روابط اجتماعية
منذ زمان بعيد، بدأت بالكتابة القصصية، وقد لا أبالغ إن قلت إنني أكتب القصص منذ ثلاث وثلاثين سنة، مع أنني لم أتخط الأربعين بعد، لكني أكتب من وقت الطفولة، ومن بدايتي في المرحلة الابتدائية...
أتت أوقات وسنوات لم أكتب فيها حرفًا، لكني؛ إذ رجعت إلى عالم الكتابة القصصية أهملت نهائيًا الواجبات والروابط الاجتماعية، وأنا أساسًا لا أميل إليها كثيرًا، لكن استغراقي في الكتابة أنساني الكثير من هذه الأمور...
أذكر يومًا ما أنني كنت نائمًا، وأفقت على صوت دق الباب، قمت لأفتح متضايقًا لانقطاع النوم، فوجدت فتاة تقف أمام الباب، تسألني: (هل خالي هنا)؟ فنظرت إلى الصالون لأتأكد أنه لا يوجد أحد! وهكذا، بكل ثقة أجبت: (لا، خالكِ ليس هنا)! وإذ بأمي _ رحمها الله _ وقد أتت لترى من الذي يزورنا، تفاجأ بما أقوله، وتهتف بي: (هذه ابنة عمتك)!
بصراحة، لم أذكر أنني قد رأيت هذه الفتاة من قبل على الإطلاق لكن أمي تقول لي إنها ابنة عمتي، وبالتالي لا بد من أنها كذلك فعلًا!
ولكن الأمر لا يتوقف هنا، فبعد مدة من الوقت، كنت مغادرًا البيت لأشتري بعض الأغراض للوالدة، وإذ بفتاة (أخرى) في مدخل البناية، ما كادت تراني حتى سألتني: (هل خالي هنا)؟ وأعتقد أنني أجبتها إجابة ساخرة حول أنني لا أعرف من هو خالها ولا أين يمكن أن يكون، وما المقصود بـ(فوق) والبناية ثلاثة طوابق، كل طابق من شقتين... إلخ... وفي ما بعد، عرفت أنها ليست بفتاة (أخرى)، بل هي (نفسها)! ابنة عمتي التي رأيتها المرة الماضية
تمر السنوات وأضطر أحيانًا لحضور بعض الواجبات الاجتماعية، ويبدأ العذاب! (ألا تعرفها؟ إنها ابنة خالتك! وهذه؟ ابنة خالك، وتلك ابنة عمتك)... وأنسى الأسماء كلها بعد ثوان قليلة، وهو رقم قياسي بالنسبة إلي، فمن المعتاد أن أنسى الاسم بعد ثانية واحدة، أو ربما قبل مرور هذه الثانية...
ومرة التقى بي شاب في طرابلس، وسألني ألا أعرفه؟ بدا لي شبيهًا بتلميذ علمته في ما مضى، فأخبرته (بكل ثقة) أنه تلميذي السابق، ولا أعلم ما الذي أحس به (ابن خالي)، وهو يسمع هذا الرد الواثق على أنني أصبحت أكثر حذرًا، وإذ سمعت من يناديني مرة في بيروت، لأرى شابًا آخر يسألني إن كنت أعرفه، لم أفترض نهائيًا أنه تلميذي السابق ولا الحالي، بل أجبته، وبكل بساطة، أنني لا أعرفه! وأظن أنه قد صُدِمَ قليلًا، فهو (ابن خالي)، والحمد لله أنه غير الأول، أي أن ذاكرتي لم تخنِّي بعد، والحمد لله...
ومرتان أو ثلاث، خلال سنة واحدة، موقف واحد تكرر، شاب يسألني بعد خروجنا من المسجد وأداء صلاة الجمعة، هل أعرفه؟ ويبدو لي شكله مألوفًا، و(أعتصر) ذاكرتي الحديدية! نعم أعلم أنني التقيته من قبل، لكن أين؟ أين؟ وإذ به ابن بنت عمتي (كما يقول طبعًا، فلم أحفظ اسمه رغم أنه أخبرني به أكثر من مرة وأعتقد أنني لو رأيته مرة أخرى فلن أعرف أنه ابن بنت عمتي)
تغيرت طبيعة عزائم الأعراس لدينا بعض الشيء، قديمًا كان الرجال في مكان والنساء في مكان، ونهاية العرس، أعني تكرم النساء علينا بإنهائه، بعد التعب من النط والتصفيق و(تفلية العروس من رأسها لرجليها)، يدخل الرجل على عروسه وسط زغاريد المهنئات، إلخ...
