بسم الله الرحمن الرحيم

الحلقة الخامسة عشرة

صحيح أنني إنسان شهير جدًا، سمع بي بعض الأشخاص فحسب، لكن...
ليس لهذا الحد العالمي!
من المؤكد أن هذه الفتاة التي تناديني ليست سعودية حتمًا، فلهجتها ليست اللهجة الخليجية التي تعودنا سماعها، بل لهجتها أقرب إلينا نحن، أهل الشام، لكن كيف تعرفني؟
أنا لم أدرِّس خارج لبنان على الإطلاق، فأنى لهذه الفتاة أن تعرفني، وتعرف مهنتي؟

حانت مني نظرة للبائع في محل دار البلاغ، وأحسست أنه متضايق مما يحصل،
مجرد إحساس أتاني، وربما لا يكون صحيحًا، ولكن طريقة هذه الفتاة في مناداتي ليست لائقة، إذ إنها تقف تصرخ باسمي في طابق يحتوي متاجر عديدة، ومليء بالناس ما بين باعة ومشترين...

نظرت إليها، لأجد أنني أمام فتاة، لم يسبق لي أن رأيتها في حياتي من قبل...
إطلاقًا!!
ترى؛ هل تنادي هذه الفتاة البائع، واسمه على اسمي مثلًا؟
لكن لا! لقد تابعت الفتاة بانفعال:
_ أستاذ عمر قزيحة، أستاذ عمر قزيحة!

وكانت الدهشة عارمة...
بحق!


لم يعد هناك أدنى احتمال أنها تنادي البائع، بل إنها تناديني، لكن كيف عرفت اسمي واسم عائلتي كذلك؟
وجدت نفسي أحدق بها، من دون انتباه لذلك، ولقد تابعَت هي بانفعال شديد:
_ اشترِ الشريط، صوته راااااائع.

كانت قراءة الشاطري رائعة فعلًا، لكني تجاوزت ذلك، لأسأل الفتاة بحذر:
_ ولكن، من أنتِ؟
اتسعت عيناها، وهي تهتف، كأنها مصدومة:
_ ماذا؟ من أنا؟ هل تمزح؟ أنا معكم في الرحلة، وكنت أجلس في المقعد الأول عن اليمين، قريبًا من مقعدك المشترك أنت وأخي، بل إنني لمحت الاستنكار في وجهك، حينما مددتُ ساقي لأضعها في...
قاطعتها قبل أن تسترسل في ذكرياتها:
_ آه، نعم، صحيح.
قلتُ ذلك، وأنا ألوم ذاكرتي الهزيلة هذه، مبتسمًا لطرافة الموقف، إذ ظننت أن شهرتي باتت عالمية، وانصرفت الفتاة لتبحث عما تريده داخل هذا الطابق الأرضي ضمن أبراج مكة، واشتريت أنا أشرطة الشاطري الجديدة، ثم رجعت إلى الفندق، ليدعوني زميلي في الغرفة لتناول علبة (بيبسي)، وقد كان مدمنًا عليه بشكل غريب، وفجأة اقتحمت أخته الغرفة، هاتفة بحماسة:
_ تخيل يا أخي، تخيل! السديس له صوت رائع جدًا، غير ذلك الصوت الذي يعرضونه لنا في التراويح، على التلفزيون!
ربما كان أخوها يريد التعليق، لكنها لم تمنحه الفرصة، بل تابعت بالحماسة ذاتها:
_ اسأل الأستاذ، كان معي في المحل، وقد سمع صوته المذهل.
قلتُ بهدوء:
_ من سمعنا صوته لم يكن السديس، بل كان الشاطري، وهو...
قاطعتني هاتفة بمنتهى الذهول:
_ كيف؟ هل يوجد في السعودية أحد يقف إمامًا غير السديس؟
رد أخوها متهكمًا:
_ لماذا؟ هل تظنين السعودية حارة بيتنا مثلًا؟ لا يوجد فيها سوى مسجد واحد!

تواصل الحوار بين الأخ وأخته، وأنا أتمنى انصرافها، فلقد كان الإرهاق عنيفًا جدًا، والصداع يشتد، وأشعر؛ فعلًا؛ بأنني لم أعد أستطيع الوقوف، ولما لم يحصل ذلك، خرجت من الغرفة محاولًا أن أستنشق بعض الهواء، وإذ برجل يبرز أمامي، يسألني باهتمام:
_ هل لمستَ الحجر الأسود يا عمر؟
أدركت أنه أحد رفاقنا في الرحلة (حتمًا)، ولا علاقة لـ(شهرتي) الخيالية طبعًا، وعمق هذا الإدراك أن وجهه كان مألوفًا، وإذ رأيت أنه يترقب الإجابة، أسرعت أقول:
_ لا، لم أصل، كان الزحام شديدًا.

مال نحوي، يهمس كأنما سيدلي بسر خطير:
_ ولا أنا!
هتفت ساخرًا:
_ تتكلم بجد؟!

