الحلقة الخامسة (المراهقة)

الثراء لا يجعل الإنسان سعيدًا...
شَبَّ مروان، وهو يشعر بوحدة قاتلة...
وبملل بلا حدود...
لم يكن يميل إلى الاختلاط بالآخرين...
كان أشبه بالتمثال...
وطيلة سنوات دراسته الابتدائية والمتوسطة، لم يحدث احتكاك بينه وبين والده...
لم يسأله الأخير إن كان يعاني مشاكل في دروسه...
أو مع أساتذته...
مع العلم بأن أحدًا منهم لا يجرؤ على أن يخطئ في حق مروان...
والعجيب أنه _ ورغم تلك الحياة الجليدية _ تفوق مروان إلى حَدٍّ كبير في دراسته...
ثم نال الشهادة المتوسطة...
نالها، ووالده لا يعرف بذلك حتى!
لم يكن يعرف في أي صف ابنه، بل لم يكن يبالي بهذا الأمر!
ودخل مروان المدرسة الثانوية...
وهناك، أصابه ما يصيب جميع الشباب...
أو معظمهم...
بدأ بمراهقة عنيفة...
ولكن، أية مراهقة هذه، يَمُرُّ بها ولد لا يشعر أساسًا بسلطة الأب وسيطرته؟
لذا؛ لم تكن مراهقة مروان عادية كمراهقة الآخرين...
ما كان لصاحب كل هذا الغرور أن يلقي بالمفرقعات النارية في الصف...
ولا أن يقلد أصوات الحيوانات!
فهذا في رأيه سخف لا معنى له...
أية لذة يجدها الإنسان في تقليد أصوات الحيوانات، صائحًا كالديك ناهقًا كالحمار؟!
إذًا، كيف تفجرت مراهقة مروان؟
وبِمَ تمثلت؟
لمعرفة ذلك، لا بد لنا من الرجوع إلى القصة الآتية.

***

مهما بلغ انفلات التلاميذ في قواعد الأدب في أي صف، وفي أية مدرسة، لا بد من وجود أستاذ _ أو معلمة _ يجبرهم على التزام الهدوء والتهذيب في حصته...
وفي تلك المدرسة التي يبدأ فيها مروان مرحلته الثانوية، لعبت الوساطة دورها في دخول امرأة أحد ضباط المخابرات للتدريس فيها...
وكانت قاسية للغاية في تعاملها مع هذه التجاوزات...
بل شرسة جدًا لو توخينا الدقة...
ولقسوتها وقرابتها هابها التلاميذ...
وكرهوها بسبب العصا الغليظة التي لا تفارق يدها...
مع أنها الوحيدة في الثانوية كلها التي تحمل عصا!
فالتلاميذ لم يعودوا صغارًا، ولكن من يجرؤ على الاعتراض؟!
المهم أنه، وبعد أسبوع واحد من بداية السنة الدراسية، كان أحد التلاميذ يفكر في قوة الصافرة التي سيطلقها في الحصة التالية، وذلك في حصة المعلمة القاسية هذه...
ومع تفكيره _ بل مع انهماكه في التفكير _ أفلتت منه الصافرة...
وهنا، قررت المعلمة أن تعاقب جميع صبيان الصف...
نعم، الجميع...
فعمليًا، هي في مركز أقوى من مركز والد مروان...
ولا يعنيها في شيء كونه من كبار رجال الأعمال، ولا حتى أنه يمتلك طائرة خاصة به!
بالإضافة إلى وجود صفقات تجارية قوية بين شركة والد مروان، ودار نشر تمتلكها هي...
وبما أن السيد (علي) لم يكن يسمح لأحد أن يقف في طريق طموحاته، كانت أوامره لابنه واضحة وصارمة...
كانت تلك المرة الوحيدة التي تدخل فيها السيد (علي) في أمور حياة ولده...
وبكلمات قليلة موجزة، قال الأب لابنه، ذات يوم:
_ اسمع يا مروان، السيدة (ليلى) أخبرتني أنك تلميذ في صفها، أنا لا أتدخل في دراستك ولا يعنيني في شيء أن ترسب أو تنجح، ولكن...
وقسا صوت الأب كثيرًا، إذ يتابع:
_ رضا السيدة (ليلى) عنا يعني أموالًا تتدفق علينا بلا حدود، وزيادة في مركزي الاجتماعي والثقافي، لذا إن حاولتَ إغضابها سأذبحك بيدي!
استرجع ذهن مروان تلك الكلمات، والسيدة (ليلى) تحمل عصاها متجهة نحوه...
لم يجادلها مروان، ولا بكلمة...
لكنه ما كان ليسمح لأحد بأن يضربه، حتى لو كان سينهار والده ويتسول المال بعد ذلك!
وكان الحل، ببساطة، أن غادر مروان الصف من دون أن ينطق بكلمة واحدة...
بل وبدا للجميع أشبه بصنم يتحرك، لجمود ملامحه، وكأنما لا يسمع صراخ المعلمة:
_ سترى يا هذا، سأكسر رجليك، بل ورأسك نفسه، إن حاولت دخول الصف مرة أخرى.

وفي اليوم التالي بدأ مروان مراهقته...
ولئن كانت المراهقة خروجًا عن السلطة وإثباتًا للذات، فإن مروان لم يكن بحاجة إلى مراهقة كالتي يمر بها سائر الشباب...
بل توجهت مراهقته إلى مضمار آخر...
ازدادت عزلته أكثر...
وبدا فعلًا مثل تمثال تم صنعه بإتقان، إذ يستطيع الجمود مكانه ساعات طوال، بلا كلام ولا حراك!
وأهمل مروان دروسه تمامًا...
وبدأت علاماته تتتدنى.