وهذا نموذج ثالث، لنص سردي، يبتدئ بالترويسة:
غزالة الصحراء
للصيادين، إذا كانوا في مجالسهم، أحاديث هي العجب العجاب. وقد كنا، البارحةَ، نُصغِي إلى أحد مشاهيرِهم _ ولَعلَّه الصياد الأول في لبنان_ يروي لنا أصناف الصيد ومآثِرَه فيها. وفجأة انقطع عن الكلام واربدَّ وجهه، ثم أجال بصَرَه فينا، وقال: _ والغزلان، لم تسألوني عنها! فلما اطمأن إلى إثارة ما يريد من فضول، قال: _ مرةً واحدةً في حياتي. كنا ثلاثةً في رحلةٍ لنا بين بيروتَ وبغدادَ. فلمَّا وصَلنَا إلى صحراءِ "الرطبةِ" إذا بِغَزَالَةٍ تَطلُعُ لَنَا عن بُعْدٍ، من النوع الظريفِ الرشيقِ الذي يألَفُ تلك الجهات. ورابَها هديرُ السيارة فَأتلَعَتْ عنقها تَتَنَصَّت، ثم ركَنتْ إلى الفرارِ. فَاندَفَعنَا وراءَهَا نَستَحِثُّ السائقَ ونُطلِقُ عليها، بلا وعي، من بنادقِنا الثلاث، وهيَ ماضيةٌ تَنهبُ الأرضَ. ثم إذا هيَ تَنكَفِئُ إلى الوراءِ انكفاءةً، فَلَمْ نَشُكَّ في أنها أُصِيبَتْ. ولكنها لم تلبثْ أنْ مَالَتْ يَمينًا فَمِلْنَا في إِثرِها، فَيَسارًا فَتَبِعنَاها، ثم أعادَتِ الكرَّة ونحن نلحقُ بها ونسدُّ عليها المنافذ. وما زلنا بها حتى أَعيَتْها الحيلُ، فَجَعَلَتْ تدورُ على نفسها كالسكرى، ثم أدركها الجهدُ وأَلَحَّتْ بها جراحها، فَوقَفَتْ في العراءِ لا تُبدِي ولا تُعيد. حِينَئذٍ _قالَ صاحبُنا_ أَشَرْنا على السَّائقِ وتَرَجَّلنَا ماشِينَ إليها، نريدُ أخذَها حَيَّة، وقد وَضَعْنا أصابعَنا على أزنادِ البنادق، مُتُهَيِّئينِ لإطلاقِ الرصاصِ إذا حَاولَتِ الهرب، ولكنها لم تتحرك. فلما صِرْنَا على خُطْوَتينِ منها مَالَتْ بوجهها ببطء، ورَمَتْنَا من عَليائِها بِنظرَةِ احتقار، ثم وَقَعَتْ... قال: فَكَاَدت البندقيةُ تَقَع من يَدِي. ومنذُ تلكَ اللحظةِ لم أَعُدْ إلى صيدِ الغزلان.
توفيق يوسف عوَّاد_ العذارى _ 1944م.

الكاتب توفيق يوسف عوَّاد يروي لنا القصة، غير أن دوره فيها اقتصر على جلوسه في مجلس الصيادين فحسب واستماعه إلى قصة الصياد، الراوي الأساسي، إذًا، هو الصياد، والراوي الثانوي هو توفيق يوسف عوَّاد، وبالتالي نحدِّد مؤشرات النمط السردي من خلال حكاية الصياد فحسب، وكذلك نحدد بُنْيَة النمط السردي.
إذًا، مؤشرات النمط السردي في هذه القصة هي الآتية:
أ_ الزمان: مرة في حياة الصياد[1].
المكان: صحراء الرطبة
[2].
ب_ أدوات الربط المتعلقة بالزمان: لَمَّا، إذا، فــ، ثم، ثم إذا، حينئذ...
ت_ الشخصيات: الصياد، رفيقا الصياد، السائق، الغزالة.
ث_ الأفعال الماضية: وصلنَا، رابَها، أتْلَعَت، رَكَنَت، انْدَفَعْنَا...
ج_ تسلسل الأحداث: خروج الصيادين في رحلة صيد، وظهور غزالة أمامهم، واندفاعهم في مطاردتها حتى إصابتها وموتها، ما جعل أحدهم يشعر بالندم.
ح_ الجمل الخبرية: كنا ثلاثةً في رحلة، رابها هديرُ السيَّارة، فاندَفَعنَا وراءها، وما زلنا بها حتى أعْيَتها الحيل...
خ_ ضمير المتكلم: حياتي، كنا، وصلنَا، لنا، نستحثُّ، ماشينَ، نريد...

أما بُنْيَة النمط السردي، في هذه القصة، فهي الآتية:
أ_ الوضع الأولي: ثلاثة صيادين في رحلة صيد.
ب_ الحدث المبدل: ظهور غزالة بشكل مفاجئ.
ت_ العقدة: مطاردة الغزالة وإصابتها بالرصاص.
ث_ الحل: موت الغزالة متأثرة بجراحها.
ج_ الوضع النهائي: ندم الصياد وتوبته عن الصيد.

وإذا أردنا تحديد المرسِل هنا، فهو ليس الكاتب، بل هو الصياد، كون حكاية الكاتب تدخل في الترويسة لا في الأحداث، وبالتالي: المرسَل إليه: الصيادون. الغاية من المرسَلة: دعوتهم إلى ترك الصيد.
[HR][/HR][1] لا نحدِّد الزمان هنا على أنه "أمس"، بل حددناه من خلال حكاية الراوي الأساسي.
[2] صحراء الرطبة حيث دارت أحداث القصة التي يحكيها الراوي الأساسي، لا مجلس الصيادين.