أجاب جادًا، كأنما لم ينتبه لسخريتي هذه:
_ ولكني عرفت طريقة تجعلك تصل إليه، وتقبِّله، بل إن الشرطي الذي يقف بجواره سيكون مجبرًا؛ حتمًا؛ على تأمين الطريق لك.
شعرت بدهشة كبرى، إذ أستمع إلى هذا التصريح الخطير، وتابعت كلام الأخ باهتمام تام، لأسمع العجب العجاب:
_ الخطأ الذي نقع فيه جميعًا، أننا نحاول الوصول إلى الحجر الأسود مباشرة، والصحيح أن نصل بطريقة غير مباشرة، لو سرتَ بهدوء، ناحية الزاوية، وأمسكت بـ(الحبل) فقط، فلن يكون هناك مناص لرجل الأمن إلا أن يأخذك بيده لتلمس الحجر الأسود.
واتجه نحو غرفته، قائلًا بشهامة:
_ سنصلي العصر هناك، ثم نطوف معًا حول الكعبة، وسأقوم بإيصالك بنفسي حتى تمسك بالحبل لتصل إلى الحجر الأسود.
رجعت إلى غرفتي، لأجد أن الأخت قد انصرفت منها، والحمد لله، فارتميت على السرير، وأحاسيسي مزيج بين الإرهاق والسعادة، وقد صدقت القول السائر: (إن العبقرية تتسم بالأفكار البسيطة وحدها)، الرحلة الماضية تمكنت من الوصول إلى الحجر الأسود، لكن بمعجزة، وكاد أحد المعتمرين (العمالقة) يتسبب لي بأذى كبير، ما دفعني للمس الحجر الأسود وتقبيله، خلال ثانية أو ثانيتين، والفرار بعيدًا، أو محاولة الفرار، لكني تعرضت لضربة من ذلك العملاق ألقت بي بعيدًا...
ولم أسترسل في ذكرياتي هذه، فلقد غفوت فجأة...
غفوت وأفقت...
رغم مرور فارق زماني لا بأس به بين الأمرين، لكني لم أشعر بنفسي إلا وأنا أتذكر، ويرتفع صراخ رهيب بغتة، يَرُجُّ الطابق بأكمله، صراخ عاتٍ كاد يمزق أذني، فنهضت متوترًا، وجسمي لما يسترجع شيئًا من نشاطه بعد، وأسرعت خارج الغرفة لأرى ما يحصل...
ترى؛ هل اشتعلت النيران في طابقنا؟؟
أدعو الله ألا يكون هذا قد حدث!
اتسعت عيناي دهشة وألَمًا... فالمشهد الذي رأيته كان مؤلِمًا جدًا...
لقد مضى الوقت، وأذن العصر، وعلم الأخ أنني نائم، فذهب من دوني ليطبق طريقته في الوصول إلى الحجر الأسود...
صلى العصر، وأخذ بالطواف، وأمسك بالحبل مرتقبًا أن يفسح الشرطي له المكان، ولكن...
أمسك به بعض الناس من عنقه، وألقوه أرضًا بمنتهى القسوة، ما تسبب بتمزق ملابسه، وجرح ذراعيه، وإحدى ركبتيه، وتطير نظارته الطبية بعيدًا...
ولم ينته الأمر هنا طبعًا... فلقد داس بعض الناس على الرجل، لأنهم لم يستطيعوا تلافي جسده الذي وقع قرب أقدامهم فجأة...
وعلمتُ لاحقًا؛ كذلك، أن بعض الناس انتبهوا إليه، فألقوا بأنفسهم فوقه، لتزداد آلامه، لكنهم تعرضوا لبعض الدعس بدلًا منه، وربما لولا مبادرتهم النبيلة هذه لتكسرت أضلاعه، والله أعلم.

وبعد أن توقفت مسيرة الطائفين حول الكعبة، لينهض رفيقنا متكئًا على الأيادي، وينتبه إليه بعض رفاقنا في الرحلة نفسها، ويسرعوا بإسناده والسير به إلى الفندق، وهو يتألم بكل خطوة يخطوها، لتفاجأ به امرأته وأولاده، ويعلو صراخهم وبكاؤهم...

كنت أنظر إليه مشفقًا، وأنا أفكر أن الله تعالى قد رحمني، ولم أذهب معه لتنفيذ خطته الرائعة هذه، وإلا لنالني ما ناله، وربما أسوأ منه، لكن ما أثار استنكاري فعلًا أن الرجل نظر إليَّ، متمتمًا بلهجة اعتذارية:
_
لا تؤاخذني! لم أنتظرك لأنفذ لك الوعد! لكن، حينما يخف هذا الألم سآخذك معي لتمسك بالحبل، وتصل إلى الحجر الأسود، ربما غدًا!
سألتُه (غير مصدق ما يقول):
_ غدًا؟!

