وهذا مثال تطبيقي آخر حول قصة تبتدئ بالترويسة:
سهرة من العمر
سهرةٌ من العمرِ قَضَيْتُها معَ عائلتي مساء الجمعة الماضي، كان اللقاءُ مناسبةً لتكريم خالي العائد إلى الوطن بعد سنوات طويلة من الاغتراب. تنوَّعت موضوعات الحوار بيننا حتى استقرَّ بنا المطاف حول قضية الكفاح والنجاح، فَالْتَفَتَ خالي إلى الحاضرين بنظرةٍ ملؤها الحُبُّ، وقال: "أنصتوا إليَّ، سأروي لكم رحلة صديق خاض بزورق الأمل والعمر بحر الحياة العاصف، حتى وصل إلى بَرِّ التفوق". نشأ بشير في أسرة فقيرة، واكتسب من أبيه الثقة بالنفس، وارتسمت في مُخيِّلته صورٌ جميلة عن المستقبل الواعد، لكن يد الردى خَطَفَت رَبَّ الأسرةِ في حادثٍ مُرَوِّعٍ! كان على الفتى اليافع أن يتحمل مسؤولية يَنُوء بها الرجال، وهو غضٌ طريُّ العود. لقد أصبح مسؤولًا عن أسرة مُكَوَّنة من أم أنْهَكَها المرض، وثلاث أخوات أكبرهن في التاسعة، وأمام الحدث الجلل سارع إلى العمل في ورشة صغيرة، لكنه لم يترك العلم، فكان يستعير الكتب من زملائه السابقين، ليدرس ما فاتَهُ على مقاعد الدراسة، ولم تمضِ بضع سنوات حتى كان هذا العامل يحتفل مع أسرته بنيله الشهادة الثانوية بامتياز. تابع خالي، والصمت مخيِّم علينا: "كان طموح بشير بلا حدود! لقد انتقل إلى عمل آخر، وفي الوقت نفسه أصبح في عداد الطلاب الجامعيين"... هنا قاطع أبي متسائلًا باستغراب: "يا أبا نزار، كيف استطاع صاحبك أن يجمع بين الدراسة والعمل"؟ بصوته الهادئ، أجاب خالي مبتسمًا: "ليتك تعرف بشيرًا، إنه يمتلك إرادة صلبة كالصخر لا تلين... لقد تآمر عليه رئيس العمال، وتسبَّب بطرده من العمل، وهو بأمسِّ الحاجة إلى المال لتغطية مصاريف الأسرة ونفقات الدراسة الجامعية... أتدرون ماذا فعل عندما سُدَّتِ الأبواب في وجهه؟ لقد اشتغل عامل تنظيف في مطعم صغير يمسح الأرض وينظف الصحون"... قلت: "يا خال، ألم يشعرْ صديقك بالإحباط، ويَئِنَّ من اليأس"؟ قال: "منذ سنة، كنت جالسًا معه في مكتبه، حيث يشغل المدير العام لإحدى الشركات العملاقة في كندا، وسألته السؤال نفسه، فأجاب: هل تصدق يا أبا نزار؟ لقد مرَّت عليَّ ليال كنت أبيت فيها على الطوى، وأذهب في الصباح الباكر إلى العمل مشيًا على الأقدام، لأنني لا أملك ثمن تذكرة الحافلة... لكن إيماني لم يهتز، وثقتي بالنجاح لم تخب، فبصيص الأمل كان ينير قلبي، ويمدني بالعزيمة والهمة".
عبد السلام عبد الله[1].

نلحظ بدء القصة بكلام الكاتب عن السهرة التي قضاها مع عائلته لتكريم خاله، غير أن القصة الحقيقية يحكيها الخال، أي أن لدينا راويين في القصة، الكاتب في التمهيد، والخال في تسلسل أحداث القصة، وبالتالي كلام الخال لا يدخل ضمن المؤشرات ولا ضمن البُنْيَة.
وإذا أردنا أن نستخرج مؤشرات النمط السردي من هذه القصة، فستكون وفق النحو الآتي:
أ_ الزمان: طفولة بشير[2].
المكان: كندا.
ب_ أدوات الربط المتعلقة بالزمان: لقد أصبح، فكان، تمض بضع سنوات...

ت_ الشخصيات: بشير، والده، أم بشير، أخواته الثلاث، رئيس العمال، الخال
[3].
ث_ الأفعال الماضية: نشأ، اكتسب، أصبح، فات، انتقل، تآمر...
ج_ تسلسل الأحداث: طموح بشير إلى المستقبل، وموت والده المفاجئ، ليندفع بشير إلى العمل والدراسة معًا، وتَسبُّب نجاح بشير بمؤامرة من رئيس العمال لطرده، لكن بشيرًا لم ييأس، بل تابع العمل في أماكن أخرى حتى حقق النجاح التام.
ح_ الجمل الخبرية: نشأ بشير في أسرة فقيرة، يد الردى خطفت رب الأسرة، أمام الحدث الجلل سارع إلى العمل، كان يستعير الكتب من زملائه السابقين ليدرس...
خ_ ضمير الغائب: نشأ، أبيه، مخيلته، يتحمل، هو، سارع، يترك، وجهه، اشتغل...
وضمير المتكلم: عليَّ، كنتُ، أبيتُ، أذهبُ، لأنني، أملك...

أما بُنْيَة النمط السردي، فهي، في هذا النص، الآتية:
أ_ الوضع الأولي: نشوء بشير في أسرة فقيرة.
ب_ الحدث المبدل: موت والد بشير في حادث مُرَوِّع.
ت_ العقدة: عمل بشير، وطرده من العمل بسبب مؤامرة.
ث_ الحل: مسح بشير الأرض وتنظيفه الصحون في مطعم صغير.
ج_ الوضع النهائي: وصول بشير إلى النجاح في حياته.

أما إذا سألنا عن (المرسِل) هنا، فهو (بشير) بطل النص، ونوع النص يتراوح بين السيرة الغيريَّة، كون الخال يحكي ما حصل لبشير، ثم السيرة الذاتية المتمثلة في كلام بطل القصة بشير، ولكن الغالب السيرة الغيرية، بتنويع قليل مع السيرة الذاتية، وهذا التنويع بين الضمائر يضفي على النص صبغة جمالية متميزة، تجعله أكثر إبداعًا، وتعطي القارئ التشويق إلى المتابعة.
[HR][/HR][1] أورد الكاتب هذه القصة في كتابه "زاد الطالب" لصف الأساسي الثامن، والذي أصدره بالاشتراك مع إحسان عطايا.
[2] يدلنا على ذلك وصف الفتى بـ(اليافع).
[3] وذلك لاعتبار حواره وبشيرًا بطل القصة، أي أن الخال بات ضمن الشخصيات الثانوية، ولو اكتفى الخال برواية ما حصل لبشير من دون أن يذكر حواره معه، لما دخل ضمن الشخصيات.