حُكِي أن صيادًا صاد ذات يوم سمكةً واحدةً كبيرةً، فلم يَجِد مَنْ يشتريها منه، ليبتاع[1] بثمنها خبزًا لأولاده، فأخذها وأعطاها لامرأته، لِتُصْلِحَهَا عشاء لهم، فقالت: بل الأَوْلَى أن تأخذَها إلى أمير البلد، وتُقدِّمَها له هديةً فَيُكْرِمَكَ بأضعاف ثمنها، فتشتري لنا خبزًا، ويبقى معنا فَضْلٌ للغد وما يَلِيه". فأبى أولًا بحجة عدم تحقق النوال[2]، ثم عمل بمشورتها، تخلصًا من إلحاحها، ولكنه لم يأخذ من الأمير إلا كلمة (عافاك)! فعاد على عقبه صفر اليدين، فحكى لامرأته ما قال له الأمير، فاكتأبت وقامت إلى جيرانها، فاسْتَقْرَضَتْ من الخبز ما به شبعة للأولاد في ذلك المساء. في الغد، ألقى شبكته في البحر، فاشتملت على سمكة أكبر من تلك، فأشارت عليه مشورتها الأولى، وبعد (قال وقيل) سمع لها، وذهب إلى الأمير، وقَدَّمَها له، فَقَبِلَهَا بوجه باشٍّ[3]، وقال له: (عافاك، عافاك)! فانثنى الصياد على عَقِبِه[4] مغمومًا، وقال لامرأته مغضبًا: "ألم أقل لكِ إنه لا خير في هذه التقدمة؟ قومي، أطعمي الأولاد بدل قوتهم الذي أفقدتِهم إياه برأيكِ الفاسد". فقامت للحال، وفعلت فعلها الأول. في صباح الغد، ذهب وألقى شبكته، فأصاب سمكة أكبر من السمكتين الأوليين، فجاءَ امرأتَه قائلًا: "لا جرم[5] أنكِ تجعلينها هذه المرة طعامًا للأولاد، بعد أن فَالَ[6] رأيكِ مرتين". قالت: "تسمع لي هذه المرة أيضًا[7]، وتفعل من بعدها ما تشاء"، فَتَعَوَّذ بالله، ومضى فقدَّمَها إلى الأمير، فَقَبِلَها منه ببشاشة وسرور، وقال له: (عافاك، عافاك، عافاك). فانكفأ[8] الصياد إلى بيته ساخطًا، وأخبر امرأته بما جرى، فقالت له: "لا تحزن يا رجل، فغدًا، إن شاء الله، تنال أضعاف أضعاف ثمن السمكات، فعليك بالصبر إلى الغد، وإن غدًا لناظره قريب". بات الرجل بَحَوبَة سوء[9]، ولم يصدق أن انفجر الصبح، حتى طالبها بإنجاز الوعد، فقالت له: "قُمْ، اتبعني"، فقام، وتبعها إلى السوق، ولما كادت تصل إلى دكان صائغ، قالت له: "سأختار من عند هذا الصائغ سوارين، ثم أقول لك ادفع ثمنهما، وحينئذٍ تفعل ذَيْتَ وذَيْتَ، وتقول كَيْتَ وكَيْتَ"، قال: "سأكون لكِ مطواعًا هذه المرة أيضًا[10]، لأرى نتيجة آرائكِ". لما بلغ دكان الصائغ، انتَقَتْ سوارَينِ ثمينين، وبعد التساوم اتفقا على أن يكون ثمنها[11] ثلاث ليرات. حينئذ سَلَّمَتْهما إلى زوجها قائلة: "خذهما وانْقُدْهُ ثمنهما"، فَمَدَّ الصائغ يده، فإذا بالصياد يَعُدُّ فوقها قائلًا: "عافاك، عافاك، عافاك". فَبُهِتَ الصائغ، وقال له: "أتسخر بي يا رجل؟ ما هذا"؟ قال: "هي الليرات الثلاث، ويجب عليك أن تقبضها راضيًا، لأنها سِكَّة الأمير، وإلا حلَّ بك العقاب". علا الصياح، وكَثُرَ اللغط[12]، واجتمع إليهما مَن في السوق، وأفضى النزاع بينهما[13] أن يترافعا إلى الأمير، فانطلقا إليه معًا، وقَصَّ عليه الصائغ ما جرى، فَأَبِهَ[14] الأمير حالًا لتقصيره في مكافأة الصياد على سَمَكاتِه، وسُرَّ من الطريقة التي اسْتَنْبَطَها[15] لِتَنْبِيهِهِ لما فاته عمله، فالتفت إلى الصائغ ونَقَدَه ثلاث ليرات[16]، وأوعز[17] إليه أن "عُدْ إلى دكانك"، فقبضها وعاد. عند خروجه اسْتَدْنى[18] الأميرُ الصيادَ، ونَقَدَه ثلاث ليراتٍ أخرى، قائلًا: "خذ هذه أيضًا[19]، علاوةً على السوارين[20]، وأنْفِقْها في ما تحتاج إليه. ولولا أنك محق، لما أضْرَبْتُ[21] عن توبيخك على ما فعلتَ". فَقَبَّل الصياد يَدَه، ودعا له دعاءً طويلًا، وانصرف مسرورًا.نص (الصياد والأمير)المطران جرمانوس معقد (ولم أعثر على توثيق القصة).
[HR][/HR][1] يبتاع: يشتري.
[2] النوال: العطاء.
[3] باش: مبتسم.
[4] انثنى على عقبه: عاد من حيث أتى.
[5] لا جَرَمَ: لا بُدَّ، لا شَكَّ.
[6] فَالَ: خَابَ.
[7] أيضًا: لا أرى صوابَ استخدامها هنا، لكنني أنقل القصة كما وَرَدَتْ، و(أيضًا) مفعول مطلق، لفعل (آَضَ) بالماضي، و(يِئِيْضُ) بالمضارع، بمعنى عاد إلى أهله.
[8] انكفأ: عاد خائبًا.
[9] الحَوبَة: الحاجة والهم.
[10] أيضًا: سَبَقَ بيانُها.
[11] الصواب: ثمنهما.
[12] اللغط: الصوت والضجة.
[13] أفضى النزاع بينهما: وصل النزاع بهما، أَدَّى النزاع بهما إلى...
[14] أَبِهَ: انْتَبَهَ.
[15] استنبطها: اخترعها.
[16] ثلاث ليرات: لا ننسى أن كاتب القصة مات قبل الحرب العالمية الأولى، وكان هذا المبلغ في ذلك الوقت مبلغًا باهظًا.
[17] أوعز: أشار.
[18] استدنى: طلب إليه أن يقترب.
[19] أيضًا: سَبَقَت الإشارة إليها كخطأ لغوي منتشر.
[20] علاوة على: إضافة إلى.
[21] أضربْتُ: امْتَنَعْتُ.

رد مع اقتباس

المفضلات