تمتم (بحياء أكبر):
_ غدًا، أو، أو بعد غد، نعم، بعد غد على الأكثر، لأن...
قاطعتُه (بحزم):
_ لا غدًا، ولا بعده، ولا بعد بعد بعده! أنا لا أريد الوصول إلى الحجر الأسود، ماشي؟!

هتف (مستنكرًا):
_ كيف؟ هل هناك من (يَصِحُّ) له أن يصل إلى الحجر الأسود ويرفض؟؟

قلتُ له (ببعض السخرية):
_ يا أخي، أنت (صِحّ) بالأول، وبعدها انظر إن كان (يَصِحّ لك) أن تصل إلى الحجر الأسود!

واستطردتُ (ببعض السخرية، لكنها أقوى من المرة السابقة):
لولا أن الله رحمني لأغفو، لذهبت معك، أفتريدني أن يرحمني ربي من عنده، فأرفض الرحمة، وألقي بنفسي إلى الهلاك!!

ولا أعلم هل كان يريد الاعتراض آنذاك، أم لا، إذ إنني انصرفتُ مسرعًا، رحمةً به طبعًا، ليدخله الزملاء غرفته، لعله يستريح قليلًا.
وما يزال منظر هذا المسكين، بملابسه الممزقة، وجروحه المتعددة، ماثلًا في ذهني، رغم اثنتي عشرة سنة تفصلنا عن هذا الحدث، بل ما يزال صوت بكاء عائلته الأليم، يَرِنُّ في مسامعي.
وأنَّى لفئات قليلة ممن يذهبون إلى العمرة أن يكونوا وحوشًا بهذا الشكل، ليلقوا بمن أمامهم أرضًا، كي يصلوا إلى الحجر الأسود قبلهم؟؟
وهل تُطلَب رحمة الله تعالى بهذا الشكل!!
عدت إلى غرفتي لأتوضأ، واتجهت إلى الحرم، لأصلي العصر منفردًا، وظللت في الحرم حتى صليت المغرب، ثم العشاء، ودخلت الأسواق الشعبية لأشتري أغراضًا لعائلتي، حتى كادت تنفد ورقة الخمسمئة الريال الأولى التي أمتلكها، وبقيت ورقة أخرى لم أستخدم منها شيئًا، فلا يزال أمامنا أيام عديدة هنا، ورجعت؛ بعدها؛ إلى الحرم، لأبقى حتى الفجر، ومن بعدها للضحى...
وكان هذا خطأً كبيرًا مني، إذ إن المرض اشتد بغتة، فخرجت أبحث عن صيدلية أبحث عن دواء يسكن الألم، ورجعت بالدواء إلى الفندق لأتناول منه حبتين، وأحاول النوم (قليلًا)، لكنني نمت (كثيرًا) للأسف! ساعات طوال مضت، وأكثر من صلاة اضطررت إلى قضائها، والحرارة تشتد في جسمي ثم تخفت على أثر الدواء بعد ما أتناوله بفترة، وهكذا، وجدت نفسي في الأمسية اللاحقة أصلي المغرب ثم العشاء في الحرم، ثم أرجع إلى الفندق مرة ثانية، مع بدء الآلام في رأسي، وإحساسي بارتفاع الحرارة مجددًا، لأنتبه إلى وجود صرافة قرب الفندق تمامًا، فأخرجت ورقة الخمسمئة ريال الثانية، وأعطيتها لأحد الرجلين في الصرافة، طالبًا أن يعطيني بدلًا منها فراطة (فكة)...
أمسك الأخ بالورقة المالية ونظر إليها بدهشة، ثم امتدت يده نحو سماعة الهاتف، قائلًا بصرامة:
_ سأبلغ عنك الشرطة!
قلت له متحمسًا:
_ بلغ!
كنت شاردًا، لا أصدق متى أتناول الدواء المسكن، ثم انتبهت إلى ما يحصل، ولمحت الصراف ينظر إلي بدهشة، وربما باستنكار، فهتفت به:
_ ماذا تقول؟ ستبلغ من؟
أجابني بحزم:
_ سأبلغ الشرطة طبعًا!

خطر لي أن هذا الرجل أحمق! هل سيبلغ الشرطة عني لأن معي ورقة مالية بخمسمئة ريال!
لماذا؟ هل تحظر السعودية التعامل بمثل هذه الورقة النقدية؟
ولماذا؛ إذًا؛ لم يعترض صاحب المحل الذي اشتريت من عنده بالخمسمئة ريال الأولى؟

لكن الصراف تابع بالحزم ذاته:
_ بتهمة ترويج أوراق نقد سعودية زائفة!

كان رَدُّه رهيبًا...
بل فظيعًا...
وينذر بموقف رهيب سأقبل عليه، ولا أحد يعلم كيف سينتهي...
بدا لي خيال السجن واضحًا جليًا...
وارتجف جسمي بخوف شديد.

تابعوا معنا