفة)، لم نكن نتصور أننا سنواجهها بمثل هذا الموقف النادر...
على الإطلاق!


تابعوا معنا.