على أننا الآن نرى أنفسنا في قاعة كبيرة، وطاولات عائلية، لأرى أمامي من أقربائي وقريباتي من لا أعتقد أنني قد رأيته في حياتي من قبل إطلاقًا... ولا علاقة للكتابة القصصية (وحدها) هذه المرة، بل إن ضغط العمل ازداد كثيرًا، ما بين التدريس وسواه، فلم يَعُد عندي أدنى وقت لأعرف من يكون هذا، ومن تكون تلك... المهم أنها جلسة هادئة تمامًا، إلى أن (يظهر) العروسان آخرها، وتبدأ الزغاريد مجددًا (من أسوأ وسائل التعذيب بالنسبة إليَّ أرى صوتها مثل الولولة فوق القبور، ولا أعلم من هذا العبقري الذي اخترعها)
وصدقوني! كل شيء يهون، إلا أن تكاد هذه الروابط الاجتماعية تقودك إلى حتفك مصابًا بالسكتة القلبية، وبرابط اجتماعي فريد من نوعه، وكان ذلك من إحدى وعشرين سنة تقريبًا، ولا أذكر التاريخ إلا لأنني كنت طالبًا في القسم الثاني آنذاك، وذهبت إلى بيت أختي لتساعدني ببعض المواد العلمية، وكان الدرج حالك الظلام، وصلت إلى السطح، وأنا أبحث عن بيت أختي
عاودت النزول لأدق بابها فلم يفتح أحد، تابعت طريقي، لأفاجأ برابط اجتماعي لم يسبق له مثيل! امرأة أحست بخطواتي على الدرج، فكمنت في الزواية في الظلام، ثم برزت أمامي بعد أن عرفتني، والعصا التي تتكئ عليها، قد باتت فوق رأسها لسبب ما، صارخة بصوت مرعب، ويا لها من مفاجأة لطيفة ظريفة أن تكون تنزل الدرج في أمان الله، وإذ بـ(شيء ما) له (قرن طويل) ينبت فجأة من العدم ليصرخ في وجهك...
ولقد كانت صرختها (ترحيبية)! فحضرتها تقربنا فعلًا! تمنيت لو أنها لم تعرفني، لرحمتني من هذا العذاب، ولكم شعرت بنبرة الاستنكار في صوتها حينما أدركَت أنني لا أعرفها، ولكم بدا الفخر في نبرة صوتها الحنون، إذ تخبرني: (أنا زوجة جد ابن خالتك)!
لو أخبروني بأنني سأقف هذا الموقف يومًا ما، لزرت كل أقربائي وقريباتي قبل ذلك بسنة، ويوميًا، حتى أحفظ الروابط الاجتماعية، وأستطيع أن أفهم مدى القرابة (الرائعة) في ما بيني، وبين (زوجة جد ابن خالتي)، بدلًا من أقف موقفًا طريفًا مثل هذا، لأعتقد أن جنيًا (قليل الأدب) أراد إخافتي بصراخه المفاجئ في الظلام، ما دفع بي إلى التساؤل، إن كان قد أخذ هذه العادة من بعض الأغبياء من بني البشر؟!
أنا أميل إلى الانطوائية قليلًا، بل كثيرًا، وضغط العمل المستمر لا يترك لي الفرصة لأي أمر آخر، لذا؛ أرجو إن رآني أحد يقربني، أو يظن أنه يفعل ذلك، أرجوه ألا يضيع وقتي ووقته في (الحزازير) حول من يكون، وأن يعرفني بنفسه مباشرة، وليفعل ذلك واثقًا أنني لا أعرفه حتمًا، كما أرجو، ومن كل قلبي، ألا يثب أمامي في الظلام الدامس ليخبرني بمدى قرابته السعيدة هذه وذلك لئلا أظنه جنيًا قد غادر عالمه إلى عالمنا، أو على الأقل (وحيد قرن) من نوع فريد!!
(أ. عمر قزيحة: 17_9_2018: الساعة: 17:56 مساء)
المفضلات